بالموازاة مع حرب التحرير التي كان يخوضها رجال المقاومة، أجج المثقفون المغاربة نضالهم في المجال الفكري والثقافي، وعلى اعتبار أن المسرح أحد أهم الأشكال الثقافية المؤسسة للوعي الاجتماعي فقد لعب خلال القرن العشرين دورًا هامًا في مقاومة الاستعمار وربط المغاربة بقضيتهم الوطنية، ويجمع الدارسون للمسرح المغربي على أن البدايات الأولى للفن المسرحي خلال عشرينات القرن الماضي ظلت مضايقة ومضطهدة من جانبين:
- جانب الدين اعتبر ممارسي المسرح كفارًا، خاصة أحمد محمد بن الصديق في كتابه "إقامة الدلائل على حرمة التمثيل"، حيث يصف الممثلين بالقردة والخنازير ...إلخ.
- جانب الإدارة الاستعمارية التي اضطهدت العاملين في مجال المسرح.
ومن هنا اشتهرت عدة شخصيات مغربية بأدوارها البطولية والنضالية، من بينها الشخصية التي نحن بصدد الوقوف على دورها في هذا المجال ألا وهي شخصية الشهيد محمد القري، وهو من قبيلة قرة الواقعة في إقليم تاونات، شرق فاس، ولد في 6 كانون الأول/يناير من عام 1900.
أول ظهور لمحمد القري كمسرحي، يعود إلى مسرحية "العلم ونتائجه"، التي تحمل عنوانًا آخر وهو "اليتيم المهمل والمتري العظيم"
تلقى مبادئ القراءة والكتابة على يد والده الفقيه أحمد بن الحاج عبد الرحمن الصنهاجي، فانكب على الدراسة والتحصيل مند نعومة أظافره، وحفظ القرآن الكريم والمتون المشهورة كمختصر خليل، والمرشد المعين لابن عاشر، وألفية ابن مالك، والأجرومية وغيرها، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره. فتتلمذ محمد القري بالدرجة الأولى على يد شيخ الإسلام المرحوم محمد ابن العربي العلوي والشيخ أبي شعيب الدكالي وغيره من العلماء... فكان لهذه التلمذة أعظم أثر على نفسه وتكوينه، مما حبب إليه الاطلاع على آداب العرب واستظهار أشعارهم. وقد عايش القري بحكم ميلاده في بداية القرن العشرين مجموعة من التحولات الكبرى التي عرفها المغرب، فقد شهد في مرحلة طفولته الإرهاصات والدسائس التي حيكت من أجل احتلال البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: منصور الصّغير.. أن تقهر المسافات بالمسرح
كان أول ظهور حقيقي لمحمد القري مقرونًا بكتباته المسرحية يعود لمسرحية "العلم ونتائجه" وتحمل عنوانًا آخر وهو "اليتيم المهمل والمتري العظيم"، وقد قدمتها فرقة الشبيبة الفاسية في فاس شهر نيسان/أبريل 1928، وجاء مضمون المسرحية منسجمًا تمامًا مع تصور الحركة الوطنية لحاجيات تلك المرحلة، وعلى رأسها الإصلاح الاجتماعي.
على المنوال نفسه، جاءت "مسرحية الأوصياء" التي عرضت لأول مرة في شهر نيسان/أبريل سنة 1932 من طرف جمعية الجوق الفاسي للتمثيل العربي، برئاسة الفنان عبد الواحد الشاوي، فقد اختار هذه المرة موضوع الأطفال اليتامى وسوء المعاملة التي يتلقاها معظمهم على أيادي الأوصياء غير الأمناء، مع ما يتبع هذه المعاملة السلبية من نكبات تربوية وأخلاقية.
ولمحمد القري روايات مسرحية أخرى وهي "مجنون ليلى"، ثم رواية "المكر والخداع". فكلها عبارة عن مسرحيات اجتماعية لكن في باطنها أبعاد سياسية. استطاعت إطلاق العنان لمجموعة من المقالات الصحفية التي اعتبرت بمثابة البدايات الأولى للنقد المسرحي في المغرب، والذي ساهم في تطور الوعي الفني ومناقشة وتحليل العديد من الظواهر.
وصلتنا أخبار مسرحياته التي تهتم بتاريخ المغرب، كمسرحية "شهيد صحراء"، التي استلهم أحداثها من سيرة المجاهد المغربي الشيخ ماء العينين قائد المقاومة الوطنية في الجنوب المغربي، و"المنصور الذهبي" جميعها تؤكد التشبث بالتاريخ الوطني والقومي باعتباره وسيلة فعالة للتواصل والتفاعل مع الساحة الوطنية.
يبقى محمد القري ذاكرة حية مشرقة يستحق العودة للبحث في تراثه وإبراز مواقفه ونضاله الثقافي والسياسي
كانت هذه المسرحيات أقرب إلى المذكرات التاريخية منها إلى الأعمال الدرامية، واستخدمت لغلة شعرية دقيقة مع استلهام التراث المغربي من خلال الشخصيات البطولية لإيقاظ الوعي القومي والشعور الوطني، وبذلك يمكننا القول بأن العلاقة بين المسرح والتراث تبقى علاقة عضوية. وفي ما يلي نبذة من المسار النضالي للشهيد محمد القري:
- في سنة 1921: ساهم محمد القري إلى جانب ثلة من المثقفين في تأسيس أول جمعية ثقافية مغربية، جمعية قدماء تلاميذ ثانوية المولى إدريس.
- في سنة 1923: أسس محمد القري أول فريق مسرحي مغربي "جوق التمثيل الفاسي" في ظل جمعية قدماء تلاميذ ثانوية المولى إدريس بفاس، وفي نفس السنة ظهر له أول نص مسرحي مغربي.
- في سنة 1930: تزعم محمد القري مع قلة من إخوانه الطلبة والعمال والحرفين مظاهرات شعبية بمدينة فاس، ضد مشروع الظهير البربري القاضي بفصل العرب عن الأمازيغ.
- في سنة 1924: عندما شقت الحركة الوطنية طريقها النضالي، وكونت أول جماعة وطنية سياسية أطلقت على نفسها أسم "كتلة العمل الوطني"، كان محمد القري من بين أعضائها العاملين، كما كان من بين كتابها الكبار.
- في سنة 1935: ونتيجة لنشاطه الفني، والفكري، والأدبي، والوطني المتصاعد، اعتقلته السلطات الاستعمارية بتهمة التحريض على الثورة، وحكمت عليه بالأعمال العسكرية الشاقة المؤبدة، ليطلق سراحه فيما بعد.
- في سنة 1937: أثناء القيام بمظاهرات تشرين الأول/أكتوبر، قضى محمد القري ثلاثة أسابيع يخطب فيها متنقلًا بين مسجد القرويين ومسجد الرصيف، ومتنكرًا في زي امرأة، فكان إذا دخل المسجد عاد إلى جلبابه وعمامته، وخطب في الجماهير مثيرًا الحماس في النفوس، وبمجرد انتهاء المظاهرات ألقي القبض عليه وزج به في السجن ليستشهد تحت التعذيب، فكان محمد القري أول شهيد للحركة الوطنية بالمغرب سينال بهذا لقب "دفين الصحراء".
وقد رثاه عقب وفاته رفيقه في سجن كلميمة بصحراء الشرقية عبد السلام بن أحمد الوالي بقوله:
أننسى القري الغريد تجرع ما تجرع بالجلاد
إلى أن مات في الميدان حرًّا شهيدًا ليس يعبأ بالعوادي
تركناه بمصرعه وجئنا نعزي القوم في ثوب الحداد
فهل لي من غير العين دمعًا لأبكيه إلى يوم المعاد.
يمكن القول، إن مسرح محمد القري الذي ظهر نتيجة ظروف سياسية وفكرية خاصة، لعب دورًا نضاليًا هامًا، فقد بدا ملتزمًا بالقضايا الوطنية، كما استطاع أن يعمل من داخل المسرح على بلورة الخطاب السياسي ضد المستعمر، وكان بالنسبة له الفضاء الأنثروبولوجي الأرحب لطرح مشاكل المغاربة، فلقيت أعماله عند عرضها كل شروط النجاح، من هنا اكتسب أهمية بالغة خاصة بالنسبة لمسرح لا يزال أيضًا في طور النشأة والتكوين.
اقرأ/ي أيضًا: المغرب.. هل تنفع برامج "التوطين" مع جمهور المسرح؟
يبقى محمد القري ذاكرة حية مشرقة يستحق العودة للبحث في تراثه وإبراز مواقفه ونضاله الثقافي والسياسي، حيث كان وطنيًا صادقًا استشهد واقفًا ولم يركع.
اقرأ/ي أيضًا: