لقاءات سياسية في أنقرة على أعلى المستويات بين الأمريكيين والأتراك لبحث سبل إنشاء منطقة آمنة شمالي سوريا، تتزامن مع حشود عسكرية تركية على الحدود الجنوبية وداخل الأراضي السورية، فيما يبدو استعدادًا لعمل عسكري في حال فشلت واشنطن وأنقرة في التوصل لاتفاق يفضي لإنشاء المنطقة المزمعة في منطقة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة أمريكيا.
في حال لم يقدم التحالف الدولي الدعم اللازم للأكراد، فمن المحتمل إبرام اتفاق مع نظام الأسد وروسيا من أجل حماية المنطقة الشمالية الشرقية. رغم أن الأسد لم يستجب للدعوات الكردية بالتدخل خلال العملية في عفرين
استعدادات للحرب
الأسبوع الماضي وصلت قوات تركية وفصائل سورية معارضة إلى الأطراف الغربية الشمالية لمدينة منبج بريف حلب الشمالي الشرقي الخاضعة لسيطرة قسد، كذلك عززت قسد من قواتها في مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا، وجاءت التعزيزات من مناطق عين عيسى ومحافظة الرقة وعين العرب (كوباني) مزودة بأسلحة ثقيلة وعربات مدرعة. فيما أعرب وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، خلال لقائه بالممثل الأمريكي الخاص بالشأن السوري جيمس جيفري الأسبوع الماضي، عن انزعاج أنقرة من لقاءات مسؤولين أمريكيين مع قياديين أكراد في قسد.
اقرأ/ي أيضًا: معارك إدلب.. هل تطلق مسارًا بديلًا لأستانا؟
وعبر عن هذا الانزعاج التركي من دعم الولايات المتحدة لـقوات سوريا الديمقراطية، أيضًا وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو الذي أكد أن صبر بلاده نفد من ما وصفه بمماطلة واشنطن بشأن التوصل لاتفاق حول المنطقة الآمنة. وأضاف أوغلو خلال مؤتمر صحفي في أنقرة أن البلدين لم يتفقا على مدى عمق المنطقة ومن ستكون له السيطرة عليها وما إذا كان سيتم إخراج وحدات حماية الشعب بالكامل منها بحسب وكالة رويترز. وكان قد قال قبل لقاء جيفري، إنه "إذا لم تتم إقامة المنطقة الآمنة واستمرت التهديدات الموجهة لبلدنا، فسنبدأ العملية إلى الشرق من نهر الفرات".
لكن التصريحات الأمريكية كانت مغايرة لما قاله أوغلو، حيث قالت السفارة الأمريكية في تركيا؛ إن واشنطن وأنقرة ملتزمتان بتحقيق تقدم سريع وملموس بشأن خارطة الطريق المتفق عليها بشأن مدينة منبج، مضيفة أن جيفري عقد محادثات "صريحة وإيجابية ومثمرة" خلال هذه الزيارة.
ومنذ شهور تتفاوض تركيا وواشنطن بشأن خطة تقوم على تنظيم دوريات مشتركة في منطقة آمنة تمتد على مسافة اثنين وثلاثين كلم تقريبًا داخل الأراضي السورية وعلى انسحاب قوات سوريا الديمقراطية منها وتسليم سلاحها الثقيل، إلّا أن طول ونقاط النهاية المحتملة لهذه المناطق لا تزال غير واضحة.
وفي السياق، قالت قسد إنّ الولايات المتحدة تضغط عليهم للسماح لعدد محدود من القوات التركية بالدخول إلى هذه المنطقة المقترحة. ويربط مراقبون حدوث أي استجابة من الأكراد للمقترح بالضغوط الأمريكية ورسالة عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المصنف على قائمة الإرهاب، ما قد يعني عدم تنشيط عمليات "بي كي كي" في تركيا في حال بدأت أنقرة عملًا عسكريًا.
الرهانات الكردية
تراهن قسد على دعم التحالف الدولي بقيادة واشنطن لحمايتها من أي عملية عسكرية تركية، واعتبر الرئيس المشترك لدائرة العلاقات الخارجية في (حزب الاتحاد الديمقراطي)، صالح مسلّم التصريحات التركية بالتحضير لعمل عسكري بأنها "تهديدات ليست جديدة"، وأكد أن "الطرف الكردي" يعتمد على التحالف الدولي، الذي لن يسمح حسب اعتقاده، بعملية عسكرية على غرار عملية "غصن الزيتون" التي أدت إلى سيطرة فصائل المعارضة بدعم تركي على عفرين.
وأضاف تعليقًا على اللقاء الذي جمع قائد المنطقة الوسطى في القيادة المركزية للتحالف الدولي الجنرال كينيث ماكينزي مع القائد العام لـ (قسد) مظلوم عبدي، ولقاءات أنقرةك " نحن معتمدون على شعبنا أولًا، والتحالف الدولي أعتقد أنه لن يسمح بمناورات أو اعتداءات جوية كالتي جرت في مناطق أخرى كعفرين مثلًا (..) واثقون من أن التحالف الدولي لن يسمح".
وفي حال لم يقدم التحالف الدعم اللازم للأكراد، فمن المحتمل إبرام اتفاق مع نظام الأسد وروسيا من أجل حماية المنطقة الشمالية الشرقية. رغم أن الأسد لم يستجب للدعوات الكردية بالتدخل خلال العملية العسكرية ضد (وحدات حماية الشعب) في عفرين. ويشير المراقبون إلى أن عملية عسكرية جديدة على غرار "غصن الزيتون" يمكن أن تفكّك قوات سوريا الديمقراطية حليفة واشنطن في سوريا.
المنطقة الآمنة.. تفاصيل غامضة
أعادت تغريدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتاريخ 13 من كانون الثاني/يناير 2016 فكرة فرض منطقة آمنة، وهي منطقة تهدف إلى حماية المدنيين وتقليل أعباء اللاجئين داخل سوريا التي تبدو اليوم مختلفة تمامًا عن عام 2016.
فقد تنظيم الدولة الإسلامية معظم مناطق سيطرته وعاد إلى التكتيكات الإرهابية بالاعتماد على الخلايا النائمة. في وقت يسعى فيه ترامب للتقليل من وجود قوات بلاده العسكرية، ويبدو أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة من المنطقة الآمنة هو حماية حليفها الكردي، على الرغم من أن المدنيين النازحين ربما يلتمسون اللجوء هناك. ومع تكثيف المفاوضات بين الولايات المتحدة وتركيا حول المنطقة الآمنة، لا تزال تفاصيل ما يفكرون فيه غامضة، بحسب صحيفة واشنطن بوست الأمريكية.
وتعتبر الصحيفة أن الأمر الأكثر تعقيدًا هو عدم وجود خيار لمنطقة آمنة يفي بجميع المعايير التي تريدها الولايات المتحدة في الوقت الحالي، أي بما يتضمن ما يحمي حليفها الكردي، ولا يحتاج إلى قوات برية أمريكية ويتجنب المواجهة مع تركيا. فما الذي يتطلبه إنشاء المنطقة الآمنة؟
ربما يكون خيار المنطقة الآمنة الأكثر شيوعًا هو الخيار الذي يتم تنفيذه من الجو، كما تم تنفيذه على العراق من 1991 إلى 2003 وليبيا في عام 2011. في هذا الخيار، يقيد الغطاء الجوي الوصول إلى المنطقة الجغرافية المحددة. ويتطلب إنشاء منطقة آمنة اعتمادًا على الغطاء الجوي خطوتين؛ أولًا تدمير القدرات المضادة للطائرات. وإطلاق دوريات جوية منتظمة للمسح والاستجابة السريعة للتهديدات في سوريا، وتضيف الصحيفة أن الخطوة الأولى تتطلب استهداف رادارات النظام وروسيا والدفاعات الجوية، والقواعد التي عادة ما تضم أيضًا المستشارين الإيرانيين. ومع ذلك، لم تقم أي قوة جوية أمريكية أو تابعة لحلف الناتو بتشغيل منطقة حظر طيران أو استبعاد فوق منطقة بها دفاعات جوية حديثة كما هو الحال في سوريا، مما يجعل هذا الخيار صعبًا.
ولحماية المدنيين في المنطقة الآمنة، ستكون هناك حاجة إلى 13600 جندي على الأقل لحماية 500 ألف شخص. ولحماية 1.5 مليون مدني وإعادة اللاجئين أو إعادة توطين النازحين يرتفع العدد إلى 40 ألف جندي، أو حوالي 10 ألوية أمريكية، دون أن يشمل ذلك قوات الدعم اللازمة.
بالنظر إلى هذه المتطلبات، فإن حقيقة وجود منطقة آمنة حقًا للمدنيين في شمال سوريا تثير تساؤلات حول من الذي سيديرها، ومن سيسمح له بالبقاء، حيث تقول تركيا إن قواتها الوحيدة القادرة على إنشاء المنطقة وإدارتها.
وتشير الصحيفة إلى أن الأكراد عرضوا تحمل المسؤولية الشاقة المتمثلة في فرض القوات البرية بمساعدة قوات التحالف، إلا أن المنطقة الآمنة تحتاج إلى منطقة حظر جوي وهو ما لا يستطيع الأكراد فعله. وعلى عكس الدعوات السابقة لإقامة منطقة آمنة للحماية من النظام أو روسيا، فإن منطقة حظر الطيران التي تقودها الولايات المتحدة أو أوروبا لحماية "الأكراد" يجب أن تستبعد أيضًا تركيا العضو في حلف الناتو، مما يخاطر بأزمة داخل التحالف.
اقرأ/ي أيضًا: تقدير موقف: اتفاق إدلب.. فرص النجاح وتحديات التنفيذ
صراع "المكونات"
يرجح مراقبون أن تكون المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا لإنشائها بشكل منفرد مسرحًا للخلاف بين نظام الأسد وأنقرة، وبين الجماعات العربية التي تدعمها تركيا و"وحدات حماية الشعب"، وبين الأكراد واللاجئين العرب السوريين العائدين. ما قد يوفّر ذلك بيئة مؤاتية لعودة تنظيم الدولة الإسلامية. ولا يصب أي من هذه السيناريوهات في مصلحة تركيا أو واشنطن، ولهذا السبب حاولت أنقرة جاهدة إقناع الولايات المتحدة بالتعاون معها.
يرجح مراقبون أن تكون المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا لإنشائها بشكل منفرد مسرحًا للخلاف بين نظام الأسد وأنقرة، وبين الجماعات العربية و"وحدات حماية الشعب"، وبين الأكراد واللاجئين العرب السوريين العائدين
ويلفت المراقبون إلى أن نظام الأسد الذي لا يرغب في ترسيخ قوة "وحدات حماية الشعب" قد يلجأ إلى دعم الجماعات المتطرفة، والذي يُحتمل أن يؤدّي إلى نسخة جديدة من تنظيم الدولة الإسلامية. ومع ذلك، فإنّ استمرار سيطرة "وحدات حماية الشعب" في الشرق ليس مستدامًا أيضًا، لأنّ التوجه القومي واليساري للأكراد غير مقبول للعرب المحافظين الذين يشكلون غالبية السكان في المنطقة المتعددة عرقيًا ودينيًا في مناطق الإدارة الذاتية والتي أطلقت عليها مسمى "المكونات".
اقرأ/ي أيضًا:
خرائط موسكو في ملف "إعادة إعمار" سوريا.. هنا طهران بعيدًا عن الجولان
الاستيطان الطائفي من لبنان والعراق.. خطة إيران لشقلبة ديموغرافية سوريا