يصرّ بعض الروائيين على مطالبة كتبة السيناريو الذين يتصدون لمهمة تحويل نصوصهم الروائية إلى أعمال درامية (مسلسلات تلفزيونية أو إذاعية، أفلام، مسرحيات) بالحفاظ على روح النص، وإلا اشترطوا على الشركة المنتجة القيام بهذه المهمة بأنفسهم، مع علمهم المسبق بأن شروط إنتاج العمل الدرامي تختلف في طبيعتها عن شروط إنتاج العمل الروائي، سواء لناحية جماعية العمل الدرامي التي تبدأ من رغبة الشركة المنتجة ولا تنتهي عند رؤية المخرج والعاملين معه، أو لناحية اللغة التي يتعامل معها العمل الدرامي المتلفز الذي يتوسل الصورة المتحركة بكل ما فيها من مفردات حسية كحوار الممثلين وأدائهم في الفضاء الذي يتحركون فيه، بكل ما فيه من موسيقى تصويرية وإضاءة وإزياء وغيرها من العناصر الفنية الأخرى.
انتهت مقاربة كاتب سيناريو "عندما تشيخ الذئاب" إلى نسف مقولة الرواية الأصلية لصالح مقولة أخرى لا تمت لها بصلة
على النقيض من ذلك، يجادل بعض النقاد وكتبة السيناريو كما المخرجين بأن العمل الدرامي له طبيعة مستقلة عن النص الروائي، إلى الدرجة التي يحضّون فيها بالخروج على النص الروائي وخيانته، مادام النص لا يشكل سوى عنصر جمالي واحد من عناصر العمل الدرامي، الأمر الذي يجعل من إعادة تأوليه وقراءته من جديد عنصر إغناء لا إفقار، ضاربين بذلك عرض الحائط بالتصور الخرافي عن الجوهر الأصلي أو الروح الأصيلة للنص الروائي التي يقع احتكار فهمها على صاحب العمل وحده.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسل "عندما تشيخ الذئاب".. مآلات درامية تناسب رواية النظام السوري
في تتبعنا لحلقات مسلسل"عندما تشيخ الذئاب" الذي برز في موسم رمضان الفائت، نعثر لدى كاتب السيناريو السوري حازم سليمان على محاولة جرئية للخروج على روح النص الروائي في إطار معالجته الدرامية لرواية الفلسطيني ـ الأردني جمال ناجي "عندما تشيخ الذئاب"، انتهت به إلى نسف مقولة العمل في الرواية لصالح مقولة أخرى لا تمت لها بصلة، دون أن يكلف نفسه عناء تغييراسم العمل الدرامي بما يتناسب مع محتوى التغيير الدراماتيكي الذي أدخله على النص، الأمر الذي أساء لمحتوى النص الأصلي من حيث يدري أو لا يدري، وجعل المقاربة بين السيناريو الذي كتبه وبين النص الروائي أمر لا مندوحة عنه لتتبع عمق الأثر الذي أحدثه سليمان في مقولة العمل الدرامي الذي تشارك في خلقه مع غيره.
يبدو عنوان رواية ناجي وسياق أحداثها منسجمًا مع المصير الذي آلت إليه حياة الشيخ الجنزير "سلوم حداد" في أواخر حياته، مقارنة بمصير الذئب الهرم، ففي مقابل الذئب الهرم المنعزل عن قطيع الذئاب، الذي ينتظر موته جوعًا لأنه لم يعد قادرًا على تأمين حصته من الطعام عبر الصيد مع القطيع، نعثرعلى الشيخ عبد الحميد الطاعن في السن كشخص عازف عن شهوات الدنيا ومباهجها، مستسلمًا بكليته لقدره المحتوم في الموت. إلا أن ناجي المأخوذ بمفهوم العدالة في النص الروائي، لا يتوقف بنا عند حدود المصير البيولوجي للشيخ عبر موته الرباني، بل يأخذنا لمعاينة موته على يد عزمي الوجية "أنس طيارة" جزاءً لما اقترفته يداه من آثام بحق الآخرين.
أما في سيناريو حازم سليمان فلا نجد أي رابط بين شيخوخة الذئاب والمصير الذي انتهى إليه كل من الشيخ الجنزير وتلميذه النجيب عزمي الوجية، بل كل ما نعثر عليه مجموعة من الذئاب المنفردة التي لا تحمل في داخلها سوى الشر المستطير. فاستقرار الشيخ عنده زوجته في الجزائر لا يحمل تقاعدًا من العمل السياسي الشرير الذي كان يمارسه في بلده الأصلي سوريا، بقدر ما يحمل إشارة لنقل ذلك الشر إلى الجزائر حيث كانت تدور هناك رحى صراع مميت بين جنرالات الحكم وجماعات الإسلام السياسي.
تبدو رؤية سليمان للعدالة الروائية غائبة، فمن الذئب الهرم إلى الذئب الشاب عزمي الرسالة واحدة؛ الذئب لا يلد غير الذئب، لا فرق هناك بين أن يكون ذكيًا خبيثًا كعزمي، أو أحمق طائشًا ودمويًا كعمران "محمد حداقي"، الأمرالذي يعجل تحقيق العدالة معقودًا على تدخل رجال أمن النظام، الذين أصبحوا بقدرة سليمان رجال أمن وطنيين من النوع الذي لا تأخذهم بالمسيء للوطن لومة لائم.
يذهب ناجي "في عندما تشيخ الذئاب"إلى الكشف عميقًا عن العلاقة الملتبسة بين السلطة التي يحوز عليها رجل الدين في محيطه الاجتماعي وبين الأدوار المجتمعية المختلفة التي تأهله للقيام بها. فالسلطة الأبوية المبنية على الطاعة التامة التي يتمتع بها الشيخ الجنزير تجاه أفراد عائلته تجعل من محاولات زوجاته لضبط سلوكه الجنسي المتفلت من ضوابط العمر، لناحية رغبته بالزواج من فتيات بعمر بناته، قضاء لا أمل لهن برده، ما دام وضعن في العلاقة الزوجية لا يتعدى وضعية خادمات اللذة وحافظات نسل الرجل أو شرفه الذكوري.
يحاول رجال الدولة ذات السلطة الاستبدادية المفتقدة لكل شرعية الاستئثار بمنافع السلطة وحدهم
في علاقته مع تلاميذه ومريديه لا يدخر الشيخ جهدًا لإحكام قبضته عليهم، سواء عبر سلطته الأبوية أو سلطته المعرفية كإمام وشيخ، الأمر الذي يهيئ له الطريق لتوظيف طاقاتهم الشبابية في معركة تصفية حساباته مع خصومه الأيدولوجيين كأصحاب الأفكار الشيوعية، أومنافسيه من شيوخ المناطق الأخرى الذين يزاحمونه السيطرة على وجدان المؤمنيين وعواطفهم.
اقرأ/ي أيضًا: 5 روايات لجمال ناجي
يحاول رجال الدولة ذات السلطة الاستبدادية المفتقدة لكل شرعية، سوى شرعية القوة والتغلب على الآخرين، الاستئثار بمنافع السلطة وحدهم، لكن حين يكتشفون قوة السلطة المجتمعية لرجال الدين على تعكير صفو تلك السيطرة وإدامتها يضطرون مرغمين للتحالف معهم والقبول بتقاسم منافع سطلتهم معهم، سواء عبر إدراجهم في مؤسسات العمل الحكومي، أو عن طريق فتح أبواب العمل الخيري المنفلت من كل حسيب ورقيب أمامهم.
كروائي متمرس يعالج ناجي شخصية رجل الدين، الجنزير، على نحو درامي، يظهرعمق تشظي الذات الإنسانية بين المدنس والمقدس، فنحن أمام تحولات درامية لشخص آتٍ من القاع الاجتماعي، لديه ندبة أخلاقية كبيرة تتمثل باغتصاب إحدى نساء حارته، الجليلة "سمر سامي" بعد أن أوهمها بالحب وخدعها. شخص ذكي، يوظف مهارته القيادية في السيطرة على الآخرين والانتفاع منهم، دون أن يشعر بأية إدانة إخلاقية على ذلك. رجل منخرط في ملذات الحياة الدنيوية التي من المفترض أن يتعالى عليها كشخص صاحب مذهب صوفي، حائر بين الاستماع لنداء رغابته الجنسية بالاستحواذ على سندس "هيا مرعشلي"، وبين تعففه عن ذلك، لأنه على الضد من شخصيته الكاريزمية التي تأسر الناس لسطوتها لا التي تسقط في أحابيل إغراءاتهم.
على الضد من ذلك كله، يذهب السيناريست حازم سليمان إلى مقاربة رجل الدين في المسلسل من وجهة نظر تلفزيون أبو ظبي الإماراتي، الذي تكفلت إدراته بشراء العمل بعد أن اتفقت مع شركة المخرج الأردني إياد الخزوز على إنتاجه، وهي وجهة نظر تميل لشيطنة كل حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، التي سبق أن اتهمتها بالتآمر على نظام الحكم فيها، كما من وجهة النظام السوري التي تقوم سردتيه الكبرى على تجريم ثورة الشعب السوري بالحرية والكرامة، وردها إلى الإرهاب والتطرف الدينيين.
في مقاربته الفنية لشخصية رجل الدين، يميل سليمان إلى فصم عرى الشخصية الدرامية عن توترات سلوكها اليومي الذي يتأرجح بطبيعته ما بين الخير والشر، وما بين السكينة واللايقين، ليستبدلها بدعاية السلطة السياسية التي تعمل على تنزيه نفسها عن السلوك اللأخلاقي كالكذب لتحمّل وزره لرجال الدين الذين يقولون القول ويفعلون ضده "منذ البداية يكذبون، حتى النهاية يكذبون"، دون أن يشرح لنا كيف لرجل دين أن يكذب أو يرتشي أو يخون الأمانة، لولا لم يجد رجل سلطة يدفعه إلى ذلك ويؤمن له الحماية، وهو الأمر الذي سبق للسوريين معايشته مع سلوك رجال وزارة الأوقاف الذي نجح حافظ الأسد في تعميم الفساد بين ظهرانيهم، كما لو كان صفة خلقية نبتت بين جوانحهم لحظة ولادتهم.
لا يخفى على المرء مقدار الجهد الذي بذله سليمان في السيناريو لتبدو شخصياته الدرامية واقعية وذات بعد عقلاني، إلا إن إصراره على حشر سردية السلطة الأسدية المستبدة عن نفسها على لسان ضابط مخابرتها "بشارإسماعيل" كدولة حامية للكل الاجتماعي لا تضرب بيد من حديد إلا على الإرهابيين الإسلاميين الذين يتهددون بجشعهم وعنفهم السلم الأهلي، يطيح بكل مصداقية وعقلانية حاول طيلة المسلسل إقناعنا بوجودها. فهل حقًا أن سلطة آل الأسد أبقت أي أثر للدولة التي تنهض على فكرة حماية الحقوق المشتركة والمتساوية بين الجميع؟ أم أنها عملت على تعميق الانتماءات الماقبل وطنية كالطائفة والمذهب والأسرة، لتقوم باستثمارها على نحو يؤبد سلطتها الاستبدادية؟
يذهب سيناريو "عندما تشيخ الذئاب" إلى مقاربة رجل الدين من وجهة نظر تلفزيون أبو ظبي الإماراتي
رغبة سليمان المضمرة في خلق صورة نمطية لرجال الدين الإسلامي، على طول وعرض العالم الإسلامي، جعلته لا يقيم اعتبارًا للفروق والاختلافات بين البيئة السورية التي تجري فيها أحداث قصته الدرامية وبين البيئة الأردنية التي تجري فيها أحداث العمل الروائي، إلى الدرجة التي سمحت له بالمطابقة بين عودة المجاهدين العرب في أفغانستان إلى الإردن وعودتهم المتوهمة إلى سوريا التي لم تحدث أبدًا، مُحملين برغبة تغير نظام الحكم العلماني فيها، مع حرصه الشديد على إيجاد روابط عائلية وفكرية لهم مع حركة الإخوان المسلمين التي خاضت حربًا إرهابية ضد النظام الوطني الأسدي.
اقرأ/ي أيضًا: عابد فهد.. انفصام في الموقف وخلط في الأدوار
في المسلسل، لا يلقي سليمان بالًا للفرق بين سطوة رجال الدين في الأردن في تقرير مصائر الحكم والمساهمة في إدامته، جراء تحالفهم العميق مع نظام الحكم الملكي فيه، وبين سطوتهم المفتعلة في نظام الحكم في سوريا، التي لا تتعدى دور الكومبارس في نظام تحتكر فيه مؤسسة الرئاسة الأسدية كل السلطات في الدولة والمجتمع، الأمر الذي يضع عمله الدرامي في خانة الفنانتازيا التاريخية المتخففة من قيود وضوابط كل زمان ومكان، لصالح رجل دين سياسي متغول وسلطة وطنية منزهة عن المنافع الدنيوية وإغراءاتها الشيطانية.
اقرأ/ي أيضًا: