لا يزال العنف ضد النساء في الولايات المتحدة الأمريكية مسألة تستوجب النظر إليها بعين فاحصة وعميقة، وحيث لا تزال آلاف النساء تتعرضن في بلاد العم سام "واحة الديمقراطية"، إلى أشكال متنوعة ومختلفة من العنف ضدهن. من الضرب إلى الاستغلال الجنسي والاغتصاب وصولًا إلى القتل، يرزح المجتمع الأمريكي تحت وباء منتشر يتمثل بالعنف ضد النساء، وسط صعوبة كبيرة تحول دون احتواءه وضمان الحماية الكاملة للنساء وإنهاء ما يمكن وصفه بكونه "كارثة إنسانية"، فيما يصفه البعض بكونه "سر أمريكا الصغير القذر".
في التعريف
يتم تعريف العنف المنزلي على أنه "نمط من السلوكيات أو التصرفات التي تضر جسديًا، أو تثير الخوف، أو تمنع الشريك، من فعل ما يرغب فيه، أو يجبره على التصرف بطرق لا يريدها. ويشمل العنف المنزلي استخدام العنف الجسدي والعنف الجنسي والتهديد والترهيب والاعتداء العاطفي والحرمان الاقتصادي وغيرها من الاساءات الاعتداءات والانتهاكات التي تطال المرأة والأسرة. ويمكن أن تحدث العديد من هذه الأشكال المختلفة من العنف المنزلي في أي وقت وفي نفس العلاقة الحميمة.
تساؤلات مشروعة
ووفقًا لمركز سياسات العنف الأمريكي VPC، فإن 9 نساء مقتولات من أصل 10، قتلن على يد رجال يعرفونهم (أزواج- عشاق- شركاء- معارف- أقارب ألخ). تطرح عمليات القتل هذه تساؤلات حول مدى فعالية وكفاءة الأجهزة الحكومية الأمريكية كالمحاكم والشرطة، في دعم وحماية النساء من العنف، وكذلك مدى مناصرة المجتمع لقضايا العنف ضد المرأة، سيما وأن معظم حالات القتل قد سبقتها انتهاكات واضحة وصريحة من قبل الجناة، ولتنتهي بالقتل في نهاية المطاف.
20 ألف اتصال يوميًا في أمريكا من نساء تعرّضن للعنف المنزلي
أمام هذا الواقع، تبرز أسئلة كثيرة وعلامات استفهام حول العيب في الأنظمة الأمريكية التي تعطي الجناة كل هذه المساحة في ارتكاب العنف بحق النساء وصولًا إلى ارتكاب جرائم القتل بعد سلسلة من الانتهاكات والتي كان بالإمكان وضع حد لها قبل تفاقمها. ويذكر بأن العنف بحق النساء يحصل في كل الأمكنة مثل المدارس والجامعات والمنازل والأماكن الدينية ومكان العمل وغيرها من الأماكن العامة أو الخاصة.
مسألة معقدة ومتعددة الطبقات
يشير خبراء إلى أن المسالة معقدة، خاصة وأن العنف بين الشركاء الحميميين يخضع لمعايير متشابكة، فالأطراف لديها تاريخ من المعرفة سويًا، وكذلك أصول وموارد مادية مشتركة، وأحيانًا أطفال، مما يجعل من المهمة صعبة للغاية. فالجريمة يمكن وصفها "متعددة الطبقات"، وكل جريمة لها خاصية ودوافع مختلفة ومتنوعة، منها الديني والنفسي والثقافي والاقتصادي وغيرها من العناصر التي تلعب دورها في مسألة العنف بحق النساء. كذلك هناك معايير أخرى ذات أثر في المسألة، منها الفئة العمري والعمل أو البطالة لدى النساء ومعدل الأجور ومكان السكن (ريف- حي شعبي مكتظ- مدينة).
ولفهم العناصر التي تلعب دورًا في مسألة العنف بحق النساء، يشير مركز سياسات العنف الأمريكي VPC إلى أن معدلات قتل النساء ترتفع عند الهنود الأمريكيين والجتمعات ذوي البشرة السوداء بمعدل الضعف عن المجتمعات لدى ذوي البشرة البيضاء. هذه واحدة فقط من عشرات المعايير والعناصر التي يجري دراستها للوقوف على المسألة وديناميكياتها.
معيار أخر ذو أثر يتجلى في الحالة الاقتصادية للأطراف، ومنها الإنفاق الحكومي على دعم ضحايا العنف الأسري، والإنفاق على قروض الإسكان، لأن العنف إنما يحصل ضمن سياقات ومن بينها السياق الاقتصادي. معيار ثالث تسعى حكومة الرئيس جو بايدن للحد من أثاره يكمن في تفشي انتشار الأسلحة الفردية في المجتمع الأمريكي، فأعلى نسبة من وفيات النساء ذوي البشرة السوداء تمت بواسطة أسلحة فردية كالبنادق والمسدسات، ومنها أسلحة بكواتم صوتية. وقد وقع بايدن تشريعًا يمنع بموجبه المدانين بجرائم عنف منزلي من حيازة أسلحة فردية.
يضاف إلى ذلك العمل على التوعية ومنها نشر الثقافة لتعديل النظرة القائمة على لوم الضحية في مسائل العنف المنزلي وإيجاد التبريرات لعنف الرجل بحق المرأة والأسرة بشكل عام. ويترافق هذا النوع من اللوم مع صمت اجتماعي أو وصمة عار أو إخفاء أو خزي يلق بالضحية. وكذلك ارتبط وباء العنف المنزلي بأوبئة بيولوجية، فقد أشار أكاديميون إلى أن العنف بحق النساء ارتفع بنسبة 26% عام 2020 بفعل الحجر المنزلي بعد تفشي وباء فيروس كورونا، بحسب تقرير نشرته وكالة رويترز.
نمو الطفل في منزل يسوده العنف ضد المرأة يعد تجربة مرعبة وصدمة يمكن أن تؤثر على كل جانب من جوانب حياته ونموه وتطوره.
وفي دراسة أجرتها وكالة طومبسون رويترز الإخبارية عام 2018، شملت آراء 550 خبيرًا في مجال الحقوق والجندرة وأكاديميين مختصين بقضايا المرأة، تبين أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر من بين أخطر 10 دول على النساء من حيث العنف الجنسي والتحرش الجنسي والإكراه على ممارسة الجنس، وذلك بحسب ما نقلت شبكة CBSnews. ووفقًا للدراسة جاءت الهند في المرتبة الأولى وتلتها أفغانستان وسوريا والصومال والسعودية وباكيستان والكونغو واليمن ونيجيريا والولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن تجدر الإشارة إلى كون تصنيف الولايات المتحدة لا يجب أن يؤخذ بشكل تعميمي من حيث أن هناك البلاد تضم 50 ولاية ولكل منها قوانينها واختلافاتها الشاسعة عن بقية الولايات، مما يجعل من الصعب وضع جميع الولايات في خانة واحدة، وفقًا لما نشرته مجلة فوربس من تصنيف لأفضل الولايات لحياة المرأة معتمدة على 24 معيارًا.
الأطفال ضحايا العنف المنزلي ضد النساء
ويشار إلى أن العنف المنزلي والعنف الجنسي تطال أثاره الأطفال بشكل وخيم. فالنمو في منزل يسوده العنف ضد المرأة يعد تجربة مرعبة وصدمة يمكن أن تؤثر على كل جانب من جوانب حياة الطفل ونموه وتطوره. فهناك احتمال مرتفع لدى الأطفال الذين تعرضوا للعنف الأسري إلى أن يعانوا من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، مثل التبول في الفراش أو الكوابيس. وكذلك هم أكثر عرضة للإصابة أكثر عرضة للإصابة بالحساسية والربو ومشاكل الجهاز الهضمي والصداع والإنفلونزا". ينعكس العنف في سن الطفولة على مستقبل الأطفال، فالصبي يمكن أن ترتفع نسبة جنوحه نحو ارتكاب الجرائم في المستقبل، بينما الفتيات يصبحن أكثر ميلًا لإيذاء أنفسهن، بحسب ما تفيد منظمة الصحة العالمية.
تكلفة بمليارات الدولارات
وتجدر الإشارة إلى كون العنف ضد النساء يثقل كاهل الموازنات الحكومية بسبب ارتفاع تكاليف العلاج. هناك مليارات الدولارات ترصدها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية للرعاية الطبية وخدمات الصحة العقلية للناجيات من العنف المنزلي. وبحسب صحيفة الواشنطن بوست، في تقرير نشر العام الماضي، فإن تكلفة علاج العنف المنزلي تكلف الخزينة الأمريكية ما يقرب من 8.3 مليار دولار سنويًا (أضرار جسدية وأضرار نفسية)، مضاف إلى خسائر مالية فادحة تتكبدها النساء المعنفات جراء توقفهن عن العمل بعد حوادث العنف التي تطالهن وخسارة المردود المالي والتغيب عن العمل بشكل جزئي أو كلي.
أرقام كارثية
يتتبع الائتلاف الوطني لمناهضة العنف المنزلي (NCADV) أرقام ضحايا العنف المنزلي في الولايات المتحدة الأمريكية. تشير أرقامه إلى أن "20% من النساء في الولايات المتحدة الأمريكية تعرضن للاعتداء الجنسي في مرحلة من مراحل حياتهن". وتشير الأرقام إلى أن 20 ألف اتصال للإبلاغ عن عنف منزلي يتلقاها الإئتلاف يوميًا، وإلى أن 10 مليون امرأة تتعرض للعنف الجسدي من قبل الشريك.
وكذلك 1 من أصل 4 حالات تتعرض خلالها النساء لعنف شديد من قبل الشريك، بينما النسبة عند الرجال هي 1 من أصل 9. والأخطر من ذلك، تشير أرقام الإئتلاف إلى أن 1 من أصل 5 نساء أبلغت عن تعرضها لعملية اغتصاب مرة واحدة في حياتها، بينما تفيد نسب اغتصاب الرجال إلى أن 1 من أصل 71 رجلًا تعرضوا للاغتصاب لمرة واحدة في حياتهم، ونصف حالات الاغتصاب تمت من قبل أشخاص مقربون.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في ولاية لوس أنجلس، والتي يبلغ عدد سكانها نحو 10.1 مليون نسمة، تبين أن 17% من النساء فوق 18 عامًا أبلغن عن تعرضهن لشكل من أشكال العنف المنزلي، وذلك بحسب تقرير نشرته جامعة جنوب كاليفورنيا عام 2017.
آليات عقابية هشة
وبالعودة إلى التاريخ، بدأت بعض الولايات في أمريكا بحظر حق الرجل في ضرب عائلته منذ مطلع 1870. قبل ذلك كانت الثقافة المجتمعية السائدة تعطي الحق للرجل باستخدام العنف ضد أفراد أسرته. وفي عام 1980، أي بعد مرور قرابة 100 سنة، توجت باعتماد تشريع يجرم العنف المنزلي. وفي مراجعة لسجلات وزارة العدل الأمريكية، تبين أن أقل من واحد في المئة من الجناة المتهمين بارتكاب عنف منزلي بحق النساء قد دخلوا إلى السجن. 4.6% من مرتكبي الاعتداءات الجنسية والاغتصاب تم اعتقالهم (من بين 1000 شكوى اعتداء جنسي، هناك 25 فقط تمت محاكمتهم وثبتت التهمة بحقهم).