من يطّلع على صورة "الزيتونة باي"- خليج مار جرجس قديمًا، يعرف جيدًا ما قامت به شركة سوليدير بعد تبنيها تغيير معالمه إبّان الحرب الأهلية، كجزء من تغيير معالم بيروت بأسرها، ثم تحويله إلى مارينا لاجتذاب السيّاح. هي التي محت ذاكرة المكان، واختزلت كل ما يرمز إليه بالاسمنت. هذا الشكل الهندسي الذي استوردته من الغرب، لتزرعه في قلب بيروت "مارينا " بطراز كولونيالي لا يناسب ذاكرة المدينة.
يعود اسم خليج مار جرجٍس القديم إلى القديس مار جرجس أو سان جورج، المكنى أيضًا بالخضر لدى المسلمين. وهو قديس وداعٍ للديانة المسيحية. وقد شيّد بإسمه كنائس في مختلف العالم ولا سيما في بيروت، اعتبر شفيعها عند المسيحيين. وتتعدّد الروايات حول حقيقة القدّيس. يقول أحد الكتّاب أن الخضر، أي مار جرجس هو مواطن بيروتي. أقام قديمًا في محلة ميناء الحصن - مكان تشييد فندق السان جورج المسمى على اسمه. وفي ذلك الزمن، كان التنين يخرج أحيانًا من البحر، ويلتهم أحد المارة وينشر الرعب في المدينة. فاعتلى مار جرجس صهوة حصانه الأبيض، وتصدى للتنين وقتله بطعنة واحدة وأراح الناس منه إلى الأبد. فسمي المكان بخليج مارجرجس إلى يومنا هذا. تلك أيقونة دينية، أما مجتمعيًا، فالواجهة البحرية شيء آخر.
كان الخليج قديمًا يضم مقاهي تراثية، تتميز بطابع المدينة القديم. لعلّ أبرزها ذاك المقهى المتواضع التي صنعت كراسيه من الخيزران، وغرست أعمدته الخشبية في البحر. يعرفه سكان بيروت بـ "قهوة الحاج داوود". كان من أشهر مقاهي البحر. إضافة إلى النوادي الليلة مثل "الكيت كات" و"الليدو". ومع حلول الحرب الأهلية، هدم ذاك الشارع، لتُكمل عليه شركة سوليدير بتحويله إلى "مارينا".
الدخول إلى "الزيتونة باي" والتنزه على الرصيف الخشبي، ليس كالتنزه على كورنيش الروشة في بيروت. فالأول لا يستقبل إلا وجوه المدينة الأغنياء، بينما يلجأ أبناء بيروت الفقراء إلى الروشة. يختلف المشهد بين المنطقتين. "الزيتونة باي" تحوّلت إلى موقف يركن فيه الأغنياء يخوتهم البيضاء غالبًا. يقف كل يخت متبجحًا بضخامته وثروة صاحبه. الرصيف الخشبي الذي يتراصف الخشب فيه بدقة لا متناهية. الإنارة الدافئة والتي تعطي انطباع بأنك في فيلم هوليوودي. المطاعم الراقية والتي لا تستقبل سوى أصحاب الأحذية البراقة، أو من أراد أن يكون غنيًا لنصف ساعة. ولا يخلو المكان من بعض الزوّار الذين يكتشفون المكان لأنه وبعد سنوات على إنشائه لم يتجرأوا على زيارته.
على بعد مسافات، يتجلّى التقسيم الطبقي في الشكل العام لمنطقة الروشة. والذي للمصادفة، قررت بلدية بيروت إغلاقه بالشباك الحديديٍة في وجه الزائرين، لتحويله إلى منطقة شبيهة بالمارينا. على كورنيش الروشة تجد أناس يشبهون وجه المدينة المتعب. يأتون لمقاسمتها الهم. يرتاحون في صدرها ويتأملون في بحرها. لا يكلفهم المشوار سوى ثمن كوب النسكافيه أو صحن الذرة الذي يشترونه. لا حاجة لدفع بدل موقف لركن سيارتهم. في المرة الأخيرة التي حاولت فيها بلدية بيروت تركيب عدادات الوقوف. نزل شباب الحراك وأزالوه غضبًا لتحويل آخر مسافة حرّة إلى أسيرة للباركميتر.
حاولت البلدية تركيب عدادات لمواقف السيارات فكسرّها الشبان اعتراضًا
الزيتونة ضدّ هوية المدينة
في الليلة الماضية التي سبقت الحراك، كان عدد زوّار الزيتونة باي محدودًا. سيّاح يتعرّفون إلى المكان. شاب وحبيبته احتلا المقعد الخشبي بمحاذاة البحر. فتاة ورفيقتها تمارسان رياضة المشي. كانت الأغاني الأجنبية العالية تصدح من الـ "The pop" وهو المقهى المداور لترسي جو البلد الأجنبي. في المطاعم الفاخمة، يجلس أصحاب الثروات الذين لا يجدون عبئًا في دفع ثمن فاتورة صحن اللحم 100 دولار أمريكي، في الوقت الذي كان فيه النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي يتداعون إلى النزول اليوم واسترجاع الأملاك البحرية. كانت حملة "جاي التغيير" تدعو إلى إحضار الغذاء وكل ما يرغبون به، لأنه لا يُسمح للمواطنين بإدخال الطعام معهم في الأحوال العادية.
بالفعل. كان مشهد الزيتونة باي لحظة اقتحمه ناشطو الحراك اللبناني غير مألوف. يكاد يكون للمرة الأولى مزدحمًا بأفراد طبيعيين، ونقصد هنا بأفراد لا يسيرون حسب الاتيكيت أو البروتوكول العام. للمرة الأولى تتنشق الزيتونة باي رائحة "المجدرة أو العدس الأحمر"، أو تعبق رائحة المكان بسندويش فلافل لا يتعدى ثمنها الـ 2500 ليرة لبنانية. جلست يارا ورفاقها على بساط وافترشت أمامها طعامها، دون أن تنسى إحضار البصل والقدونس معها. بينما على الجانب الأخر، غنوى مع "الفتة والكراعين" كأنها في Picnic. لعبة الشطرنج كانت حاضرة، كذلك هذا الرجل الذي التف حوله الناس ليشاهدونه وهو يرقص. الرقص في هكذا مكان يعتبر "Vulguaire". كان الجميع يتصرف على راحته، مجموعة من الشباب قاومت الحر بالسباحة في البحر، بينما آخرون كانوا يرددون "هذا المكان لنا، هذا ملك الشعب".هذا المنظر الذي أغضب شابةً تدّعي أنها لبنانية لا تكترث بالأموال التي خصصت لبناء هذ المكان على حساب الشعب، كل ما اهتمت به بأن هذا التصرف غير حضاري. وافتراش الأرض أو الأكل لا يكون سوى في الأماكن الطبيعية"!!
"الزيتونة باي" للأغنياء فقط أو للذين يجيدون التصرف كأغنياء
بعد استراد الأملاك البحرية، انتقلت حملة "جايي التغيير" والمشاركون إلى منطقة الدالية لاسترجاعها. أزالوا الأسلاك الشائكة وانتشروا. لم يكترثوا لأوامر الأمن التي تمنع الدخول إلى هذه المنطقة. كل ما كان يهمهم استرداد حقهم بالمساحات بعد أن أحكمت الدولة قبضتها عليها. هذه المنطقة الأقرب إلى الشمس، كانت تضحك لعودتها ولو ليوم واحد إلى الناس. كل شيء، مجددًا، يوحي بأن الحراك اللبناني ما زال قائمًا.
إضراب عن الطعام في بيروت
قبل أيام من "اقتحام" الزيتونة باي، والدالية، تمهيدًا لإعادتها إلى سابق عهدها، كمكانٍ عام، أضرب بضعة شباب لبنانيين عن الطعام، احتجاجًا على تجاهل السلطة لمطالبهم. وحينما أقدم المهندس اللبناني وارف سليمان ابن الـ 28 عامًا على إشهار إعلان إضرابه عن الطعام يوم الخميس المنصرم، ظن أنه سيكون وحيدًا في هذا الإضراب. ساعات قليلة، وصل خلالها عدد المعتصمين إلى 14 شخصًا. افترش هؤلاء الخيم، وحولوا وسط بيروت الراقي إلى نموذج مصغّر عن أحياء بيروت الفقيرة. الفرش على الأرض، ثيابهم متدلية على حبال الخيم، والنوم في العراء. صورة انتقلت إلى أعين الوزراء والمارّين من ساحة العازارية، تدعو إلى التفكر ولو قليلاً بوجود مواطنين آخرين يعيشون على هذه الحال، ومنذ سنوات طويلة.
في الخيمة المجاورة للشباب المعتصمين، يقبع الدكتور علي برو المضرب عن الطعام أيضًا. هي ليست المرة الأولى التي يُضرب فيها عن الطعام. في العام الماضي، صام عن الأكل لمدة عشرين يومًا للمطالبة بإقرار سلسلة الرتب والرواتب. إلا أن أحدًا لم يُعره اهتماماً، سواء من السلطة أو المجتمع المدني. عاد الى منزله خائبًا ويائسًا. أيقن أن الشعب اللبناني مخدّر، ومتخلّ عن مواطنيته. اليوم، انتفاض الشعب خارج الاصطفاف الحزبي والسياسي والمذهبي، أعاد الروح إلى برو، للخروج وإعادة إشهار إضرابه عن الطعام، بالرغم من اختلافه مع مطالب الشبان. فهو يعي جيدًا شراسة الطبقة الحاكمة التي لا تسمع.