حرّضت النيوليبرالية الإنسان على الانغماس في الاستهلاك. وجعلت من كل شيء سلعة تباع وتشترى، ولكل سلعة سلعٌ حولها. أعطت لكل شيء من إنتاجها ميزة أو ميزات، تجعل من وجوده ضرورة، وبديلًا عن الطبيعة.
حرّضت النيوليبرالية الإنسان على الانغماس في الاستهلاك، وفي المقابل ظهرت تيارات كانت تدعو إلى الترشيد، من بينها المينيماليزم
في المقابل، ظهرت تيارات ما بعد حداثية، ساخطة على التسليع الرأسمالي لكل مظهر من مظاهر الحياة. ورافقتها دعوات للترشيد والتعقل في الاستهلاك بالاعتماد فقط على الضرورات. من بين هذه التيارات، تيار "المينيمالزم - Minimalism"، أو ما درج على تسميته بالعربية "تيار الحد الأدنى" أو "التقليلية".
اقرأ/ي أيضًا: مكانة الذات في النظم الاستهلاكية
ما الذي تحمله الحركة "المينيمالزم" من اسمها؟
ظهر تيار التقليلية أو المينيماليزم في الفنون المرئية والموسيقى ووسائط أخرى لها علاقة بالتصاميم والهندسة، و حتى في الأدب. وهي حركة ثقافية، بدأت بتجلٍ فني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويقال دائمًا إنها رد فعل على الحداثة والاستهلاكية. وازدهرت "المينيمالزم" في الولايات المتحدة الأمريكية، في الفنون البصرية، خلال فترة الستينات وأوائل السبعينات.
ويشير مصطلح المينيماليزم إلى التمسك بالضروريات بعيدًا عن الزيادات غير الضرورية. واستُخدم الميميناليزم كمنهج تفسيري لمسرحيات وروايات وأساليب معمارية. ومؤخرًا تطور إلى أسلوب حياة يومية، وطريقة عيش ضد الاستهلاكية.
المينيماليزم طريقة حياة يومية
تستند فلسفة المنيماليزم على تبسيط الحياة، عبر التخلص من الأشياء الزائدة، وتأسيس حياة قائمة على الضروريات، بدلًا من الجمع والتكديس. والهدف الأهم لهذه الفلسفة "الحياتية"، تحسين جودة الحياة، بتقليل الإنفاق، ليس كممارسة، وإنما كطريقة حياة، تولي الأهمية للضروريات على حساب الرغبة في الانغماس في الاستهلاك.
ويصف البعض المينيماليزم بأنها طريقة عيش حياتية ظهرت كرد فعل على فوضى الحياة الحديثة. على سبيل المثال: يمكن أن نرى تمظهرات المينيماليزم في الهندسة المعمارية اليابانية التي بدأت تكتسب صيتًا عالميًا في الثمانينات، حيث تحدث كلاي لانسكتر في أحد كتبه عن تأثير العمارة اليابانية على العمارة الأمريكية، قائلًا إن "التصميم الياباني جاء ترياقًا للوجود الكبير لحركة المرور الضخمة، وتكاثر السكان في المدن"، لترفع شعارات التفاصيل الأقل لشكل جمالي أكثر حضورًا.
ويعرف أحد الباحثين المينيماليزم على أنها "انعكاس نقدي على علل النزعة الاستهلاكية ومحاولة لإيجاد طرق عيش جديدة مبسطة وسط سيطرة الرأسمالية الاستهلاكية، في مواجهة التسليع والتشييء المتزايد للجسم البشري والغذاء والحاجيات اليومية، ووسط التدهور البيئي المتزايد"، مضيفًا: "وتأتي دعوات المينيماليزم كمحاولة لإعادة التفكير في الاحتياجات، وتسليط الضوء على المشاكل المهمة التي يخلقها الاستهلاك في العالم المعاصر".
المينيماليزم والسوشال ميديا
قول البعض من المعتنقين فلسفة المينيماليزم، ممن ابتعدوا لفترات طويلة عن وسائل التواصل الاجتماعي، واستطاعوا المضي في حياتهم، إنهم تخلصوا إلى حد كبير من الضوضاء والتشتيت الذي يصيبهم بسبب ما أسموه "متابعة كل شيء" على وسائل التواصل الاجتماعي.
موضحين أنه إذا كان الهدف من هذه المنصات والتطبيقات هو التواصل، فقد وجدوا هم سبلًا أخرى أكثر "تركيزًا" للتواصل. ومن عاد منهم لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، قالوا إنهم باتوا لا يريدون مشاركة كل شيء على هذه المواقع، وإنما فقط ما يعتقدون أنه "سيضيف للناس". وقالوا إنهم يرون أنه في النهاية ما يحكم استخدام الأفراد للسوشيال ميديا، هي معايير الكم والكيف.
انتقادات للمينيماليزم
حالات الرفض أوالانتقادات التي وُجهت إلى المينيمالزيم، كانت في مجملها انتقادات لسلوك ممارستها، الذي حولها من اختيار أخلاقي إلى محاولة جديدة لإعادة إنتاج الاستهلاك تحت تصنيف جديد مثل "التبسيط"، تندرج تحته العديد من المنتجات السوقية.
فحتى نمط الحياة "البسيطة" مكلف، فعلى سبيل المثال، بتتبع تكلفة الأثاث "البسيط" في الأسواق، كما فعل أحد صحفيي الغارديان، تبين أنه باهظ بما يكفي ليتوفر فقط لمن لديهم القدرة على الاختيار. ويظهر ذلك جليًا في الصور المتداولة على السوشيال ميديا، لأثاث هذا النمط من الحياة، فصورة كالتي بالأسفل، لا يمكن لأي أحد أن يوفر الأثاث والتصميم الذي تصوره. هذه الأشياء تباع عادة بأثمان باهظة!
إذًا، فالقادرون على الحقيقة أن يعيشوا وفق تعاليم المينيماليزم، هم الذين تتوفر لديهم ظروف مالية ولوجستية تسمح لهم بأن يختاروا هذا النمط، وينفقوا عليه.
والبهرجة أحيانًا كثيرة لا تكون اختيارًا بالنسبة للفقراء وأبناء الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة، إذ لا يمكن للمرء من هؤلاء أن يقبل أو يرفض نمطًا معيشيًا هو في الأساس غير قادر على التحكم فيه، فقد يضطر إلى اقتناء طاولة بألوان فاقعة، وتصميم مبهرج، لأنه لا يمتلك أن يقتني طاولة مينيماليزمية تباع بأضعاف ثمن الطاولة التي اشتراها من سوق للأثاث المستعمل، وهكذا على كافة المستويات.
من هنا، تبرز زوايا أخرى لانتقاد المينيمالزم، منها زاوية الاستعراض، على أساس أن المينيماليزم تماهت هي الأخرى مع الاستهلاكية، أو استوعبتها الاستهلاكية، وأعادت إنتاجها بقيمها، وعلى رأسها الاستعراض. إذًا في كثير من الأحيان، لا تمثل المينيماليزم طريقة حياة قائمة على التقليل والتبسيط، وإنما استعراضًا لـ"الاختلاف" وتبشيرًا به. ومن جهة أخرى، نشأ على هوامش المينيماليزم "بيزنس" مربح من مستعرضيها، يتمثل في أشكال من الأثاث، وتصاميم من الملابس، وحتى في سوق الأغذية.
القادرون على أن يعيشوا بتعاليم المينيماليزم هم الذين يتوفر لهم قدرة مالية تسمح بأن يختاروا هذا النمط وينفقوا عليه
وهكذا، وفقًا لمنتقدي المينيماليزم، فقد تحولت هي الأخرى إلى شيء أو أشياء تُقتنى. وليس كل أحد قادر على اقتنائها، لتفقد معناها الأخلاقي. وبهذه الطريقة يمكن القول إن الرأسمالية تعيد إنتاج نفسها.
اقرأ/ي أيضًا:
عن أحجبة الاستهلاك وطبائع الاستملاك
أسبوع ثورة الموضة.. سردية دماء عمال شركات الأزياء المضرة بالبيئة