09-أكتوبر-2024
توقظ الغارات الإسرائيلية الحالية صدمات نفسية قديمة لدى اللبنانيين (AFP)

(AFP) توقظ الغارات الإسرائيلية الحالية صدمات نفسية قديمة لدى اللبنانيين

بعدما أنهكتهم الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالبلاد، يجد اللبنانيون أنفسهم مرة أخرى تحت رحمة الحرب التي تلقي بظلالها على صحتهم النفسية، وجعلت العديد منهم لا يقوى على تحمل هذا الضغط.

يلخص رسم كاريكاتوري واقع الأزمة التي يعيشها اللبنانيون ويراكمونها منذ الانهيار الاقتصادي عام 2019، إذ يرسم اللبناني، برنار حاج، صورة على شكل قالب حلوى من طبقات عدة، تمثل كل واحدة منها محنة: الانهيار الاقتصادي، وباء كوفيد، انفجار مرفأ بيروت، الأزمة السياسية، اكتئاب جماعي، وتأتي الحرب لتشكل حبة الكرز التي تزين أعلى قالب الحلوى.

يلخص رسم كاريكاتوري واقع الأزمة التي يعيشها اللبنانيون ويراكمونها منذ الانهيار الاقتصادي عام 2019،

تصف المعالجة النفسية، كارين نخلة، لوكالة "فرانس برس"، تلك التراكمات بأنها "صدمات جماعية متلاحقة لم تتوقف أبدًا". تعمل نخلة كمسؤولة في منظمة "إمبرايس"، التي تعنى بالصحة النفسية وأنشئت عام 2017، للحد من الانتحار، ويتلقى العاملون في المنظمة اتصالات على مدى 24 ساعة في اليوم، وسبعة أيام في الأسبوع.

ومنذ بدء "إسرائيل" عدوانها الشامل على لبنان في 23 أيلول/سبتمبر الماضي، ازدادت الاتصالات الواردة الى مركز المنظمة. وتقول نخلة، إنهم "يتلقون حوالي خمسين اتصالًا يوميًا من أشخاص تحت الصدمة، يعانون من الهلع. كثر منهم يتصلون من مناطق تتعرض للقصف، يتساءلون فقط ما الذي ينبغي عليهم فعله".

وأدت الهجمات الاسرائيلية على جنوب لبنان وشرقه وعلى ضاحية بيروت الجنوبية، إلى استشهاد أكثر من 1100 شخص خلال أسبوعين، ونزوح أكثر من مليون شخص في أنحاء مختلفة في لبنان، وفق الأرقام التي قدمتها السلطات اللبنانية.

ونزح إلى بيروت عشرات الآلاف من العائلات اللبنانية، وهو ما جعل المشهد في العاصمة اللبنانية يتغير سريعًا في غضون أيام.  فقد امتلأت بالنازحين في مراكز الإيواء الموقتة، أو لدى أقارب أو شقق مستأجرة، إضافة إلى زحمة سير خانقة في شوارعها، كما تصف "فرانس برس" المشهد.

وخلال ساعات الليل، تجبر سلسلة من الغارات الإسرائيلية التي تستهدف الضاحية الجنوبية سكانها على الفرار، بالتزامن مع دوي انفجارات ضخمة، تهتز على وقعها المباني وتندلع الحرائق.

توقظ هذه الغارات مجددًا في نفوس اللبنانيين صدمات نفسية قديمة وجديدة، بينها انفجار مرفأ بيروت صيف 2020، وحرب تموز/يوليو 2006، والحرب الأهلية اللبنانية الدامية بين عامي 1975 و1990.

تشير "فرانس برس" إلى أن القلق يتخطى المناطق التي تحولت إلى ساحة حرب، بل ينتقل إلى مدنيين أصبحوا يشعرون بالخوف وهم بعيدون عن خطوط النار.

تقيم ريتا باروتا، البالغة من العمر 45 عامًا، قرب مدينة جونيه ذات الغالبية المسيحية شمال بيروت، والتي تعتبر مدينة هادئة، إذ لا تسمع هناك أصوات الغارات. لكن رغم ذلك، تقول باروتا، وهي أستاذة جامعية: إنها "لا تجد كلمات لوصف ما يجري الآن"، وتضيف: "لا أعرف الشخص الذي كنته قبل 15 يومًا، الأكل والنوم والاعتناء بنباتاتي، كل ذلك لم يعد موجودًا"، وتتابع: "لقد أصبحت شخصًا آخر، كل ما يهمني الآن هو كيف يمكنني أن أقدم يد العون". 

وعبر هاتفها، تنهمك باروتا ليلًا نهارًا في البحث عن مأوى لأشخاص باتوا على الطرقات، ولترشدهم نحو مراكز إيواء يلجأون إليها، أو لتوفير أدوية تنقصهم، وتروي الأستاذة الجامعية حالتها، بالقول: "حين أتوقف عن العمل لخمس دقائق، يراودني شعور بالفراغ التام"، معتبرة أن مساعدة الآخرين هو السبيل الوحيد لتجنب الشعور بأنها "منهكة ومذعورة". 

وترى باروتا، التي كادت تفقد والدتها في انفجار مرفأ بيروت، وتحتفظ بذكريات حية عن حرب 2006، أن "ما يحدث اليوم ليس مجرد إيقاظ لصدمة قديمة، بل شعور هائل بالظلم"، وتتساءل: "لماذا نعيش هذا كله؟ لا أعرف ما إن كان ذلك الضربة القاضية". 

وتفيد دراسة أعدتها منظمة "إدراك" غير الحكومية عام 2022، ونشرتها في أيلول/سبتمبر، أن ثلثي اللبنانيين على الأقل يعانون من اضطراب نفسي، ويصف رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى "أوتيل ديو" في بيروت، رامي بو خليل، الوضع الحالي بالقول: "لسنا بخير جميعًا، بشكل أو بآخر"، من اكتئاب وقلق واضطراب ما بعد الصدمة. 

ويضيف بو خليل: "لدى اللبنانيين قدرة خارقة على الصمود"، لافتًا خصوصًا إلى "الدور الذي يلعبه الدعم العائلي والمجتمعي والديني"، ويشرح ذلك بالقول: "نتعامل مع ظاهرة تراكم التوتر، الذي يجعل الكأس يفيض"، ويتابع: "لسنوات ونحن نحشد مواردنا الجسدية والنفسية والمالية. الآن، لم يعد الناس قادرون على التحمل".

ويعرب بو خليل عن قلقه لرؤية مرضى يتطلب وضعهم الدخول إلى المستشفى لكنهم عاجزون عن ذلك لأسباب مادية، وآخرون يتدهور وضعهم لأنهم غير قادرين على تحمل مزيد من الصدمات، ويلاحظ الطبيب النفسي زيادة في تناول الحبوب المنومة، يقول: "يريد الناس أن يناموا، ومن الأسهل تناول الأدوية عندما لا يتوفر لديهم المال أو الوقت لاستشارة الطبيب".

بدورها، تلفت نخلة أيضًا إلى أن "كثرًا لا يستطيعون الوصول إلى خدمات الصحة النفسية"، مع وصول كلفة الاستشارات النفسية الخاصة الى قرابة 100 دولار، وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى شريحة واسعة من اللبنانيين. وفي المقابل، تتراوح فترة الانتظار للحصول على استشارة مجانية في جمعية "إمبرايس" بين أربعة إلى خمسة أشهر. وتشدد نخلة هنا إلى أن الحاجة الآن للخدمات النفسية هي أكبر من أي وقت مضى.