المراحيض العمومية ابتكرت لكي يقضي البشر ساعاتٍ طويلة ليفرغوا فيها الأفكار التي لا يرغب أحد أن يسمعها، أو يراها.
لو أعطينا مفاتيح هذه المراحيض لأغلقنا عليهم أبوابها لنهاية هذا الفيلم الطويل.
تسخر منّا قدراتنا حين نحتاجها ولا نجدها، وتسخر أكثر حين تنتظرنا ولا نستغلها، ويتخذ الندم حماس ركلة الجزاء الأخيرة، وهي التي يتحكم بمصيرها الجمهور، وليس اللاعب الأفضل في الفريق، أو قرار المدير الفني في آخر لحظة.
نستطيع القيام بما نرغب حين تتفق العقارب على موعد لتلتقينا، وهذه المواعيد عادةً ما تحمل سُمًّا كافيًا ليقتل قبيلة كاملة إن اهتز الذيل بسرعة.
تُغرينا البدايات فنركض، ثم نرمي كرت الملل في منتصف روتين ما هو قادم لنراهن على ما لا نعرف، فنبدأ مرّة أخرى.
رائحة الخراء التي تنتظرنا حين نمر قرب محطات تكريرها لا تمثل ما أكل البشر وشربوا، بل ما ألقوا علينا من مقترحات مَغصت أمعاءنا ودعتها لتسريع عملية تصريف ما فيها، مقترحاتٌ سَهَلت عملية التحويل العضوي.
*
مع تقدم العلم والطب والتكنولوجيا، لربما من الأفضل إجراء صورة طبقية لكل مولود متوقع لنتأكد من أن كل عضوٍ فيه في مكانه الطبيعي، فلا طاقة لنا للتعامل مع رؤوسٍ تُغطّي مؤخرات.
*
لا يهم اللون أو اسم المستشفى ولا أصل القابلة ولا حتى تاريخ الأب والأم، ومعاناة الطبيب المقيم أثناء دراسته التي يحاول أن يستشفي منها على مرضاه ستظلُ معركة مؤجلة سنخوضها حين نقرر ذلك.
*
تختلط الألوان الأساسية لتخلق لونًا جديدًا نعجب به، ولا نأبه بالنسبة المئوية التاريخية التي كانت سببًا لفرحنا حين دخلنا الغرفة التي سنسلم فيها أجسادنا – ولو مؤقتًا- لنومٍ لا نضمن نهايته.
تحليل ذلك الشعور ـ الفرح ـ يعود إلى تسليمنا لنتائج التاريخ، لكن التاريخ، لغاية هذه اللحظة، لم يكن منصفًا لنؤمن به، فدعتنا حواسّنا إلى انتقاده والعودة إليه.
نموتُ مرّات كثيرة قبل موتنا الأخير.
حين تهرب التعابير، نموت.
حين تَقلُّ حيلتنا.
حين لا نعثر على الإجابة المناسبة.
حين لا نُلمُّ بتاريخنا.
حين ننكرُ حقّنا.
حين نستقوي.
حين نعجزُ عن صدِّ الخراء الموجه لنا.
نموت قبل أن نموت،
في اللحظة التي نعصر فيها قبضتنا التي تَتَفركُ لِتَلكُم،
تَلكمَ ذلك الذي استبدل فمه بمؤخرته،
تلكمُ ما لُقّن وحُفِّظَ بأن أبيضَ بشرته يعطيه الحق بأن يراك لا شيء، أو ألا يراك تمامًا.
*
لكن، وهذه جمالية الأيام؛
لم يكن يخطر في بال هذا المارق أن قراراته التي اتخذها تلك الليلة سترميه أمام من يعرف، ومن يستطيع.
*
نحن لسنا نحن حين ظنّوا أنهم الأفضل.
نحن لسنا نحن إن مُنحنا فرصة للمواجهة.
*
كل شيء رخيص إن كان مقابله مالًا.
كل شيء لا يعني شيئًا إن كان الثمن ما نؤمنُ به.
*
عودة إلى المراحيض؛
لا أحد يأبه بالعقد المبرم بين الخراء وبين الشركة المسؤولة عن جمعه والتخلص منه، لكني أتعاطف مع ذلك الموظف الذي يضطرُ لقراءة كل هذا الوصف، فيشيرُ لي وهو يلقي ما كان في طريقه، بإبهامه البُني،
لك الحق.
هذا الخراء الأبيض الذي عشت معه، سيظلُ أبيض.
لكن الحقيقة واضحة ومعروفة.
وهم، ربّما بعضهم، يعرفون أيضًا.
لكنهم أجبن من المواجهة.
*
نُصرّف الخراء دون أن نراه عادةً لنحترم كرهنا لرائحته.
*
سنخوضُ آخر معاركنا،
تلك التي ستفصل بين قرار استدعاء المختص بإرسالنا إلى الله، ورغبتنا في قول ما نريد.
سنشعر بها، سنعيشها، وسنتحالفُ مع مقاومة رُقع البلاط الزائف لكي يؤخر ثانية الرحيل لنعيش سعادة الحقيقة وهي تزيل كل هذا الزيف الذي يغطي وجه هذا العالم.