يقوم جوهر العقيدة الإسلامية في أساسه على نزعة الزهد والتجرّد، وعلى أن الحياة عرض زائل، مما جعل الفنان المسلم - أو العائش في ظل بيئة إسلامية- يتجه نحو تبسيط الأشياء، وبالتالي تحريفها وخروجها عن شكلها المألوف أو الطبيعي، للتعبير عما يعتقده جماليًا وفنيًا دون تخطّي الحدود المُحرّمة.
يقوم جوهر العقيدة الإسلامية في أساسه على نزعة الزهد والتجرّد، وعلى أن الحياة عرض زائل
المعايير التى يقوم عليها الفن الإسلامي من كراهية التصوير، أو مخالفة الطبيعة، أو تصوير المُحال،؛ جعلت الفنان المسلم ينحو إلى تحريف الطبيعة. فعندما يكره التصوير الواقعي، يلجأ إلى مخالفة الطبيعة، لنراه يخرج عن أصول الهيئة البشرية، فيلجأ إلى الإمعان في الخيال والتأمل، والذى أسفر عن وجود عالم غير واقعي ميتافيزيقي تكون شخوصه لها قدرات خارقة، فتطير وتختفي، وما إلى ذلك، مما جعل للأسطورة والحكاية الشعبية دورًا كبيرًا في الحضارة الإسلامية، فوجدنا الخيل المُجنَّحة أو الأشخاص التي تنتقل من هيئة بشرية إلى أخرى حيوانية، والكثير من العجائب وتقلُّب الحال، والشخوص ذات الأطراف المُحرَّفة على شكل أطراف حيوانات أو تفريعات أو أوراق نباتية، أو أن يستخدم الخط العربي بكل ما له من جماليات عضوية ليرسم به شخصًا أو حيوانًا.
كما أدّى مبدأ ومعيار الوحدة والتنوع في الفن الإسلامي إلى ظهور مزيج من الزخارف والرسوم الهندسية والنباتية والحيوانية والآدمية والمناظر المختلفة، كلها مجتمعة في حيز واحد، مما جعلها تبدو بعيدة كل البعد عن الواقع. وبذلك التقى فكر وفلسفة الفن الإسلامي مع الفكر الحديث في العديد من المدارس الفنية، مثل المدرسة التكعيبية والمدرسة الوحشية، وروادها من الفنانين، مثل ماتيس الذي يبدو تأثره بجماليات التصوير لدى الفنانين المسلمين من حيث تبسيط الخطوط وتجريدها.
اقرأ/ي أيضًا: هل هناك رسائل مشفّرة على جدران قصر الحمراء؟
سعى الفنان المسلم لإعادة صياغة الأشكال، فجعل منها مزيجًا غير واقعي، وبذلك وجدت الحيوانات الخرافية التى لا أصل لوجودها على أرض الواقع، والتي تعتمد أساسًا على المزج بين آدمي وغير آدمي، مثل الأسد المجنح، أو الأسد المكون من حروف كتابية، والخيل المجنحة. أو كما ورد في كتاب "عجائب المخلوقات" للقزويني من أشكال غريبة، كما شاع في كثير من المخطوطات الإسلامية. وإذا تتبعنا قصص "ألف ليلة وليلة"، وهى تمثل المثالية والخيال الشعبي، نجد نماذج كثيرة للأشكال التي تقع في دائرة المُحال، كالطيور ذات الوجوه الآدمية، والخيل المجنحة، ورجال من نحاس، وانتقال وتحوُّل الصورة الآدمية إلى حيوانية في الحال، وغيرها من الصور العديدة الصالحة لإثارة خيال أي سوريالي عتيد. وبطبيعة الحال، لم تقتصر حدود المعين البصري والثيماتيكي لنماذج الفن الإسلامي على الأصول المحصورة في الجغرافيا والتاريخ العربيين، فتأثَّر الفن الإسلامى بالتصوير الفارسي، لا سيما فنون العصر الساساني، كما تشهد بذلك عدة رسوم تقليدية قديمة جدًا كصورة الشجرة الكلدانية المقدسة (شجرة الحياة) التي انحدرت إلى العصر الإسلامي عن طريق الفن الساساني، كما يذكر زكي محمد حسن في كتابه "الفنون الإسلامية وتأثيرها في الفنون الأوروبية".
وكانت النماذج الساسانية تتميز بخصائص فريدة تميزها عن الفنون الأخرى، فظهرت موضوعات جديدة وأنماط جديدة لوجوه الرجال والنساء، وكذلك أشكال للحيوانات العديدة، ومناظر الراقصات والمغنيات والعازفات. كما استقى المصورون المسلمون موضوعاتهم من التاريخ الأسطوري للملوك القدامي قبل الفتح العربي، كما فعل الشاعر الفردوسي فى ملحمته الشهيرة "الشاهنامة"، التى اعتمد فيها على تجميع المادة التاريخية الأسطورية التى ترجع إلى أزمان سابقة للفتح العربي، ووضحت فيها تلك الصور التى تبالغ وتمجد في مآثر الأبطال، وتتجه نحو التحريف في تصويرها لهم. وتعدّ مقامات الحريري من أهم المخطوطات التى تركها العصر المملوكي، والتي يتضح في بعض تصاويرها التأثيرات الوافدة من الفنون الأخرى، ولعلَّ في عمل المصور الشهير يحيى بن محمود الواسطي، الماثل في نسخة المقامات التي تحتفظ بها المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس، خير دليل على الدور الفعال لفن التصوير في الترويج لهذه المقامات.
قوام الفن الإسلامي تأملي فلسفي ذو نزعة صوفية تمعن النظر فى الوجود
إن خروج التصوير الإسلامي من أصول الهيئة البشرية كان هدفًا أساسيًا ومعيارًا من معايير وأهداف الفن الإسلامي، واتجه الفنان المسلم إلى الطبيعة محللًا عناصرها، مُرجعًا إياها إلى حالتها الأولية، في محاولة منه لإعادة تركيبها حسب رؤية جمالية خاصة به، ولم يكن يعنيه محاكاة الطبيعة، ولا كان عاجزًا عن ذلك، فلم يُعر لتفاصيل الوجوه والأشكال الآدمية اهتمامًا كبيرًا، وعبّر عنها بخطوط بسيطة بدائية، دون أن يسعى إلى إضافة الوسائل التي تقرِّب هذه الأشكال من حقيقتها. وكان الفنان المسلم يعتمد على معيارين ومبدأين أساسيين في نهجه، أولاهما تحريف الواقع، أي تغيير معالمه الخاصة، وتعديل النسب والأبعاد طبقًا لرؤية الفنان نفسه، وثانيهما تجريد الشكل والواقع، أي الابتعاد عن تشبيه الشيء بذاته.
اقرأ/ي أيضًا: العري في الفن.. هاجس إنساني عابر للتاريخ
نستطيع أن نخلص إلى أن قوام الفن الإسلامي قوام عقلي، كما صاغته الشريعة والفلسفة الإسلامية بتعاليمها ومبادئها، فهو قوام تأملي فلسفي ذو نزعة صوفية تمعن النظر في الوجود. وبذلك باتت الحضارة الإسلامية حضارة متفرّدة استفادت فنونها في بادئ الأمر من التراث الحضاري الروماني والبيزنطي والقبطي. ورغم أن صوفية الدين الإسلامي وجدت صدى لها- خاصة في فنون صدر المسيحية، من حيث أساليبها التجريدية، إذ وضح ذلك الأسلوب الذى يجرِّد الفروع والأوراق من صورتها الطبيعية إلى أوضاع فنية تجريدية- إلا أن فناني العرب استطاعوا بعد ذلك خلق وإبداع ذلك الطابع الإسلامي الأصيل الذي نبع من وجدانهم العقائدي.
اقرأ/ي أيضًا: