لطالما حاول العاملون والباحثون في مجال الصحة النفسية والذهنية تحديد آثار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على المراهقين والشباب الصغار، وظل الغموض حاضرًا في تفسير التباين بين الأفراد في هذه الفئات فيما يتعلق بسلوكهم على هذه المنصّات، بين من يقع ضحيّة لها في علاقاته وأنماط سلوكه، وبين آخرين يثبتون قدرة أعلى على مقاومة أثرها السلبي.
إلا أن ثمة أبحاث جديدة تقترح وجود علاقة معتبرة بين الطفولة المبكّرة والعلاقات التي أنشأها الطفل مع مقدمي الرعاية له في تلك الفترة، وطبيعة السلوك على وسائل التواصل الاجتماعي إضافة إلى العلاقات الحقيقية مع الآخرين. إذ يرى الباحثون أن الأشخاص الذين يملكون قدرة أدنى على التحكّم بسلوكهم على وسائل التواصل الاجتماعي، هم عادة أولئك الذين حرموا من فرصة تشكيل وشائج صلّة وثيقة تتّسم بالثقة في طفولتهم.
الدكتور فيل ريد، عميد كلية علم النفس في جامعة سوانسيا في ويلز البريطانية، استعرض نتائج هذه الأبحاث في مقال صدر مؤخرًا، وأشار إلى أن حرمان الشخص من تشكيل العلاقات الصحيّة مع محيطه الأساسي في الأسرة وانعدام وجود شعور الثقة والأمان على مستوى العلاقات الأسريّة يدفعه إلى البحث عن البديل في وسائل التواصل الاجتماعي.
إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي تعجز في الواقع عن توفير فرصة لبناء علاقات وثيقة وعميقة، وهذا ما يجعل مثل هؤلاء الأشخاص أكثر وحدة وقلقًا، حين يتوجهون إلى وسائل التواصل الاجتماعي بحثًا عن حلّ، دون أن يعثروا عليه، فتتفاقم الخيبة لديهم. ثم يغريهم سحر منصات التواصل الاجتماعي بالاستمرار بالبحث، ويظلون عالقين في حلقة مفرغة ومنهكة نفسيًا، وبلا أي جدوى.
ثمة أبحاث جديدة تقترح وجود علاقة معتبرة بين الطفولة المبكّرة والعلاقات التي أنشأها الطفل مع مقدمي الرعاية له في تلك الفترة، وطبيعة السلوك على وسائل التواصل الاجتماعي إضافة إلى العلاقات الحقيقية مع الآخرين.
يشير الدكتور فيل إلى سهولة السقوط في هذه الحلقة، حتى بين الأصحاء نفسيًا ممن عاشوا طفولة جيدة. فكثير من الفتيات مثلًا تحدثن إلى الباحثين عن أثر وسائل التواصل الاجتماعي عليهنّ في مفاقمة الشعور بالوحدة، خاصة أثناء الجائحة، وهو ما يتسق مع أبحاث داخلية قامت بها بعض منصات التواصل الاجتماعي داخليًا، والتي أكّدت الأثر النفسي والذهني الضار لاستخدامها على نسبة ليست قليلة من المستخدمين اليافعين، وبالأخص بين الإناث، وهو تقرير تناولناه في تقرير سابق على التراصوت.
قلق أم نزعة انطوائية؟
بالنسبة للعديد من المستخدمين الشباب، فإن فرط استخدام منصات التواصل الاجتماعي قد يكون مؤشرًا إلى حالة نفسية أكثر تعقيدًا من مجرّد مقاومة الشعور بالوحدة، وذلك بحسب أديلا تشين، أستاذة علم أنظمة المعلومات الحاسوبية في جامعة كولورادو الأمريكية، والتي درست العلائق بين الطفولة المبكّرة وأنماط استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
تقول تشين: "الأشخاص الذين يعانون من مشكلة تقدير الذات في العلاقات يميلون إلى الخوف من الهجران والرفض بشكل أكبر، ويسعون أكثر من سواهم وراء القبول والإعجاب من الآخرين". وهذا النمط القائم على وسائل التواصل الاجتماعي، والمتعلق بعدد المتابعين والإعجابات الرقمية، قد يخلق وهمًا بوجود علاقة واتصال مع الآخرين الذين يستحسنون ما نقوم به أو نكتبه أو نقوله.
وهذه الدراسات الجديدة تعتمد في أساسها على "نظرية الارتباط" (Attachment Theory)، وهي مفهوم نظري في علم النفس يشار إليه أحيانًا أخرى باسم "نظرية التعلّق"، وقد برز في خمسينات القرن الماضي، وتسعى إلى شرح كيفية تأثير التجارب العاطفية المبكّرة على بناء العلاقات الشخصية وطريقة مقاربتها. إذ ترى النظرية أن شرط بناء وتطوير علاقات اجتماعية وحميمية صحية للفرد مع الآخرين، فإنه من الضروري أن يحظى هذا الفرد في طفولته بعلاقة قويّة أساسها الثقة والأمان مع ذويه.
فحين يكون الأب أو الأم حاضرين في حياة الطفل إيجابيًا، بحيث يظهران له التقدير لمشاعره واحتياجاته العاطفية، ويتواجدان أحدهما أو كلاهما حين يدهمه الخوف أو الوحدة، فإن هذا الطفل بحسب هذه النظرية يكون أكثر قدرة على بناء علاقات صحيّة مع الآخرين في المستقبل، وذلك لأنه غالبًا ما يكون أكثر ثقة بذاته، وأقدر على إدارة مشاعره وضبطها، إضافة إلى قدرته الأعلى على التعامل مع الضغط والشعور بالأمان وتقدير المساحة المناسبة بينه وبين الآخرين في دوائر العلاقات التي يدخل إليها.
أما في حال حرم الأطفال من هذه العلائقيّات الآمنة المبكّرة في المنزل، فإن آثار ذلك قد تتباين في المستقبل، بين طفل وآخر. فالبعض قد يطوّر شخصية قلقة تسعى دومًا وراء إعجاب الآخرين والقرب منهم، بينما يطوّر البعض سلوكًا عكسيًا، إذ تتضخم لديه حاسة عدم الثقة بالآخرين، إضافة إلى تضخّم الاعتماد على الذات والاستقلال بها.
وبحسب علماء النفس، فإن نمط التعلّق والارتباط لدى الشخص يتأسس في سنّ الثانية، لكنّه قد يتطوّر، سلبًا أو إيجابًا، مع الزمن، وبحسب التجارب الأخرى التي يمر بها هذا الطفل في حياته.
كيف تصنّف نفسك؟
أجرت الدكتورة تشين دراسة على أكثر من 300 طالب وطالبة في المرحلة الجامعية ممن يستخدمون فيسبوك بشكل يومي، حاولت تقييم نمطهم العلاقات لديهم وسلوكهم على وسائل التواصل الاجتماعي. طلبت تشين من المشاركين في الدراسة الإجابة، بنعم أو لا، عن عبارات من قبيل: "أحيانًا أهمل الأشياء المهمة بسبب الاهتمام بفيسبوك"، و"فشلت محاولاتي في الحدّ من الوقت الذي أقضيه على وسائل التواصل الاجتماعي". وقد لاحظت الباحثة أن الطلبة الذين قالوا بأنهم يعانون بشكل كبير من إدارة استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي هم أنفسهم الذين كان تقييمهم أدنى على مستوى التعلّق القلق (anxious attachment).
ثمة دراسة أخرى أجريت في جامعة "أوزيغين" التركية وتوصلت إلى نتائج مشابهة، وهي دراسة استهدفت طلبة الجامعات كذلك. إلا أن هذه الدراسة قد حاولت تقييم ذوي الطلبة أيضًا، ووجدت أن القلق على مستوى تشكيل العلاقات في المنزل قد يؤثر ولو بشكل غير مباشر على نمط استخدام الطفل لوسائل التواصل الاجتماعي والتعلق المفرط بها.
وبالإضافة إلى الأسئلة التي تطرقنا إليها أعلاه، ثمة أسئلة إضافية (أسئلة نعم/لا) يهتم بها الباحثون، من مثل: "أشعر بالراحة عند مشاركة أفكارك ومشاعرك الخاصة مع شريكك العاطفي؟"، أو "أشعر بالقلق من نظرة شريكي إليّ وإن كان يحبني فعلًا". إن كنت ترغب في معرفة نمط العلاقة لديك، يمكنك الآن الإجابة على الاستبيان على هذا الرابط (باللغة الإنجليزية)، والذي سيقدّم لك تقييمًا عامًا يساعدك على تحديد موقعك على طيف التعلّق، وهو تقييم طوّره أستاذ علم النفس الأمريكي آر كريس فرالي، من جامعة إلينوي.
هل يمكن إصلاح ما مضى؟
لا يمكن بطبيعة الحال العودة إلى الماضي وتغيير تجاربنا العاطفية في المنزل ونحن أطفال. إلا أنّ هذا لا يعني أن عاداتنا في بناء العلاقات مع الآخرين أو على وسائل التواصل الاجتماعي هي أمر محتوم وغير قابل للتغيير، أو أننا كبالغين كبار قد دمّرنا حياة أطفالنا إلى الأبد لأنها لم تكن مثالية في بعض الأحيان. إلا أن علماء النفس يقدمون بعض النصائح الأساسية:
- للأشخاص الراغبين في تغيير سلوكهم على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الطريقة الأفضل لفكّ التعلّق المفرط بها بحثًا عن العلاقات تتمثّل في الشروع بالبحث عن علاقات حقيقية ذات معنى مع الآخرين وليس عبر المنصات الرقمية بالضرورة. وقد يكون من الضروري لدى البعض مراجعة مختص نفسي. قد يكون من الضروري بطبيعة الحال النأي بالذات قليلًا عن منصات التواصل الاجتماعي لبعض الوقت، وذلك بحسب نصيحة خبراء الصحة الرقمية. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من التفكير بأنشطة أخرى، مثل البقاء خارج البيت لوقت أطول، والانخراط في أنشطة تعليمية أو ثقافية، أو ممارسة الرياضة والأنشطة التطوعية، أو ممارسة التأمل أو وضع خطّة للقراءة. كل ذلك يساعد في ضبط التعلق المفرط بالوجود الرقمي على السوشال ميديا.
- للآباء الجدد: تذكروا أن العدو الأكبر للتربية هو القلق، وهذا ما يؤكده الدكتور فيل ريد من جامعة سوانسيا، والذي يقول إن قضاء وقت نوعيّ مع طفلك، بحيث تكون متنبهًا لاحتياجاته وانفعالاته، أفضل بكثير من التربية متدنّية المستوى، التي تنقضي بنصف حضور ونصف اهتمام. هذا يتطلّب وجود والدين متعاونين، أو شبكة دعم للأب أو الأم، مثل الجدّين، وذلك كي يستطيع الأب أو الأم تجديد الطاقة بين فينة وأخرى، بما يضمن الاستمرار في هذا النمط الإيجابي من التربية والتواصل مع الطفل. كما ينصح الدكتور ريد، وآخرون، بضرورة أن يتجنب الآباء والأمهات الالتصاق بشاشة الهاتف أثناء التواجد مع الطفل والتواصل معه، وذلك كي يشعر الابن أو البنت بأن له الأولويّة في الحضور والاهتمام والرعاية.
- للآباء الذين لديهم أطفال أكبر سنًّا: إن كنت تخشى من أنك لم تكن تستجيب لاحتياجات طفلك العاطفية بالشكل الكافي وهو صغير، فما زالت لديك الفرصة لكي تزرع فيه بذرة الأمان، وهو ما تقترحه الدكتورة غيزم أريكان، وهي أستاذة علم النفس في جامعة أوزيغين التركية.
