في افتتاحية التراصوت في ختام العام 2022، ورد عنوانٌ صعب يعبّر عن انزياح نحو ضرورة توصيف الأمور بما هي عليه حقًا في العالم العربي: الخيبة، في المشهد العام، على مستوى الانتقال الديمقراطي والتحوّل الاقتصادي المترافق مع استمرار تقويض كرامة الإنسان وحقوقه، حتّى أن البعض قد جاهر، حسرةً أو تشفيًا، بنعي الديمقراطيّة وإعلان الخراب وتأبّد الاستبداد والتخلّف، أو يبشّر بأن "درب الآلام" ما يزال في بدايته، وليس ثمّة نهاية قريبة له.
مخرجات استطلاع المؤشّر العربي 2022 تدلّ فعلًا على أن الأمل مستمرّ، بأعوام أفضل قادمة للعرب
إلا أن العنوان استدرك بالأمل، وتشبّث بالموقف الذي يتكئ على أدلّة موضوعيّة ومنطلقات شعورية تؤكّد استمراره، متجنبًا إغراء التحيّز المعرفي الشائع لدى البشر إزاء الأخبار السيئة والكوارث العامة والتنبؤات السوداوية، وكأنّها محفّزات ضرورية للتجهّز لما هو قادم، والانشغال بها عمّا هو أثقل، بما يجعلها دومًا غنيمة للصحفيين يدوّرونها ويبحثون عنها أو يخترعونها لو لزم. هذا الأمل المستمر بحسب العنوان، أتى من حيث لا نحتسب؛ من حدث رياضيّ عالميّ أقيم على أرض عربيّة، احتفى به ملايين العرب لأسباب غير رياضيّة: الشعور بالانتماء إلى أمّة واحدة، وتجدّد اليقين بأننا نستحقّ حياة أفضل، وأنّ مقوّمات النهوض والتحوّل السياسي والاقتصادي ما تزال قائمة، وأن شروط الانتقال إلى الديمقراطية وتجربة العيش الكريم متوفّرة، وأن لرصيدنا الحضاريّ مكانًا معتبرًا في هذه المعمورة.
كانت تلك بارقة أمل عامّة وكبيرة عربيًا في العام الفارط، بدّدت ذلك الشعور الطاغي بين قطاع كبير من الشباب الذين طالبوا منذ العام 2011 بأن يكون للشعوب العربية دور سياسي فاعل في إطارٍ من الحريّات العامة والفردية والكرامة الإنسانية والتحديث الاقتصادي والتنمويّ، يستوعب المخيّلة السياسيّة الجمعيّة التي تشكّلت ونمت خلال سنوات الربيع العربي رغم الانتكاسة التي تعرّض لها، وتراكم الوعي العام لدى أجيال جديدة بقضايا العرب الأساسية وفي مركزها قضيّة فلسطين، التي تحوّلت إلى قيمة أساسية في وجدانهم.
وفي الوقت الذي ادّعى فيه البعض أن هذه اللحظة التاريخية مجرّد "كعك هوى"، وأنّها لذّة رومانسية عابرة ستنقضي فور انقضاء الحدث، أتت نتائج المؤشر العربي للعام 2022، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في الدّوحة، لتقدّم أدلّة تقوّض هذه الادعاءات، وتعرض بيانات تسند هذا الأمل بأن الرهان على مستوى الشعوب العربية ما يزال متعلقًا بالديمقراطية وثقافتها وشروطها، وفي مقدمتها الحريات والحقوق المدنية والسياسية. وتأتي أهمية هذه البيانات من حجمها والمنهجية العلميّة المعتبرة المتبعة في جمعها وعرضها، حيث تم استطلاع رأي 33300 فرد من 14 دولة عربية، تعادل زهاء 85% من إجمالي سكّان المنطقة العربية، هذا بالإضافة إلى القيمة التي يستقيها هذا الاستطلاع الأضخم عربيًا من البناء على سبع دورات سابقة، إذ نفّذ الاستطلاع الأول من المؤشّر العربي في العام 2011، أي تزامنًا مع الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي.
فالعرب بحسب هذا الاستطلاع يرون أنّ مجتمعاتهم مهيّأة لممارسة الديمقراطية والانتقال إليها، وأن النظام الديمقراطي أفضل من غيره من الأنظمة، وذلك رأي ثلثي المستجيبين تقريبًا (72%)، وهو ما يدل دلالة واضحة بحسب تقرير المؤشر على استمرار التأييد الشعبي العربي للديمقراطية، ورفض المقولات المعادية لها في المنطقة، وبنسب رأت ارتفاعًا في بعض الدول كالأردن والكويت والعراق وموريتانيا. كما أشارت النتائج إلى أن النظام الديمقراطي "ملائم جدًا أو ملائم إلى حد ما" للتطبيق في بلدانهم، وذلك بنسبة 71% من المستطلعة آراؤهم في نسخة هذا العام من المؤشر العربي، رغم وجود تباينات لافتة في الآراء من بعض الدول التي عانت تعثّرات اقتصادية وسياسية في الآونة الأخيرة مثل تونس، أو تحوّلات اجتماعية واقتصادية مثل السعودية، إذ شهدت تسجيل انخفاض في نسب المعارضين لمقولة أن النظام الديمقراطي غير ملائم لبلدانهم، مقارنة بنتائج المؤشر في السنوات الماضية.
هذا التأييد اللافت للنظام الديمقراطي بين الكتلة الأكبر من المستجيبين في الاستطلاع، لا تشير إلى مجرّد حالة تبشيرية حالمة ومطلقة بالنظام الديمقراطي، بقدر ما تشير إلى رفض النقد الشمولي لهذا النظام والردّة عن تجربته ونقده وتطويره في العالم العربي. ولعل ذلك يتجلّى بوضوح في رفض أغلبية الرأي العام العربي بحسب الاستطلاع لنظام الحكم السلطوي، وأنظمة الحكم العسكرية، والأنظمة التي تقصر المشاركة فيها على أحزاب بعينها (دينية أو غير دينية)، وصولًا إلى رفض نظام الحكم الديني السلطوي الذي يستأثر بالسلطة بلا انتخابات ولا أحزاب، وهو ما يعبّر عن موقف واضح رافض لخطاب القوى المعادية للديمقراطية في المجتمعات العربية، والإصرار على إتمام المحاولة الديمقراطية العربية وإنجاح تجربتها، مع التخفف من عقد النقص الثقافوية والادعاءات العنصرية المغرضة بفجاجتها.
العرب أمّة واحدة
يعرّفنا المؤشّر العربي عبر نتائج الدورة الجديدة لاستطلاع العام 2022 على أنّ كتلة وازنة من العرب المستجيبين يشعرون أنّهم ينتمون إلى رابطة عربيّة مشتركة، ذات سمات واحدة رغم الحدود المصطنعة بينهم، وذلك بنسبة 39%، إضافة إلى 41% يرون أن سكان الوطن العربي ينتمون إلى أمّة واحدة، لكنهم شعوب يتميز كلّ منها بسمات مختلفة. هذا يعني أن الغالبية الساحقة من المستطلعة آراؤهم (80%) يرون أن العرب أمّة وحدة بصرف النظر عن مستوى التمايز بين الشعوب. وجدير بالذكر هنا أن هذه نتائج إجابات تم الحصول عليها في فترة سابقة لمونديال قطر الاستثنائي، والذي يتفق جميع المراقبين على أنه "مونديال الوحدة العربية"، الذي عبّر عن توق العرب لأمر يجمعهم، وقدّم دليلًا على أنّ ما يجمع بينهم أكبر من دعوات التشرذم القُطرية الشوفينية التي وقفت وراءها أيضًا ذات القوى المعادية للديمقراطية والتحرر والمتحالفة مع الدولة التي يرى العرب، بحسب الاستطلاع ذاته، أنّها التهديد الأكبر لحاضرهم ومستقبلهم.
كما أن الأرقام التي سبق عرضها وتوسّع تقرير المؤشر العربي للعام 2022 بتفصيلها فيما يتعلق باتجاهات الرأي العام نحو الديمقراطية، والموقف منها ومن الثورات العربية، تؤشّر إلى أن هذه الحالة القوميّة واستشعار الرابطة العربية بين شعوب البلاد العربية، وتزايد نسبة المؤيدين لهذا الاعتقاد بين المستجيبين عبر السنوات التي نفّذ فيها الاستطلاع، هي ليست حالة رومانسية ولا عنصرية، بل حالة وثيقة الارتباط بآمال التحوّل الديمقراطي والتغيير السياسي في المنطقة، والاتكاء على العروبة كأساس لهذا التغيير ورافع لنضال العرب جميعًا من أجل الحرية والعدالة، وهو النضال الذي لا ينفصل بحال عن النضال من أجل فلسطين، باعتبار أن الصراع على الحرية والعدالة والكرامة لا يتجزّأ.
تفيد النتائج الأساسية في المؤشر العربي للعام 2022 أن ثمّة بالفعل أملًا حقيقيًا، يتمثّل على أقلّ تقدير بما تعنيه البيانات التي يقدّمها المؤشر من أن المهمّة ليست هيّنة ولا مجّانية أمام أنظمة الاستبداد
تفيد النتائج الأساسية في المؤشر العربي للعام 2022 أن ثمّة بالفعل أملًا حقيقيًا، يتمثّل على أقلّ تقدير بما تعنيه البيانات التي يقدّمها المؤشر من أن المهمّة ليست هيّنة ولا مجّانية أمام أنظمة الاستبداد التي شلّت المجتمعات العربية ولا أمام مشروع التطبيع الذي كان الأحرص على تحويل الربيع العربي إلى صحراء مهلكة لصالح دولة الاحتلال الحريصة بدورها على أن تظلّ "الديمقراطية" الوحيدة في الشرق الأوسط، والمستعدة مع حلفائها لفعل أي شيء لتلميع صورة "إسرائيل".
إن مخرجات استطلاع المؤشّر العربي تدلّ فعلًا على أن الأمل مستمرّ، بأعوام أفضل قادمة للعرب، وتذكّرنا مجددًا بما قال درويش: "لا غد في الأمس، فلنتقدّم إذًا".