شكل تطور علوم الأعصاب (Neuroscience) في نهاية السبعينيات من القرن الماضي نقلة كبرى في مجالات تطور الذكاء الاصطناعي، ففي تلك الفترة ومع تطور هذه العلوم، بدأت مجموعة من العلماء بالنظر إلى مندرجات السلوكات البشرية (Behaviourism)، استنادًا على منطلقات الفلسفة الإدراكية (الفينومينولجيا) وتعريفات هايدغر وميرلو بونتي للظواهر، والعلاقة بين الكينونة والأشياء. وبناء على هذه المعطيات خرج إلى النور مشروع جديد للذكاء الاصطناعي يحاول البحث في الإدراك بوصفه قدرة متجسدة في الجسم البشري، أي طاقة عضوية منه وفيه، وليس بوصفه نظامًا رمزيًا عقلانيًا يمثل العالم الخارجي.
انطلق علماء الكومبيوتر وتلامذتهم لإنشاء قطاعات بحثية تتقاطع مع علوم البرمجة والأعصاب، متخطين سطوة الفلاسفة العقلانيين ومقولات التمثيل الرمزي
قاد هربرت دريفوس هذا الاتجاه الفلسفي فيMIT وجامعة بيركلي في كاليفورنيا، متكئًا على مقولات الفينومينوليجيين، التي تفيد باستحالة الفصل بين الجسم والعقل وتؤكد أن الأشياء التي نعرفها والتي نعيش معها وفيها ليست نموذجًا للعالم المخزن في أذهاننا أو أدمغتنا بل هي العالم نفسه. أي أن النظام الذي يعيش الإنسان فيه هو العالم بذاته بالنسبة له وليس تمثيلًا رمزيًا له.
وعلى أرضية هذا التصور الجديد انطلق علماء الكومبيوتر وتلامذتهم لإنشاء قطاعات بحثية تتقاطع مع علوم البرمجة وعلوم الأعصاب، متخطين سطوة الفلاسفة العقلانيين ومقولات التمثيل الرمزي. فالمدخل الجديد لحل المعضلة التي يواجهونها لا يكمن في المعاني العقلانية والممثلة رمزيًا، فالبشر وسائر الكائنات المجسدة، هي أجسام تتلقى المعلومات كطاقة فيزيائية لا معنى عقلانيًا لها، وهذه تحمل معطيات من محيطها، فتدخل إلى الجسم ويستجيب لها، انفتاحًا على فضاء ينظم احتياجاته واهتماماته وقدراته البدنية من دون تدخل العقل في كل هذه العمليات. فلا معنى يمكن أن يستخرجه العقل من معطى لا معنى له.
يقدم مرلو بونتي وصفًا غير تمثيلي (non- representational) للطريقة التي يقترن بها الجسم والعالم، مقررًا أنه عندما يكتسب الكائن المهارات، يتم "تخزينها"، ليس كتمثيلات رمزية في عقل الكائن، ولكن كالتماسات لمواقف وحالات. وعليه فإن ما يكتسبه الكائن المتعلم من خلال التجربة، لا يتم تمثيله على الإطلاق، ولكن يتم تقديمه إليه على أنه مجموعة مواقف وحالات تمييزية بدقة. وإذا كان الموقف المعين الذي يواجه الكائن معقدًا وبحاجة لأكثر من استجابة واحدة، في حال لم تسفر الاستجابة الأولى عن نتيجة مرضية، يتم توجيه الكائن هذا إلى مزيد من تنقيح تمييزاته، والتي بدورها تتطلب استجابات أكثر دقة.
الخبرة التي نكتسبها في عيشنا اليومي في المدن مثلًا هي تجارب مترسبة في كيفية ترائي هذه المدن لنا. ويعرّف ميرلو بونتي هذه العملية التفاعلية والتصحيحية المتجسدة بين الكائن وبين عالم الإدراك الحسي بـ"قوس التقصد" (Intentional Arc). وهو آلية مجسدة في أجسامنا وفي علاقتها بالعالم، وتحيط بقدراتنا التعرفية ورغباتنا وإدراكنا، وتعمل في ماضينا، ومستقبلنا ومحيطنا.
هذا المنحى الوجودي الأنطولوجي والفينيمينولوجي الذي اتخذته علوم الكومبيوتر، مقرونًا بعلوم الأعصاب لم يفض إلى بناء ذكاء اصطناعي تام، بالمعنى البشري، بل إلى اكتشاف تقني كبير أسس للحالة التقنية-الاجتماعية التي نعيشها حاليًا. ففي منتصف الثمانينات تمخضت الأبحاث العلمية عن اكتشاف أنظمة "الشبكات العصبية" (Neural Network) التي تحاكي عمل الخلايا العصبية في الدماغ. وتحولت الأنظار إلى محاولة تصميم نظام يحاكي قدرات الدماغ في التعلم والاستيعاب عوضًا عن التمثيل الرمزي المنطقي للعقل. وهذه الشبكات تحاكي عمل الخلايا العصبية والطريقة التي ترسل بها الخلايا العصبية البيولوجية الرسائل إلى بعضها البعض وكيف تعالج المعلومات والاستشعارات، وكيفية الاستجابة لها عبر تحريك الأعضاء والأطراف. وهذه الشبكات العصبية تعمل بالتوازي، وليس بالتسلسل الحصري على غرار المنطق، وهي ليست بحاجة كذلك إلى تعريف عقلاني للموضوع الذي تحلله، وبهذه العملية تسعى لإصدار تخمينات دقيقة، اعتمادًا على كمية كبيرة من المعطيات "التاريخية"، التي تدرب هذه الشبكات على تحسين أداءها التخميني. وهذا الفرع في مجال الذكاء الصناعي يعرف حاليًا بـ"التعلم الآلي" (Machine Learning). وتشكل هذه الشبكات العصبية اليوم البنية التحتية لشبكات التواصل الاجتماعي، ولاقتصاد المستخدم ولأنظمة الإحصاء والاقتراح، على غرار ما يفعل محرك اقتراح أمازون لشراء المنتوجات وفيسبوك وتويتر لإضافة أو متابعة مستخدمين آخرين.
بدأ فيسبوك صعوده التقني مدعيًا أن مهمته الأولى هي مهمة إنسانية، فالمنصة تلك أعلنت أن هدفها هو إتاحة التواصل بين البشر وتمكينهم من مشاركة أنشطتهم وأمزجتهم، وجعل العالم أكثر انفتاحًا. غير أن هذا الهدف النبيل لا يستقيم دون بنية تجارية، ففيسبوك ليس جمعية خيرية. وبذلك دأب مهندسو الشبكات العصبية على تحليل التقاطعات البيانية في سلوكات المستخدمين الملتقطة عبر الشبكات العصبية لمعرفة كيفية الاستفادة التجارية من تفاعلية رواد الشبكة. وظهر أن السلم القيمي الوحيد الذي يمكن بناءه فوق الشبكات العصبية هو سلم ترويج المحتويات ذات التأثير الأعلى في تجمعات المستخدمين الشبكية، وربطها بمحتوى ترويجي لسلع وخدمات وطروحات المُعلنين.
بدأ فيسبوك صعوده التقني مدعيًا أن مهمته الأولى هي مهمة إنسانية، فالمنصة تلك أعلنت أن هدفها هو إتاحة التواصل بين البشر وتمكينهم من مشاركة أنشطتهم وأمزجتهم، وجعل العالم أكثر انفتاحًا
وبالتالي فإننا كمستخدمين نستخدم المنصة ونتفاعل عليها مجانًا، في حين تدفع الشركات المعلنة لفيسبوك لقاء ربط تفاعلاتنا بإعلاناتهم. ولالتقاط سلوك المستخدمين المتفاعلين، كان لا بد للشبكات العصبية أن تتعلم الإشعارات السلوكية والمزاجية للمستخدمين، بغية توظيفها في عملية تقييم مستويات توزيع ونجاح المحتوى التسويقي المُتفاعَل معه. تمامًا كما بنى غوغل صناعته على مستويات تصنيف صفحات نتائج البحث. فهذه الشبكات تجدول التقييم وتنشره حسب الكثافة التمثيلية لنتائج البحث. فالمحتوى الذي يُزار ويُتفاعل معه كثيرًا يجلس في الصفوف الأولى في جدول النشر. وعليه تبني هذه الشبكات لوائح أسعارها وخطط استهداف شرائح المستخدمين الاجتماعية المبتغاة لعرض المحتوى الإعلاني ولتأمين سعة انتشاره ووصوله إلى أكبر عدد ممكن من المستخدمين وتوجيهه إلى شبكة مؤثرين، أي إلى حسابات مستخدمين عاليي الجاذبية التفاعلية في الشبكة.
مع نمو أرباح هذه المنصات وانضمام ملايين المستخدمين إليها، بدأت بالتوسع خارج إطار قياس الوزن التمثيلي للمحتويات، وأصبحت الخوارزميات المبنية على قراءة الشبكات العصبية تقرأ سلوكنا من خلال تحديد مسبق لنتائج تفاعلاتنا التشاركية. أعاد فيسبوك مثلًا إدخال المنطق المُحَدِّد الى الشبكة النورونية وقَعَّد هذا التحديد، وقد بدأت حملته هذه بعد مرور ثلاث سنوات على إنشاء المنصة، حيث أدخل رمز الإعجاب الأزرق (Like) عام 2007، وتم اعتماده نهائيا عام 2009، ومن ثم أضاف تباعًا، ستة رموز تعبيرية أخرى بالإضافة إلى خاصية المشاركة (Share) الموجودة كلها قيد الاستخدام الآن. هذا بالإضافة إلى تطوير شبكات عصبية تحلل المحتوى الكتابي عبر تقنيات معالجة اللغة الطبيعية. أي تحليل كلمات المحتوى الكتابي للمستخدمين المعلِّقين والمشاركين ربطًا بسلم تقييم للانفعالات. فتويتر مثلًا فتحت الباب لمن يريد جمع التغريدات وأجراء تحليل للمشاعر والانطباعات مؤخرًا. أما في فيسبوك فهذا يعد جزء أصيلًا من البنية التحتية للمنصة.
هذه القدرة العصبية الهائلة في دراسة سلوكياتنا وانفعالاتنا جعلت من هذه الشبكات منصات صناعة رأي عالية الحساسية. فإتاحة الجرائد والمواقع الإخبارية لنشر محتوياتها على هذه الشبكات، جعل من السلوك التفاعلي المُقَعد خلاصة ومؤشر على تأثير محتويات الإخبار والتسويق والفن على حد سواء. وصارت هذه المواقع تتمتع بسلطة تفوق سلطة البرلمانات التمثيلية في الدول، وتستخدم كآلية تأثير في الرأي العام واستمالته.
ومن المعروف إن باراك أوباما هو رائد استعمال شبكات التواصل في صناعة الرأي العام بطريقة منهجية، فحملته الانتخابية بنت آليات صناعة خطابها على فيسبوك، وماي سبايس (آنذاك) وتويتر ويوتيوب. ومازالت فضيحة كامبريدج أناليتيكا في استخدام فيسبوك لاستمالة الناخبين للتصويت لحزب المحافظين، في حملة "بريكست" في بريطانيا حاضرة في الأذهان. ثم جاء دونالد ترامب ليثبت هذا المنحى جاعلًا منه تقليدًا في السياسة حيث شكلت تويتر مسرح يومياته ويومياتنا، واليوم يأتي إيلون ماسك ليستحوذ عليها.
غير أن عملية تحويل هذه الشبكات الاجتماعية وخوارزمياتها التي تعمل كمجسات عصبية لأمزجة المستخدمين وانطباعاتهم، وتؤثر فيهم عبر استشعارات محددة مسبقة (الإعجاب، الحب، الفرح، الغضب، المشاركة.. إلخ) وتستعملهم كوقود في صناعة رأي عام عارم انطباعي، يخلق، عمليًا، ظلالًا افتراضية تدير أجسادنا في الواقع. وهذه الصناعة اليوم هي صناعة أديان وأصنام تجذب مريديها وأتباعها عبر صناعة الحقائق المصطنعة. فهذه الشبكات العصبية هي شبكات حسابية تصنع الفيتيشية باستعمال آليات الدماغ البشري لتلقينه، فيما تدعي تزويده بالسلطة التقنية اللازمة لإبداء رأيه والتفاعل مع الأحداث، وبالتالي مساعدته على تحديد اختياره "الأفضل".
على هذا المنوال استعمل الديمقراطيون وحَملة الأفكار الليبيرالية المدعّمة بخطاب سياسات الدمج والمشاركة (Inclusion)، والمسنودة بحركات عدم التمييز العرقية والجندرية والنسوية، هذه الشبكات لضمان فوز أوباما، وعندما فشلت هيلاري كلينتون في تحقيق مسعاها أصيبت هذه الجماعات بصدمة كبيرة. فدونالد ترامب يمثل النقيض التام لنخبويتهم ولخطاب الصوابية السياسي (political correctness) المكثف الذي مارسوه على مدى ما يقارب العقد من الزمن. ما أبرز أعطاب آلة الوعي والمشاركة والانعتاق التي بنتها هذه الجماعات على أرضية الشبكات العصبية المنتصرة على العقلانية المُقَيِّدة.
إيلون ماسك رجل ورث جزءًا كبيرًا من جمهور ترامب، يتحدر من الشرائح الاجتماعية المناهضة للإنتليجنسيا الديمقراطية وللخطاب النسوي والصوابية السياسية
لقد بدا جليًا للعالم ولهذه الجماعات بصورة أساسية، أن هذه المنصات ليست بتربة تترسب فيها القيم التي أرادوا للمجتمع والعالم ألا يحيد عنها. وأن هذه العمليات المعقدة لا يمكن أن تشبه الوقائع العلمية البحت، على غرار الحقائق الفيزيائية التي تفسر عمل الدماغ العصبي. فالشبكات العصبية وخوارزميات فيسبوك وتويتر هي آليات محايدة غير ممنطقة تنتج إحصاءات غير مؤدلجة. فكان أن بدأت هذه النخب هجومها على تلك المنصات بوصفها شريكة ترامب في جريمة انتصاره عليهم، فتجندت الصحافة والأنتلجنسيا وسلطات التشريع في مواجهة مع هذه المنصات. فما كان من فيسبوك وتويتر إلا أن عززتا سياسات الاعتدال (moderation)، بإدخال نظام تحرير ومراقبة بشري لمساعدة النظام الرقمي الخوارزمي البريء والقاصر عن إصدار أحكام ذكية على المحتوى، تناسب سياسية هذا المعسكر الخاسر.
لم يستتب الأمر طويلًا لهذه الجماعات، وسرعان ما شكّل صعود إيلون ماسك إلى قمة هرم الافتراضي، التي توجها بشراء "تويتر"، بما يعني استكمال السيطرة على هذا النظام الدعائي الفرانكشتايني. فالرجل ورث جزءًا كبيرًا من جمهور ترامب، يتحدر من الشرائح الاجتماعية المناهضة للإنتليجنسيا الديمقراطية وللخطاب النسوي والصوابية السياسية، بالإضافة الى جمهور ليبرتاري شاب من الجيل Z، الذي تبعه في مسعاه في فتح وتأجيج أسواق الكريبتو وصناعة الفضاء. ولم يكن هجوم ماسك العنيف على تويتر إلا انتقادًا لسياسات الاعتدال "اليدوية"، مطالبًا بإعطاء المستخدمين سلطة على محتواهم واحترام مبدأ حرية التعبير. ويبدو أن فياجا غادي هي المرشحة لتكون أول ضحايا هجوم ماسك، تلك المرأة الحديدية في تويتر التي ترأس الدائرة القانونية، والمسؤولة الأولى عن سياسات اعتدال المحتوى وإقفال حساب دونالد ترامب. كما لو أن المستقبل يعيد نفسه مرة أخرى، وليس على هيئة مهزلة.