يعد مفهوم المجال العام أو الفضاء العام "public sphere" من المفاهيم المتداولة في الحقل العلمي للعلوم الإنسانية والاجتماعية عند كثيرٍ من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة مثل هبرماس، وحنة أرندت، وغيرهم من المفكرين الذين لهم إسهام في إنتاج المعرفة العلمية. ويعد أيضًا مبدأ من مبادئ الدولة الحديثة. وذاع صيته كأداة مفهومية في النقد والتحليل، والتفاوض والحوار والنقاش. وهو باختصار يقوم على فكرة الشعب السيد المُستقِل الذي يجب أن يعبّر عن آرائه وأفكاره ومشكلاته في رأي عام يسمح لكل مواطن أن يكون له الحق في دخول هذا الفضاء، ويكون مفتوحًا للجميع، يتضمن مناقشات وحواراتٍ بين الاتجاهات والآراء والأفكار بين أفراد المجتمع، وهنالك علاقة وطيدة بينه والديمقراطية والتحول الديمقراطي، والتواصل، والمواطنة، ولا يمكن إنجاح هذه العملية التواصلية إلا في فضاء الديمقراطية.
إن ما يجب أن تتضمنه فترة الحكم الانتقالي السوداني عقلانية التفكير، وعدم إعطاء الفرصة لعودة العسكر في الفترة الانتقالية وبعدها. وهذا يتم عبر تشكيل مجال عام جديد لا يتم فيه إقصاء وتهميش أي مكون اجتماعي أو سياسي
وهو فضاء تتحقق فيه المساواة والمواطنة بين الجميع، ويمكن تحقيق هذا المجال في ظل ظروف مساعدة وهي تساوي الجميع في المناقشة والحوار وتداول الأفكار بطريقة محايدة تضمن لجميع المشاركين فيه من أفراد المجتمع المساهمة في إطار متساوٍ وحرّ في النقاش العام، الهدف منه تحقيق التفاهم والاندماج والتوافق بين المتحاورين في القضايا المطروحة. ومن شروط دخول الفضاء العام يجب على كل متحاور يدخل هذا الفضاء أن يتخلى عن انتماءاته الذاتية والأيديولوجية حتى لا يؤثر ويفرض رأيه على غيره.
اقرأ/ي أيضًا: جداريات الثورة السودانية.. الخرطوم تحتفي بشهدائها
بناءً على ما سبق يتبادر في أذهاننا لماذا نحتاج للفضاء العام سالف الذكر في فترة الحكم الانتقالي في السودان؟ وهل هو من المسلمات الرئيسية لحدوث التحول الديمقراطي؟ وللإجابة على هذه التساؤلات يجب الرجوع إلى بنية المجتمع السوداني، وذاكرته التاريخية منذ تكوينه مُرورًا بالكولونيالية والدولة الوطنية. بالطبع تكون الإجابة نعم بلا شك، لأن المجتمع السوداني مجتمع متنوع ثقافيًا وإثنيًا وجغرافيًا...الخ، وأصبح يستغَل هذا التنوع بواسطة النخبة السياسية للوصول إلى السلطة وتحقيق المصالح. ومنذ الاستعمار يعيش المجتمع السوداني في حالة استقطابات أيديولوجية سياسية، وعقائدية قبليّة. مجتمع عاشَ مناضلًا لدحر أطماع القوى الدولية والإقليمية التي تبذل الغالي والنفيس من آجل المحافظة على مصالحها التي تجهضها الدولة المدنية الديمقراطية إذا قامت.
إضافة إلى ذلك يجب أن يشمل التحليل للفضاء العام في السياق السوداني التنقيب للتاريخ المتراكم وفشله، وربطه بالراهن السوسيولوجي لحل المُعضلة الحقيقية التي تقف أمام قيام الدولة الديمقراطية المدنية التي تروم في إشكالية عدم الاستفادة من تجارب الماضي خصوصًا ثورتي 1964 و1985، وفشل هذه الثورات في إنجاب الديمقراطية بسبب مؤسسة العسكر التي استغلت لهيب المجال العام الذي أشعلته الصراعات الحزبية وذاكرة الألم والحروب والانقسامات المتراكمة.
بعيدًا عن التحقيب للتاريخ السوداني المؤلم، وتداول السلطة فيه الذي يترنح بين وتر ثلاثي مقيت منذ الاستقلال عام 1956 الذي يماثل "الخط التطوري" بالمعنى الأنثروبولوجي (حكومة مدنية/ صراعات حزبية/ انقلابات عسكرية). نجد أن ثورة 19 كانون الأول/ديسمبر 2018 الحالية التي أدت إلى إسقاط رأس النظام في الحادي عشر من أبريل/نيسان هذا العام منذ تلك اللحظة ما زالت تناضل، وتقاوم غياهب الدولة العميقة رغم التحديات الداخلية والخارجية من أجل الوصول إلى دولة مدنية في الفترة الانتقالية لكي تؤسس لنظام ديمقراطي حُر عبر الانتخاب بعد ثلاثة سنوات.
ومن الملاحظ في جماليات الثورة ومشاهدها والتتبع ليومياتها ومواكبها نجد أن مجالها الاحتجاجي بثَ الوطنية التي باتت مفقودة في ظل النظام السابق الذي جاء إلى الحكم عبر الدبابة (انقلاب عسكري)، وحكم البلاد لما يقارب الثلاثين عامًا وهيمن على المجال العام بقبضة من حديد. وبثت الثورة أيضًا الأمل والحلم في أرواح الشعب السوداني لتكوين الدولة المدنية الديمقراطية "المنتظرة" المحققة للعدالة الاجتماعية. دولة خالية من الحروب والصراعات، وخالية من الثنائيات المتناقضة، ثنائية مَرّكز مقابل هامش، غرب مقابل شمال، دولة خالية من ثنائية عربي مقابل إفريقي التي أصبحت تقوم عليها الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والحركات المسلحة التي تشكل تُربة خصبة للانقلابات العسكرية.
إضافة إلى ما سبق، فإن ما يجب أن يتضمنه المجال العام في فترة الحكم الانتقالي عقلانية التفكير، وعدم إعطاء الفرصة لعودة العسكر مرة أخرى في الفترة الانتقالية وبعدها. وهذا يتم عبر تشكيل مجال عام جديد لا يتم فيه إقصاء وتهميش أي مكون اجتماعي أو سياسي حتى الدولة العميقة وبقايا النظام السابق التي ما زالت قائمة يجب أن تفكك في الوقت المناسب وبالطرق القانونية والقضاء المستقِل، لأن الإقصاء يشكل تحالفات جديدة مع الجماعات الأخرى المقصية والدولة العميقة والعسكر كما حدث في التاريخ السوداني ويأتي بانقلاب عسكري مرة أُخرى. لذلك يجب أن يشمل المجال العام في هذه الفترة بالتحديد قبول الآخر، وحرية الرأي، والتعبير، والنقاش، ومراعاة المصلحة العامة لجماعية الجماعة والوطن بدلًا من مصلحة الأيديولوجية والجغرافية والقبيلة.
اقرأ/ي أيضًا: حميدتي.. البدوي الذي لا نحبه!
وعليه يجب على قوى الحرية والتغيير التي تقود الحراك السياسي، والتي تفاوض باسم الشعب السوداني كسب ثقة الشارع العام الذي يشكل كرت ضغط وكبح لقوة العسكر. لأن التحديات كما ذكر مرتبطة بالداخل والخارج. يتجسد العامل الخارجي في محورين لهما التأثير في تغيير موازين الحراك والقوى، الأول متمثل في القوى الإقليمية المعادية للحراك السياسي منذ بداية الربيع العربي، أي قوى الثورة المُضادّة التي تحبذ حكم العسكر والجنرالات خوفًا على مصالحها وامتدادًا لسيطرتها وحماية أراضيها بواسطة قوات "الدعم السريع" التي تشارك في التحالف العربي لحرب اليمن. والعامل الثاني يتمثل في القوى الدولية ومن أشهرها روسيا والصين، وبسببها فشل مجلس الأمن الدولي في الخامس من حزيران/يونيو بإصدار بيان يدين فيه أحداث فض اعتصام القيادة العامة.
يجب على قوى الحرية والتغيير التي تقود الحراك السياسي، والتي تفاوض باسم الشعب السوداني كسب ثقة الشارع العام الذي يشكل كرت ضغط وكبح لقوة العسكر، لأن التحديات مرتبطة بالداخل والخارج
امّا الداخلي متجسد في المجتمع السوداني نفسه الذي عاش ثلاثين عامًا في ظل الحكم العسكري ودولة التمكين و"الإسلام السياسي" والشمولية، وسياسية تفريق المكونات الاجتماعية عبر تقريب البعض منها وإبعاد الأخرى، وبسبب هذه السياسيات ظهرت الفجوة بين الهامش الملتهب بالصراعات القبليّة والمناطقية. والمركز المكتظ بالسكان والفارين من جحيم الحروب ويعاني الأخير من الازدحام في وسائل النقل والمعيشة والصحة...إلخ. ويحاول المجلس العسكري أن يعزف على هذا الوتر الحساس ويستغل انقسامات المجتمع لكي يجد الشرعية المجتمعية والدولية والانقضاض على الاتفاقيات بسيناريو حفظ الأمن وحماية البلاد من الانزلاق إلى العنف لحكم البلاد.
اقرأ/ي أيضًا:
الجنود السودانيون في اليمن.. ضحايا صفقة المجلس العسكري مع الرياض