عجبت وأنا أنبش في البحوث والمراجع وبعض الدراسات التي تحاول تأطير مفهوم "علم نفس المهاجر" من تنحية العمل عن قائمة المظاهر النفسية والتوصيفية، فهذه القائمة تحصي الاتجاهات السلوكية والمعنوية المميزة للفرد أو الجماعات المهاجرة تمييزًا عن غيرها من الجماعات والأفراد المندرجة في تخصصات علوم النفس الأخرى.
وعلى الرغم من أن تخصص "علم نفس المهاجر" تبلور خلال قرنين من الزمان، وبالتحديد العشرين والحادي والعشرين، مع تصاعد موجات الهجرة، بسبب تعمق مفهوم العولمة الاقتصادية، وما جرته وراءها من تأزيم في الحياة السياسية والاجتماعية، وتأثيراتها المتوالية على تذويب مفهوم الدولة الوطنية، وإبراز الدولة بصورتها الخدمية.
ورغم أن مختلف هذه الأبحاث تعزل الأسباب المؤدية للهجرة بحدة، ولا تنظر إليها كأسباب متشابكة، أحدها يؤدي إلى الآخر، وبالمحصلة حدوث فعل الرحيل "الهجرة"، إلا أننا لسنا بصدد وضع دراسة أو بحث معين، ضمن سياق البحث النقدي والتفكيكي، بل يهمنا أكثر إثارة السؤال حول القفز فوق العمل والمهنة، بوصفهما سياقًا وبيئة مولدة للتواصل الاجتماعي، وسبيلًا ينمي المواصفات السلوكية للفرد، حيث إن العمل يشارك بقوة في تحديد نظرتنا للعالم وللمحيط الاجتماعي، وبالتالي إعادة فهم معوقات الاندماج في ضوء المهارات والخبرات الفردية التي يمتلكها المهاجر.
يجري علم نفس المهاجر ترتيبًا متدرجًا لأنواع المهاجرين، يمكن شمله بنوعين أساسين: الهجرة الطوعية والهجرة القسرية. ويستبعد نماذج الهجرة الطوعية من التأثيرات النفسية العميقة وارتدادات صدمة الرحيل
يجري علم نفس المهاجر ترتيبًا متدرجًا لأنواع المهاجرين، يمكن شمله بنوعين أساسين: الهجرة الطوعية والهجرة القسرية. ويستبعد نماذج الهجرة الطوعية من التأثيرات النفسية العميقة وارتدادات صدمة الرحيل، وينظر إلى المهاجرين طوعًا بوصفهم أشخاصًا أكثر تماسكًا، وأكثر تقبلًا واستعدادًا لمواجهة التغييرات، فضلًا عن امتلاكهم مواصفات أكثر وضوحًا لناحية التكيف، ويُرجع علم النفس المتخصص بالمهاجر ذلك، إلى انتماء هؤلاء إلى شريحة اجتماعية ذات نزعة استكشافية، وأميل إلى تعزيز أدواتها الخاصة من خلال عملية التثاقف عبر السفر، لذلك فهم أقدر وأكثر أهلية لمواجهة البيئة المضيفة الجديدة، بل إنه يصفهم بأنهم ماهرون في إجراء العلاج والترميم الذاتي التي تحدثها ضغوطات الاندماج، باستثناء نوبات من القلق والشعور بالذنب، والتعلق المضني بالصور المثالية للبلد الأصلي.
بينما يفرد هذا العلم التخصصي الحديث مجالات أرحب لدراسة نموذج المهاجر القسري، إذ ينظر علم نفس المهاجر إلى القسرية كمصطلح ملتبس، ومتغير الدلالات تبعًا لتحليل الظروف المؤدية إلى الرحيل بصفة نهائية، وإلى أي مدى تتعلق هذه الظروف الدافعة لفعل الهجرة بالشأن السياسي، وكلما حاول تبويب القسرية يقترب من مفهوم النفي، ذي الدلالة السياسية مما يؤدي إلى وصف بلد المهجر بالمنفى، وكلما كانت الأسباب السياسية مباشرة وقوية الحضور في دفع الفرد للرحيل النهائي، صار المنفى هو المصطلح الأكثر دقة في تفنيد العالم الداخلي للمنفيين وتأطير مواصفاتهم الذهنية.
وفق تعريف الهجرة القسرية بوصفها منفىً، تطل الأسباب السياسية برأسها كأحد أهم المسببات الدافعة للهجرة، ويبقى أمر قسريتها متعلقًا بمدى قربها وبعدها عن الاشتباك السياسي المباشر المؤدي في النهاية إلى الهجرة، إذ ينضوي اللاجئون الهاربون من حرب أهلية أو صراع داخلي على السلطة تحت مظلة الهجرة القسرية، دون أن تقترب هذه القسرية كثيرًا من معنى المنفى، ولو أنها تمثل أحد أوجه المنفى المتعددة، إذا يتقدم هنا الأثر السياسي الذي تحدثه الصراعات السلطوية، من انعدام الاستقرار، وغياب الأمن، وتفشي الفوضى وتعقد الحياة اليومية وانعدام فرص كسب العيش، وتشكل مجتمعة حافزًا للبحث عن بلد آخر للاستقرار، ومع أن السياسة تعد سببًا رئيسًا في الهجرة إلا أنها لا تمارس القسرية في التهجير، بل يصنع الصراع السلطوي، ظروفًا قاهرًا تسد الآفاق في وجه المواطنين وتدفعهم ليصبحوا لاجئين، لذلك لايمكن وصف المهجر هنا بالمنفى، بشكل واضح، بينما في حالة الاشتباك السياسي المباشر لنشطاء سياسيين ومثقفين مع السلطة، وشعورهم بالتهديد وغياب أمنهم الشخصي، يصبح وصف القسرية أكثر وضوحًا، وينطبق مصطلح المنفى على حالتهم بشكل مثالي، ويصر اللاجئون السياسيون على تعريف بلد المهجر بالمنفى كدلالة على حالة القسرية البينة في الانتزاع من أرض الوطن.
قد تبدو هذه التفسيرات لمعنى القسرية، ودلالات معنى المنفى، تأويلية بشكل أو بآخر، لكنها في حقل العلوم النفسية تكتسب قيمة تميزية خاصة، ويفيد عزل هذه التفسيرات المتشابكة وتصنيفها بشكل كبير في تحديد أشكال وأنواع صدمة الرحيل، وأدوات إعادة بناء الذات في بلد المهجر المضيف، فاللاجئون المطاردون لأسباب سياسية، أو عقدية، أو جنسية جندرية، يتشكل بناؤهم الذهني والنفسي في بلد الهجرة وفق معاني المنفى والاقتلاع القسري، وهذا يختلف موضوعيًا وسلوكيًا عن اللاجئين "الضحايا" لأطراف متصارعة.
يقترح علم نفس المهاجر طرقًا علاجية تقوم على تحليل دقيق لصدمة الرحيل، والتركيز بشدة على تعيين الأسباب المؤدية للهجرة من أجل قياس حجم ونوع الصدمة والأساليب الأنجع في تفكيكها وتجاوزها، إذ ينظر علم نفس المهاجر إلى أزمة الهوية كمظهر سلوكي متأخر، خلال مرحلة الشعور بالاغتراب، عند المهاجرين طوعًا، وحتى عند المهاجرين اللاجئين الموصوفين كضحايا للصراع السياسي، بينما تظهر بشكل مبكر عند المنفيين والمهاجرين قسرًا، إذ يندفع النموذج المنفي نحو إعادة تأصيل الذات الهوياتية، عبر التمسك بالهوية الثقافية للبلد الأصلي، ومحاولة تعزيز حضورها في كل النشاطات الاجتماعية وحتى الفردية، فيظهر ذلك على شكل نزاع حاد مع المحيط الاجتماعي الجديد، ويظهر كصورة من صور الإنكار اللاوعي للواقع الجديد، وتنحسب ذات الأعراض على المهاجرين الضحايا، لكن في مرحلة متأخرة قليلًا إذ يبدي المهاجرون الضحايا ميلًا أكثر تصالحًا مع التخلي عن جزء من الفردانية لصالح الاندماج مع المحيط، وعادة ما تظهر أزمة الهوية في هذه الحالة بعد الشعور بالقبول والاستقرار، ويصبح المزاج أكثر تقبلًا للمقاربات الواقعية ما بين بلد المنشأ وبلد المهجر، وانهيار هالة المقارنات المثالية إن كان لصالح البلد الأصلي أو بلد المهجر، وتتخذ أزمة الهوية شكل سلوكيات متطرفة ومضطربة تتأرجح بين التعلق المثالي وبين الكره الشامل، ويمكن ملاحظتها في الأشخاص المغرقين في الحنين وبمحاولتهم سبغ المثالية على بلد الأصل لتعزيز الهوية الفردية، وأحيانًا تظهر بشكل يشبه الانسلاخ الكامل، وعلو النبرة الانتقادية لكل ما يمت للوطن بصلة، ورغم أن الحالتين تحصنان نفسيهما بالبراهين والخطابية المقنعة، لكن ذلك لا يلغي طبيعتها كاضطراب سلوكي، متطرف شعوريًا وتعبير عميق على الإنكار للواقع.
تمثل عمليات الإدماج للمهاجرين، بمختلف مستوياتهم وأنواعهم وشرائحهم، تحديًا كبيرًا للمجتمعات المضيفة، وخاصة المهاجرين من الجيل الأول، إذ يرزح كثر تحت وطأة ضغوطات الاندماج، وبالطبع يختلف ذلك وفقًا للشريحة العمرية، لكن أثر هذه الضغوطات يتعاظم أكثر، لدى الرجال والنساء الذين تخطوا الوقت الملائم للبداية من جديد، وتظهر علاقتهم بالمحيط الاجتماعي، غاية في التخبط، بين انخراط كلي وبين تراجع وانعزال، تنظر فيها هذه الشريحة التي ربما تكون الأكبر بين الشرائح المهاجرة إلى أدواتها الفردية، وإلى الوقت المهدور الذي صرفوه على تكوين خبراتهم وميولهم وحتى أحلاهم، كشيء لا بد وأن يتخلوا عنه ويرمونه خلفهم إن هم أرادوا المضي قدمًا، ورغم أنهم قد يستسلمون أخيرًا إلى فكرة التقدم في حياة جديدة كليًا تستبعد مميزاتهم كأفراد أصحاب مواهب ومهن، ربما شغلوا وظائف مهمة، وربما صعدوا سلم النجاح المهني وتذوقوا حلاوة الإنجاز ولاحت أمام أنظارهم قمة النجاح المهني، لكنهم أمام مفارقة قسرية تجبرهم على رؤية أدواتهم وإنجازاتهم كأطلال وعليهم أن يتوقفوا عن البكاء عندها، وأمام أفق مبهم مجهول، تظهر لهم المساحات المهنية المحدودة التي يشغلها المهاجرون.
تمثل عمليات الإدماج للمهاجرين، بمختلف مستوياتهم وأنواعهم وشرائحهم، تحديًا كبيرًا للمجتمعات المضيفة، وخاصة المهاجرين من الجيل الأول، إذ يرزح كثر تحت وطأة ضغوطات الاندماج
وبالعودة إلى الاستغراب من قفز علم نفس المهاجر، على الهوية المهنية للأفراد المهاجرين، وبشكل خاص المهاجرين قسرًا، سواء كانوا ضحايا أو منفيين، قد يبدو من غير المفهوم، هذه الدقة التي يتبناها علم نفس المهاجر لأسباب الهجرة، وتحليله المتأني لصدمة الرحيل، واقتراحه المتشدد لفهم للأسباب والأنواع لفرز وتصنيف المظاهر السلوكية للمهاجرين، كي يسهل التعامل مع مختلف الحالات وتعزيز قضية الاندماج، بالأدوات المعرفية العميقة لانخراط المهاجرين في المجتمعات المضيفة؛ وفي نفس الوقت، يتم النظر إلى الهوية المهنية، كعارض جانبي، من أعراض صدمة الرحيل، ولا يتم التعاطي مع قضية العمل بالنسبة للمهاجر بالأهمية الكافية والموازية لأهمية الهوية الذاتية، إذ ينظر علم نفس المهاجر إلى الهوية بطريقة اختزالية، تحيلها فقط إلى المظاهر الثقافية دون ربطها بالمزايا الفردية والمهارات والتخصصات، المشكلة بعمق لشخصية المهاجر.
هنا يتعامل علم النفس مع المهاجر بوصفه مهاجرًا فقط، يتعامل مع الصورة النفسية المنعكسة عنه، ومن ثم يتعامل مع الانعكاس على أنه النسخة الأصلية من عالمه الداخلي. لكن الهوية المهنية، التي شكلها المهاجر قبل فعل الرحيل هي جزء أصيل ومحوري من تكوين الشخصية، ومن ملامح العالم الداخلي، وهي ما يحدد مواصفات الهوية الذاتية بمعناها الثقافي.
وبذلك يكون علم نفس المهاجر، قد انطلق في رصد عوالم المهاجرين من حقائق ومعلومات سياسية، تنظر إلى الهجرة، باعتبارها بداية جديدة، وهذا التفسير تفسير سياسي وليس علميًا نفسيًا، وعليه لا بد أن يرخي هذا التفسير بظلاله على عمليات الاندماج والإدماج، ويجعل إدماج المهاجرين زاخرًا بخطابية سياسية، ولا يستند مشروع الاندماج إلى علم النفس في رسم سياساته، وفي حال اعتبار الهوية المهنية جزءً أصيلًا من الهوية الثقافية سوف تتجه سياسيات الاندماج نحو تعريف المهاجر "القسري" على الأقل، بأنه مجموعة من المهارات والخبرات والمواهب، متراكبة مع مواصفات ثقافية، وبذلك سوف تكون عملية الإدماج مرتكزة، تعزيز الاستقرار الهوياتي، لا على تبديله والاكتفاء بالمزايا الثقافية للمهاجر.
يناضل أكاديميون، فنانون، أساتذة وحرفيون، في بلد المهجر، للحفاظ على هويتهم المهنية، كشكل من أشكال التمسك بالهوية الذاتية، ويرى معظم هؤلاء أن استبعاد مهاراتهم وخبراتهم، وتجاهل تخصصاتهم المهنية، إمعان في قسرية الهجرة، ويتطابق هنا كل من الوطن وبلد المهجر، في استخدام القسرية، لرسم مصير المهاجر.
لا بد من النظر إلى الهجرة، على أنها استكمال للحياة السابقة وليس انقطاعًا عنها، يتحقق ذلك من خلال إدراج علم نفس المهاجر في صياغة القرارات الحكومية ورسم سياسات الاندماج، ومنح الهوية المهنية للمهاجر المساحة الكافية من البحث، وإعادة الاعتبار لأهميتها في تشكيل الهوية الذاتية بمعناها الثقافي بالنسبة للمهاجر، ولا يمكن في حال من الأحوال الاعتماد فقط على الإرادة وغريزة البقاء، والثناء على المستعدين للبداية من جديد، لترتيب العالم الداخلي للمهاجر.
ولا تتعارض هنا الهوية المهنية، مع قدسية العمل، واحترام كل عمل مهما صغر أو كبر، بل بالاقتناع أن الهوية المهنية للمهاجر هي جزء أصيل من الهوية الذاتية، إذ لا يمكن لممثل خبر المسارح والتلفزيونات والسينما في بلده الأصلي أن يكتفي بفضيلة البداية الجديدة، ويتمتع بالصحة النفسية التوازن وهو يعمل في محطة وقود دون أن تكون محطة الوقود مرحلة مؤقتة نحو استقراره المهني النهائي، ولا يمكن لمدرسة اعتادت الفصول والطلاب أن تكتفي بالتعريف عن نفسها من خلال الرقص المحلي وأطباق الطعام المحلية.
حتى ذلك الحين، سوف تظل قصص نجاح المهاجرين، ونجاعة سياسات الاندماج، مجرد وضعيات فوتوغرافية براقة ومحدودة، تخفي وراءها بؤسًا يطال السواد الأعظم من المهاجرين.