لا يمر يوم على الأمريكي العادي من دون تعرضه للتنبيه إلى ضرورة المحافظة على صحته ورشاقته. هذه التنبيهات تعتمد الكثير من الوسائل لتصل إلى وعيه: إعلانات مدفوعة، نصائح طبية، ملاحظة عن زيادة وزنه من شريك. وهو في هذا يعرف أن الإمعان في تناول الأطعمة السريعة الجاهزة مضر بصحته ويجدر به تجنبه. الحرب على سلاسل مطاعم الأطعمة السريعة لا تهدأ في أمريكا وفي العالم أجمع، وربما تكون في أمريكا هي الأعنف، من حيث تداعياتها على الناس وعلى جانب من الاقتصاد.
الحرب على سلاسل مطاعم الأطعمة السريعة لا تهدأ في أمريكا وفي العالم أجمع، وربما تكون في أمريكا هي الأعنف
في مواجهة هذه الحرب استعاض رأسماليو الإطعام العام عن مثل هذه المطاعم بإنشاء مطاعم أخرى تراعي النصائح الطبية والصحية، لكنها، على غرار تلك المطاعم الأرخص والأسهل تناولًا، تحرص ألا يتغير الطعم المقدم للزبون، بما يعني أن الزائر لهذه المطاعم يدرك سلفًا حدود متعته في الأكل وعمق تجربته معها.
ما تم المحافظة عليه فعليًا هو الجوهري في هذه المسألة. لم يكن في نية مؤسسي ماكدونالدز، على الأرجح، تقديم أطعمة مضرة بصحة المواطن المعاصر. وهذه سلسلة مطاعم نشأت في واقع الأمر قبل انتشار حمى الرشاقة في العالم، وقبل تسيد النصائح الطبية على يومياتنا وطرد كل نكهة منها وكل مزاج. والحال فإن المشترك الكبير بين سلاسل ماكدونالدز وأخواتها والسلاسل الجديدة هو ثبات الطعم وتماثل الخدمات. زائر أي من هذه المطاعم المنتشرة سيلاحظ أن الكراسي هي نفسها على امتداد القارة، وأن قرميد السقوف يكاد يكون هو نفسه أيضًا. إنها صناعة تماثيل متماثلة، لا يتغير فيها إلا القليل من موقع إلى آخر، ومن ولاية إلى أخرى.
التماثل والثبات والتشابه هو بالضبط عين ما يجيده الأمريكيون، وهو في حقيقة الأمر فخهم للسيطرة على مخيلة الكرة الأرضية. فكل ما يخرج من هذه القارة يسعى لأن يصبح معممًا. أكان الخارج منها هاتفًا ذكيًا أم فكرة أم حذاء رياضيًا، أم نغمة رنين للهاتف. هذا التعميم يتوسل لتحقيق انتشاره، تراقصًا في المنطقة الوسطى بين الحلو والمالح، وبين المألوف والغريب. لن يصدّر الأمريكيون إلى العالم أطعمة لا تخاطب الذائقة العامة وترضيها، ولن يصدّروا أيضًا سلعًا ليست في متناول الناس جميعًا. وإن فعلوا فإنهم يرفقون فعلتهم هذه بخطاب معقد، يستندون فيه إلى صورتهم المنتشرة والمرغوبة في كل مكان، وإلى سلطتهم الهائلة التي تخولهم فرض ما يخترعونه ويكتشفونه على يوميات العالم أجمع. هكذا انتشرت صناعة الكمبيوترات، وهكذا احتلت شبكة الإنترنت كل بقاع العالم المنسية والمهجورة، وهكذا نجحت شركاتهم المالية الناشئة والراسخة في فرض عمليات الدفع عبر شبكة الإنترنت سواء من خلال الحواسيب أو الهواتف المحمولة.
باختصار، تستطيع أمريكا، المهيمنة على مخيلة العالم، أن تفرض عليه مسالك حياته اليومية. فإن انتشرت موضة تربية الحيوانات الأليفة في مدنها الكبرى، فإنها سرعان ما ستنتقل إلى مدنها الأخرى ومنها إلى مسلسلاتها وسينماها وصولًا إلى أرجاء العالم الواسع، وإن درجت موضة حمية الكيتو في هذه المدن فإنها سرعان ما ستنتقل إلى أرجاء العالم الواسع قبل أن يكتشف الأمريكيون أولًا أنها موضة بلا داع على الإطلاق. والأمريكيون بهذا المعنى يفرضون الحمية ثم يفرضون مقاطعتها، يقررون أن القهوة غير مفيدة للصحة وليس في وسع العالم إلا أن يصدق، ثم يعودون عن قرارهم وينصحون العالم أجمع باستهلاكها، وليس في وسعه إلا أن يستجيب.
في الحديث عن هذه السلطة الهائلة ليس صحيحًا أن الهيمنة الأمريكية على العالم لم تكن بلا منافس. على الأرجح كان منافسوها، لزمن قصير مضى أقوى منها حجة وأرفع شأنًا. أمريكا حتى اليوم هي قارة تدين بأخلاقها وأفكارها ووسائلها إلى أوروبا. ففي تلك القارة العجوز نشأت كل الأساسيات الأخلاقية والفكرية والقيمية الحداثية التي ما زالت تحكم سلوك العالم وخياله. لكن الفارق الكبير بين أوروبا وأمريكا يتعلق بمن توجه لهم كلا القارتين رسائلها. ففيما تغلب على القيم الأوروبية نزعة أرستقراطية تحتفل بالنادر والمميز والمتقن والمتين، تنحو الولايات المتحدة الأمريكية إلى تغليب نزعة شعبوية على كل ما تنتجه وتسوق له وتطمح في انتشاره. أمريكا بهذا المعنى لم تسوق شانيل وغوتشي، بل سوقت جينز ليفايس وحذاء نايكي. الفارق بين المعسكرين هو الفارق بين من يرتدي ثيابه ليستعرض سلطته وبين من يرتدي ثيابه ليتسنى له قضاء أطول وقت ممكن خارج منزله محرومًا من كل وسائل الراحة والرفاهية. وحيث إن الناس، في معظمهم، هم هؤلاء الذين يرتدون ليفايس وينتعلون نايكي، فإن غوتشي وشانيل ستبقيان علامتان قويتان لكن استخدامهما يقع في الطارئ والمؤقت والذي يستلزم استعدادًا وتحضيرًا طويلين. فيما تهيمن ليفايس ونايكي على وقت الناس المتبقي وهو الأعم والأوسع، حتى لأولئك الذين يحتفظون بأثواب غوتشي في خزائنهم.
التماثل والثبات والتشابه هو بالضبط عين ما يجيده الأمريكيون، وهو في حقيقة الأمر فخهم للسيطرة على مخيلة الكرة الأرضية
على هذه الشعبوية الخالصة فرضت أمريكا قيمها. وسوقت عاداتها وسبل عيشها، وعلى هذه الشعبوية المتسلطة أيضًا فرضت أمريكا على العالم أجمع تمويل أذواق مستهلكيها. فالمنتج الذي يبتغي أن ينتشر في العالم، يجدر به أن يفتتح السوق الأمريكية أولًا. فإذا وجد الأمريكيون أن سيارة تويوتا أطول عمرًا من سيارة فورد، وأقل كلفة، سيقبلون على شرائها واستخدامها، وحين يتم هذا الأمر لتويوتا، ستنجح في بيع سياراتها في كل مكان. ذلك أن المستهلكين الأمريكيين ليسوا أقل من وسيلة إعلان ناجحة، وغالبًا ما يتم تمويل أذواقهم، أي الأمريكيين، من خزائن الدول الأخرى والشركات الكبيرة، بطرق مباشرة وغير مباشرة. وهم، أي الأمريكيون، في سلوكهم هذا لا يشبهون مواطني الدول الأمم الذين يدافعون عن علاماتهم التجارية ويحرصون على بقائها قيد التداول، وغالبًا ما يمولون عجزها حين تقع تلك الشركات في أزمة، وهذا مما شهدنا خبره اليقين في أزمتي شركتي فيات الإيطالية وكيا الكورية الجنوبية في تسعينيات القرن الماضي.
لمواجهة هذه الهيمنة التي فرضت منطقها على زمن العولمة الراهن، يجدر بالعالم أن ينتج قيمًا مشابهة من حيث سهولة تناولها وشيوعها وديمقراطيتها. قيم تعنى بالسائر والشائع وما يسهل استخدامه. وكل تعقيد للهويات أو وضع شروط لا يحاد عنها للانتماء تبدو في جوهرها دعوة لتأبيد هذه الهيمنة على نحو لا فرار منه. إذ ما الذي يعنيه الدعوة إلى تجنب ماكدونالدز وتناول شريحة لحم في مطاعم روث وشركاه الفاخر، سوى أن الداعي والدعوة يريدان الاهتمام بمن يستطيع تحمل كلفة العشاء الباهظة في روث وشركاه، وتجاهل من لا يستطيع واعتباره غير موجود؟ وما الذي يعنيه مديح سيارات مرسيدس وفيراري إذا كان المرء مضطرًا كل صباح لقطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى مكان عمله من حيث يقيم بعيدًا عنه بسبب ارتفاع أسعار العقارات وإيجاراتها في مراكز المدن الكبرى؟ الأرجح أن هذه الدعوات لا تكف عن الدعوة إلى ترك الناس يتدبرون أمورهم بأنفسهم، وتركيز الاهتمام على القادرين والمقتدرين.
واقع الأمر أن الكامن خلف الدعوات المنتشرة لمقاطعة مطاعم الوجبات السريعة يشبه في أكثر ما يشبهه فصلًا طبقيًا للناس. إذ أن هذه الدعوة تشترط لتحققها أن يكون المرء مقتدرًا وقادرًا على العمل بمضمونها. لا يسع موظف يملك نصف ساعة فقط لاستراحة الغداء أن يجلس في مطعم فخم ليتناول وجبته. الأمر مكلف أولًا بما لا طاقة له عليه ماليًا، ومكلف ثانيًا بما لا طاقة له عليه زمنيًا. مثل هذه المطاعم الفخمة بالنسبة له معدة للإجازات والمناسبات الخاصة. سوى ذلك هو محكوم أن يتناول طعامه في مثل تلك الأماكن. وحيث إن هذه المطاعم محكومة بالعناية الشديدة بمنتجاتها، فلا تجرؤ على المغامرة بتقديم طعام مسموم أو منتهي الصلاحية، فإن الموظف أو العامل لن يتورع عن اعتمادها مصدرًا لتغذيته في السائر من أيامه.
على هذا تبدو الدعوة إلى مقاطعة هذه السلاسل، في جوهرها، هي دعوة القادرين إلى التخلي عن عادات غير القادرين. وكمثل هذه الدعوة في تعاليها الطبقي، تخرج إلى الوعي العام دعوات مماثلة، من قبيل الدعوة إلى مقاطعة اللحوم أو الدعوات إلى استهلاك المنتوجات العضوية فقط. ذلك أن الوفرة التي يتمتع بها العالم في المنتوجات الغذائية تدين للصناعة الكبيرة بكل أسبابها، وهي قطعًا لن تكون ممكنة لو استمر الإنتاج حرفيًا على ما كان عليه سابقًا. والحال فإن مثل هذه الدعوات تضمر في أصل إعلانها وتبنيها تأكيد قدرة الداعين على الإنفاق أكثر على طعامهم وشرابهم مما يحتمل معظم الناس. إنها باختصار محاولة لتوليد معسكر الأصحاء المتمتعين بالرشاقة والمهتمين بنقاء ما يدخل إلى أجوافهم، في مواجهة معسكر الفئة الغالبة من الناس الذين لا يملكون وقتًا كافيًا للاهتمام بمظهرهم وممارسة التمارين الرياضية للمحافظة على رشاقتهم، وتناول المكلف والمتكلف من الطعام لأنهم لا يملكون وقتًا ينفقونه على اتباع هذه الخيارات. ويبدو الأمر كما لو أن العالم بات يطمح لتمييز طبقات المارة والسائرين في الشوارع من النظرة الأولى، حيث تتسيد طبقة متطلبين شبه متبطلين على المشهد العام، وتقبع طبقة من الذين لا يملكون فائضًا من الوقت والمال للعناية بتحسين شروطهم الطبقية في أسفل سلم القيم وأحقر الطبقات.