ألقت الوثائق الأمريكية الاستخباراتية المسرّبة مؤخرًا الضوء على العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة والمجر، وهما دولتان حليفتان في حلف شمال الأطلسي "الناتو". وبحسب الوثائق المسربة، فإن مصدر التوتر لا يقتصر على وجود حكومة يمينية في بودابست والعلاقة الروسية المجرية المثيرة للريبة بالنسبة للولايات المتحدة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى الحد الذي زعزع ثقة واشنطن بدولة حليفة في الناتو تتخذها موسكو منصة تجسس وتهديد لجيرانها الأوربيين عمومًا، وللشعب المجري خصوصًا بحسب الأمريكيين، الأمر الذي دفع وزارة الخزانة الأمريكية إلى فرض عقوبات طالت كيانًا في المجر ومواطنين مجريين على صلة بالكيان الذي تعتبره واشنطن منصة تجسس لروسيا.
اعتبرت الوثيقة السرية المسربة أن ما تقوم به المجر تجاه الولايات المتحدة يشكل تصعيدًا لمستوى الخطاب المعادي لأمريكا في خطاب فيكتور أوربان وتوجهات حكومته
فبحسب إحدى الوثائق الأمريكية المسرّبة، حدد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الولايات المتحدة كـ "واحدة من الخصوم الثلاثة الأوائل لحزبه في العالم"، وذلك خلال جلسة "استراتيجية سياسية عُقدت شهر شباط/ فبراير الماضي"، بالإضافة إلى توجه حكومة المجر إلى التدخل في الشأن السياسي الداخلي الأمريكي من خلال دعم أسماء يمينية في الولايات المتحدة.
وقد اعتبرت الوثيقة السرية المسربة أن هذا التوجه بمثابة "تصعيد لمستوى الخطاب المعادي لأمريكا في المجر" التي تتحول شيئًا فشيئًا إلى "عدو". وقد سبق للسفير الأمريكي في المجر أن أعرب عن مخاوفه من حرص بودابست على "تعميق وتوسيع" العلاقات مع روسيا، في عرض عام للإحباط الأمريكي من الدولة الحليفة في الناتو قدّمه أمس الأربعاء، بعد أيام قليلة من "الكشف عن العلاقة المتوترة بين الحليفين في الناتو في تسريب لوثائق المخابرات الأمريكية السرية الخاصة بالبنتاغون".
وقد تزامنت تصريحات السفير الأمريكي الجديدة مع اتخاذ وزارة الخزانة الأمريكية، يوم الأربعاء، خطوة غير عادية بـ "فرض عقوبات على كيان مرتبط بحليف"، وهذا الكيان هو "بنك الاستثمار الدولي الذي يوجد مقره بالمجر"، والذي تُطلق عليه الوثائق الأمريكية المسربة اسم "بنك التجسس" الروسي في بودابست. كما طالت العقوبات الأمريكية المعلن عنها حديثًا "ثلاثة من المديرين التنفيذيين الحاليين والسابقين للبنك وجميعهم مقيمون في المجر، وواحد منهم مواطن مجري نائب رئيس البنك إيمري لازلوشكي"، إذ ثمة قناعة بين المسؤولين الغربيين، حسب صحيفة واشنطن بوست، أن البنك المذكور "يُستخدم كمركز لعمليات الاستخبارات الروسية في أوروبا".
وفي هذا الصدد، اعتبر السفير الأمريكي في المجر ديفيد بريسمان خلال مؤتمر صحفي في بودابست أن: "وجود منصة الكرملين المبهمة هذه في قلب المجر يهدد أمن وسيادة الشعب المجري وجيرانه الأوروبيين وحلفائهم في الناتو"، مضيفًا أن الولايات المتحدة "أعربت عن مخاوفها لدى المسؤولين المجريين في مناسبات عديدة"، معتبرًا أن تلك المخاوف لم تجد آذانًا صاغية، حيث أصرّ المسؤولون في بودابست على "رفضها" حسب تعبيره. وأمام هذه الوضعية، لم يعد أمام واشنطن، حسب السفير الأمريكي، إلا أن "تتخذ إجراءات ضد خيارات المجر".
ولفتت صحيفة واشنطن بوست في تقريرها إلى أن المكتب الصحفي للحكومة المجرية لم يرد على طلبها للتعليق على الخطوات الأمريكية الأخيرة وتصريحات السفير الأمريكي لديها، إلا أنه من المرجح، حسب الصحيفة، أن تثير الخطوات الأمريكية غضب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي لم يخف خلافاته الأيديولوجية مع إدارة بايدن، حيث ظل يشير بانتظام إلى أيام العلاقات الأفضل مع "صديقه" الرئيس السابق دونالد ترامب.
كما أنه، وخلال جلسة استراتيجية سياسية عقدت شهر شباط/ فبراير الماضي، حدد أوربان الولايات المتحدة، حسب إحدى الوثائق العسكرية السرية المسربة، كـ "واحدة من الخصوم الثلاثة الأوائل لحزبه في العالم".
ويبدو أن تحول فيكتور أوربان إلى "متعاطف" مع بوتين في الاتحاد الأوروبي، فاقم قلق الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين من العلاقات التي تتوسع تدريجيًا بين المجر وروسيا، والتي ألقت بظلالها على الاستجابة الأوروبية على سبيل المثال للحرب في أوكرانيا ودعم كييف في صد "العدوان الروسي"، فضلًا عن خرق العقوبات المفروضة على موسكو. ناهيك عن الاتهامات المستمرة، من طرف الأوروبيين، للمجر بالتراجع عن الديمقراطية، فقد كانت المجر الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي لم تتم دعوتها إلى قمة الديمقراطية التي عقدها الرئيس بايدن الشهر الماضي.
في غضون ذلك، تركز الحكومة المجرية على تعزيز العلاقة مع اليمين الأمريكي، حيث من المقرر أن تستضيف بودابست مؤتمر العمل السياسي الأمريكي للمحافظين للعام الثاني على التوالي الشهر المقبل. كما سافرت الرئيسة المجرية كاتالين نوفاك، وهي حليف سياسي قوي لأوربان، إلى مدينة تالاهاسي في فلوريدا للقاء مرشح الرئاسة الجمهوري المحتمل حاكم فلوريدا رونالد ديون ديسانتيس الشهر الماضي.
ولذلك اعتبرت الوثيقة السرية المسربة أن ما تقوم به المجر تجاه الولايات المتحدة الأمريكية "يشكل تصعيدًا لمستوى الخطاب المعادي لأمريكا في خطاب فيكتور أوربان وتوجهات حكومته".
وقد بررت وزارة الخزانة الأمريكية العقوبات التي فرضهتها على بنك الاستثمار الدولي في بودابست بأن وجوده في المجر "يمكّن روسيا من زيادة حضورها الاستخباراتي في أوروبا، ويفتح الباب لأنشطة التأثير الخبيث للكرملين في أوروبا الوسطى وغرب البلقان، ويمكن أن يكون بمثابة آلية للفساد والتمويل غير المشروع، بما في ذلك انتهاكات العقوبات".
وبحسب بيان وزارة الخزانة، فقد: "قام التنفيذيون في بنك الاستثمار الدولي بالتنسيق مع مسؤولي الاتحاد الروسي بشأن أعمال بنك الاستثمار الدولي حتى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022".
يشار إلى أن فيكتور أوربان اعتبر أكثر من مرة أن بلاده ليست معنية بالصراع الدائر في أوكرانيا "لأنه باختصار ليس حربنا" وفق عبارته، منتقدًا جهود الحلفاء لتسليح أوكرانيا، ومتهمًا الولايات المتحدة بإدامة الصراع. ففي تشرين الأول/ أكتوبر، صرّح أوربان في برلين قائلًا: "الأوكرانيون لديهم موارد لا حصر لها لأنهم يحصلون على كل ذلك من الأمريكيين".
وبعد فترة وجيزة من ذلك الموقف، استخدم حق النقض الخاص به "لاحتجاز حزمة مساعدات أوروبية بقيمة 120 مليار دولار لأوكرانيا كرهينة". كما تباطأت بودابست في الموافقة على انضمام فنلندا إلى الناتو، وأعاقت تعاون أوكرانيا الوثيق مع التحالف العسكري الغربي. ناهيك عن أنها لا تزال، إلى جانب تركيا، تعارض انضمام السويد لحلف الناتو.
حدد رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الولايات المتحدة كـ "واحدة من الخصوم الثلاثة الأوائل لحزبه في العالم"
وعلى صعيد آخر، فإنه في الوقت الذي تتخلص فيه بقية أوروبا من النفط والغاز الروسيين، وقّع وزير الخارجية المجري بيتر زيجارتو اتفاقيات جديدة لضمان تدفق الطاقة الروسية إلى المجر، مع العلم أن بودابست تتلقى حوالي 85 في المائة من وارداتها من الغاز من روسيا، ولا تبذل سوى القليل من الجهد لتنويع وارداتها، حسب الانتقادات الغربية لها.
وكان لافتًا أيضًا حديث وزرير الخارجية المجري في موسكو عن الطاقة النووية الروسية، حيث صرّح الثلاثاء الماضي بأنّ شركة الطاقة النووية الروسية المملوكة للدولة "روساتوم" وافقت على عقد معدل لتوسيع محطة باكس النووية في المجر، دون ذكر المزيد من التفاصيل.
وعلى صلة بملف الطاقة النووية، أعلن فيكتور أوربان صراحة أنه: "سيستخدم حق النقض ضد أي عقوبات أوروبية على صناعة الطاقة النووية الروسية"، في إشارة إلى أنه لن يلتزم بالعقوبات الغربية على قطاع الطاقة الروسية.