في أربعينيات القرن الماضي، وبعد انتهاء الحرب العالمة الثانية، كانت السينما المصرية قد وضعت ستة عشر فيلمًا مهّدت الطريق لانطلاقة مبهرة في خمسينيات القرن المنصرم، وحققت انتشارًا واسعًا. امتازت هذه الفترة بظهور الطبقة النبيلة المصرية مرفقة بقصورها وعظمتها على الشاشة الفضية. وسيطرت على قصص الأفلام علاقة الغني بالفقير والباشا بالجنانيني.
بعد انتهاء الحرب العالمة الثانية، كانت السينما المصرية قد أنجزت ستة عشر فيلمًا
فتحت هذه الفترة الباب أمام المشاهد المصري العادي باتجاه قصور الطبقة العليا في المجتمع المصري، فبدأ الشارع المصري يتأثر ويتفاعل إيجابًا وسلبًا مع هذه الطبقة. فمن جهة برزت عند البعض نزعة توجه نحو المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة وتعادل الفرص وتحقيق توزع عادل للثروات، وقد قاد هذا التيار بغالبيته طبقة من طلاب الجامعات والموظفين. بينما نزع البعض نحو اعتبار فيلم السينما بما يعرضه من قضايا على أنه خيالي بعيد عن واقع يومياته الكثيفة واكتفى بما يقدمه من ترفيه، وانتمى أكثرية التجار متوسطي الدخل وشريحة معينة من الفلاحين إلى هذه الطبقة، لكن بقيت الأكثرية من المشاهدين تتجه نحو السينما بقصد التسلية وإمضاء وقت جميل، إذ تمتاز طقوس حضور الأفلام بالاحتفالية تأثرًا بأجواء عروض الأوبرا القادمة مع الطبقة الأرسطقراطية من الغرب إلى مصر.
تفاعلت السينما المصرية مع الأحداث الإقليمية السائدة في تلك الحقبة، فمع اقتراب الخمسينيات بدأت بطرح قضايا وطنية واجتماعية تعكس تضحيات شرائح من الشعب. كفيلم "نادية" الذي كان أول فيلم للمخرج فطين عبد الوهاب، و"فتاة من فلسطين" الذي عرض علاقة ودور مصر في الصراع العربي الإسرائيلي. وهنا بدأت تتشكل ملامح الشخصية المثالية في وعي المشاهد المصري، وهي الشخصية التي تحمل جرعات كبيرة من قيم التضحية والوفاء والإخلاص والضمير، وتتمحور غالبية القضايا حول العائلة والوطن، وتتكرر في حالات كثيرة فقدمت للمشاهد أفلام مثل "ليلى" و"قلب امرأة" و"ليلى بنت الريف" الذي طرح علاقة الريف المصري بالمدينة. وفي خضم التمحور حول القضايا الطبقية والسياسية، تطرقت السينما أيضًا بشكل أو بآخر إلى قضايا الشرف والعائلة والفضيحة كفيلم "شمعة تحترق" الذي أثار الجدل في وقته.
مع نهاية الخمسينيات، أصبحت القضايا أكثر تنوعًا وأكثر قربًا من المشاهد، كما بدأ كسر حواجز القضايا الأكثر سرية، وبدت السينما أكثر نضجًا إذ أخذت تتفاعل مع قضايا الشارع وهموم المواطن، بيد أنها لم تخسر من بريق تأثيرها المباشر على الشارع المصري، فانتشرت دور العرض في مصر بشكل كبير، وبدأت السينما تتفاعل مع الرواية في الأدب المصري. ومع بداية الستينيات تبلورت هذه التجربة إذ طرحت السينما المصرية وبقوة عدة أفلام تتمحور حول الرواية داعمة بذلك عدد كبير من كتاب المرحلة، فكان فيلم "اللص والكلاب" المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لنجيب محفوظ، و"لا تنطفئ الشمس" لإحسان عبد القدوس، و"نحن لا نزرع الشوك" ليوسف السباعي.. وغيرها.
تبدل المناخ السياسي العام في مصر أثّر بشكل كبير في صناعة السينما وتوجهاتها. إذ مع تحول مصر من الملكية إلى جمهورية تتبنى الفكر الاشتراكي، تأممت صناعة السينما فأصبحت الدولة الوصي شبه المباشر عليها. وبدأت أطروحات الأفلام تتركز على عدد كبير من القضايا، منها شكل المجتمع الجديد وتوجهاته وأهدافه كما في فيلم "الرجل الذي فقد ظله"، أو الأفلام التي تنتقد الاحتلال والولاء لإنجلترا كما في "في بيتنا رجل".
في الستينيات، أخذت الأفلام المصرية تتناول مواضيع الفقر وأهمية العمل وقيمة الفلاح والأرض
أخذت الأفلام تتناول مواضيع الفقر وأهمية العمل وقيمة الفلاح والعامل، وتنتقد بشدة الطبقة الأرستقراطية والبورجوازية، وقد قاد دعم الدولة لصناعة السينما في ذلك الوقت لعدة إنتاجات ضخمة قد تكون مستحيلة في وقتنا الحالي، إذ شارك الجيش المصري بتصوير فيلم "الناصر صلاح الدين" من إخراج يوسف شاهين، مدعومًا بعدة كتّاب مهمّين كيوسف السباعي وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ.
لم تغفل السينما الجانب الإنساني والكوميدي حينها. فبدأت الأعياد والمناسبات المصرية تمتاز بطقس حضور الأفلام السينمائية، إذ قدمت الستينيات سلسلة من أنجح الأفلام الكوميدية مثل "إشاعة حب"، و"الزوجة رقم 13"، و"نص ساعة جواز"، و"مراتي مدير عام".. وغيرها من الأفلام التى تدور قصصها حول العلاقات الاجتماعية في إطار كوميدي ورومانسي. ومع نهاية الستينيات، بالتحديد في عام 1967، شهدت مصر، كما سواها من الدول العربية، النكسة التي كانت حدثًا مخيبًا وحزينًا جدًا لدى المجتمع المصري.
أخذت السينما وقتًا امتد حتى نهاية السبعينيات قبل أن تطرح أفلام تعالج الخلل المجتمعي والسياسي الذي أدى إلى هذه الهزيمة. فطرحت السينما أفلامًا تعتمد على قصص حدثت في الماضي كفيلم "الأرض" الذي يثني عبر عدة محاور على تكاتف الفلاحين في وجه الظلم، وهو ما كان متناسبًا مع شكل المرحلة وتوجهاتها. ثم أتى فيلم "الرصاصة التي لا تزال في جيبي" ليطرح رؤية حول الهزيمة التي أدت إلى العودة إلى الذات ومراجعة النفس، وأخيرًا "النصر" في 1973.
وجاءت أيضًا محاولة من المخرج محمد راضي لتناول محور المسؤولية حول الهزيمة في فيلم "وراء الشمس"، لكن يبقى فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" التجربة الأكثر نضجًا وتألقًا، وهو عن قصة حقيقية في كتاب "حوار خلف الأسوار" للكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي.
مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، كان قد صار لدى السينما المصرية مخزون كبير من القضايا والأفلام بشكل مهّد الطريق نحو المجددين في صناعة السينما. وظهر تيار من المخرجين اعتمد الواقعية والخروج عن السائد في صناعة السينما. فكان فيلم "العار" و"وكالة البلح" مثلًا من الأفلام المصرية التى قدمت تفتت العائلة والمجتمع, إذ استشرى الفساد في كل القطاعات العامة، وبدأ تيار الأفلام التي تعالج قضايا اجتماعية في لعب دور مهم لمحاربة ما يسمى بأفلام المقاولات في تلك المرحلة. فخرجت إلى النور أعمال بارزة مثل: "ليلة القبض على فاطمة"، و"خرج ولم يعد"، و"الهلفوت"، و"أحلام هند وكاميليا".. وغيرها من أفلام المرحلة المهمة، وامتد هذا التأثير إلى التسعينيات فكان "كابوريا" و"البيضة والحجر".
بدأت بعض الإنتاجات المصرية تصل إلى التصنيف العالمي كفيلم "فرش وغطا" الذي تمحور حول أحداث الثورة المصرية
في التسعينيات كانت قضايا وإشكاليات المجتمع المصري قد ازدادت تعقيدًا، إذ شهدت مصر عدة ظواهر جديدة على المجتمع كالإرهاب وتجارة المخدارت المنظمة والمدعومة من الخارج، فكان تأثير المجتمع على السينما قويًا في إنتاج الأفلام التي تتمحور حول هذه القضايا مدعومة من الدولة التي فضلت أفلام تنتقد بشدّة التيارات السياسية الإسلامية لفترة طويلة من الزمن فكان فيلم "الإرهابي" و"الإرهاب والكباب". وفي نهاية عقد التسعينيات أنتج فيلم "أرض الخوف" وهو فيلم غاية في الأهمية من حيث البناء الدرامي والحبكة من جهة، وقوة القضية وطرحها من جهة أخرى، إذ يعد من الأفلام النادرة التي عالجت الفساد الاجتماعي والخدمي ضمن قصة ذكية ومحكمة.
تعدّ السينما المصرية حتى هذه اللحظة الأغزر إنتاجيًا في الوطن العربي، وقد مرّت بمراحل عديدة، وهي بلا شك علامة فارقة في تاريخ صناعات مصر الحديث. ولا تزال في هذا المرحلة تتأرجح دون تحديد الهوية الكاملة والنهائية، لكن بدأت تصل في بعض الإنتاجات الى التصنيف العالمي كفيلم "فرش وغطا" الذي تمحور حول أحداث الثورة المصرية، وأصبح للشباب الجديد غير المعروف محاولات سينمائية عديدة لكسر النمطي والسائد في هوية السينما المصرية.
اقرأ/ي أيضًا: