في عام 1986، قدّم المخرج المسرحي المصري سمير العصفوري عرضًا مسرحيًا بعنوان "العسل عسل والبصل بصل"، استنادًا إلى نصوص شعرية للشاعر بيرم التونسي، وكان العرض مزيجًا بين عدد من مقامات بيرم وأغانيه في رؤية مسرحية لها خصوصيتها، حيث يقوم كل ممثل بتجسيد أكثر من شخصية، تبعًا للموقف والاسكتش التمثيلي الذي يقدّم قضية مختلفة في كل مرة. نجحت التجربة كثيرًا واستمر عرضها على مسرح الطليعة طوال 4 سنوات حتى عام 1990، وقام ببطولة العروض آنذاك عدد من الوجوه الجديدة وقتاك، منهم أحمد حلاوة وزايد فؤاد ويوسف رجائي وماهر سليم، بمشاركة المطربة سهير حسين والمطرب الأوبرالي ممدوح قاسم وقام الفنان علي سعد بتأليف الموسيقى والألحان.
عرض "العسل عسل والبصل بصل" مسرحي مستلهم من مقامات الشاعر بيرم التونسي
لم يكتب بيرم التونسي مسرحية بهذا الاسم من الأساس، لكن يوجد جملة شعرية له تفسّر معنى الجملة التي يتخذها العرض المسرحي عنوانًا له، حيث تناول في شعره التزييف والعبث بالحقائق، فالشمس شمس والأرض أرض ولا يمكن خلط الأوراق ببعضها البعض، وذلك الشطر الشعري هو المفتاح الرئيسي للعمل، فهو خليط متكامل من أشعار بيرم ومقامات منسوجة بالشعر، تحمل إسقاطات سياسية صالحة لأزمنة مختلفة.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا تفصيح اللحظة الشعبية في المسرح؟
بعض النقاد وصفوا مسرحية "العسل عسل والبصل بصل" حين عرضها لأول مرة بأنها عرض شعبي مصري، لا يحمل صراعًا أو عقدة درامية ولا يتبع المنهج التقليدي من بداية ووسط ونهاية، بل هو صراع عام للوطن ككل. هذه الرؤية تحديدًا هي ما استرعت انتباه المخرج إميل شوقي الذي قرّر العودة مؤخرًا إلى النصّ الذي استلهمه سمير العصفوري من مقامات بيرم التونسي، لتقديمه من جديد على المسرح الكوميدي، كاشفًا عن فرادة وريادة شاعرية بيرم السابقة لعصرها. فالمخرج يرى أن الظروف الحالية تشبه الظروف التي قُدّم فيها العمل لأول مرة منتصف الثمانينات، ورغم أن بيرم التونسي كتب نصوص العمل قبل ذلك التاريخ بأكثر من 60 عامًا، فإنه امتلك رؤية وبُعد نظر مكّناه من استقراء المستقبل، فقد كان مهمومًا بالوطن ومشكلاته وقضاياه وموقع الفرد منها، ودفع ثمن إيمانه وقناعاته بما يكتب سنوات من عمره قضاها في المنفى.
وتتناول النسخة الجديدة من مسرحية "العسل عسل والبصل بصل" عددًا من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي يعانيها المجتمعان المصري والعربي، وذلك في إطار كوميدي غنائي ساخر مُحدّث يتناسب مع العصر الحالي، حيث تتضمن مقامات بيرمية جديدة لم تقدم في العرض الأول، وتقدم رؤية جديدة يمكن إسقاطها على الوضع في المنطقة بعد انتفاضات الربيع العربي. وهكذا، يتابع مشاهدي العرض اسكتشات حول قضايا مجتمعية واقصادية، مثل غلاء الأسعار والفقر والتحايل على الدين وتدهور الصحافة وانتشار ثقافة الجهل، بالإضافة إلى اسكتش بعنوان "مدرس الجغرافيا" استحدثه المخرج إميل شوقي للحديث عن إعادة ترسيم خريطة العالم العربي، مسقطًا بعض التفاصيل التي تشير إلى تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية.
من المفترض أن تفاصيل العرض تحيلنا إلى أحداث وحكايات عن مصر المحروسة في زمن ثورة 1919، وهو عام كتابة مقامات بيرم التونسي، حيث الاحتلال الإنجليزي والنظام الملكي المحافظ والشعب المقهور بالجوع والفقر. وتبلورت هذه الحالة عبر الأداء الغنائي المحمّل بدلالات الاشتباك مع وقائع الأيام الحالية، كذلك استُخدمت الملابس المعبرة عن تلك الفترة، خاصة الطربوش، وأيضًا الديكور المطعم ببعض الموتيفات الصغيرة كالبيارق والخيامية والفوانيس، وذلك الصندوق القديم الذي لم يخل بيت مصري منه، حيث تحتفظ الأسر بأشيائها الثمينة والعزيزة، وقد كُتب عليه "موروثات بيرم التونسي"، في كناية عما بداخله من كنوز استحقت أن تخلَّد وتحيا بيننا كل هذا الزمن.
لم يكتف إميل شوقي بإعادة تقديم التجربة مسرحيًا، بل أضاف إليها بعض العناصر ساهمت في إنجاحها وإعادة المسرح الكوميدي لرفع لافتة "كامل العدد" من جديد على أبوابه. وباعتماده على الأسلوب التعليمي لمسرح برتولد بريخت وكسره للحاجز النفسي، استطاع شوقي أن يلغي الحدود الفاصلة بين خشبة المسرح والجمهور، لتصبح الصالة جزءًا أساسيًا من الحالة المسرحية، بما يتفق مع فلسفة العرض. لذلك كان وجود الموسيقار حاتم عزت، مع العازفين والكورال، في مقدمة الصالة مع الجمهور لمحة جمالية دالة، وكذلك كان وجود الفنان التشكيلي الذي يرسم شخصيات هذه التجربة إضافة تجريبية تكسر الإيهام وتثير التساؤلات وتحتفظ بحيوية اللحظات.
يمزج مخرج النسخة الجديدة من "العسل عسل والبصل بصل" زمننا بزمن ثورة 1919
ومع توالي المشاهد الكوميدية، ندخل عالم السياسة ودهاليزها، فالفلاح المصري الشهم يروي عما يحدث في الانتخابات، ويظلّ معذبًا بالتساؤلات عن بلده الغريب الذي "يزرع القمح في سنين، ويطلع القرع في ثواني". والمصري، كريم العنصرين، نراه المعذب دومًا بالفقر والحصار والخلافات الدائمة بين الحكومة والمعارضة والصحافة، وعبر التقاطعات اللاهثة نلمس تفاصيل الإدانة لتزييف العقائد والقيم وغياب الانتماء وخيانة الوطن. ويحضر أيضًا المواطن العربي من خلال صوت المطرب التونسي لطفي بوشناق، الذي يغني 3 أغنيات مرتبطة بالواقع، من خلال الشاشة السينمائية الموجودة على خشبة المسرح، في محاولة للجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهو ملمح مسيطر على العرض بكامله، فطوال الوقت يؤكد المخرج أنه ليست المشكلات والقضايا التي يعانيها المصريون وحدهم ما تتصف بالديمومة، بل إن بيرم التونسي ما زال يحيا بيننا.
اقرأ/ي أيضًا: محمد صبحي الذي كنت أحبه
كل هذا يتبلور عبر رؤية درامية رشيقة تستفيد من حيوية النصّ الأصلي ورحابة توظيف التقنيات الحديثة، تخدش أعماق المتلقي الذي يدرك تمامًا معنى كلمات بيرم وهو يقول: "عطشان يا صبايا/ عطشان يا مصريين/ دموع العين ما تطفي/ نار القلب الحزين".
اقرأ/ي أيضًا: