سحبَت الشمسُ آخرَ أصابعِها من أكفِ الليلِ المبتورةِ عندما ولج السكينُ ظهرَ بصلةٍ جافةٍ فارمًا إياها بشوقِ الضباب لانحسار الضوء، رمتِ الأمُّ القطع في حمم من الطماطم الداكنة، وجانب الحمم قطع الخبز تنتظر مصيرها من الانصهار، قطع خبز اختلف عليها المؤرخون، بعضهم يؤكد أنها عاصرت سومر، والآخرون وصفوها بالكربون صلابةً، ولكنها للأسف الخبز اليابس الذي تجمعه الأم لتبيعه لشاري الخبز، فيعتلفها لحيواناته بعد خلطها بالشعير القليل والبرسيم، فتصبح مادة دسمة، يدلل بها دوابه.
هذه الطبخة تدعى الجربيلو، أكلة الفقراء الشتائية بعد العشرين من كل شهر جار، فتلجأ الأمهات لأكياس الخيش المملوءة بفتات الخبز اليومي الزائد، وتحاول بسحرها أن تصنع أعتى الوجبات نكهةً، وما يزيد من خبزٍ تبيعه لشاريها السريالي مع عربته الخشبية كأنه يبحث عن كنزٍ غير ثمين في الحواري العشوائية المعدمة، يا لها من عملية تدوير شبيهة بتلك الوجبات الفيتنامية المرتكزة على بقايا الطعام الفندقي أو المطاعم ذي النجمتين، ويبدو أن التاريخ يحفظ الكثير من روايات تتفتح عنها قريحة الفقراء، ليس آخرها الكوشري المصرية!
"إليّ عندو نحاس بافون.. كراسي مكسّرة.. خراااطيم.. بطاريات.. صوبات مكسرات.. للبيييييع"، الكثير من أبناء الحيّ حاولوا مرارًا تقليد لحن هذه الجملة الخارجة من حنجرة الشاري لكنهم فشلوا، لأن النبرة التي يطلقها ليست خارجة من حنجرة آدمية سوية، وعند سماعي لهذه الجملة أكاد أحلف بأنني أرى حباله الصوتية وهي تتعذب على يدي سجانٍ فقد ابنه أمام عينيه دهسًا من شاحنة نقل تركية، نبرة تعكس آهات وبؤسًا عاشها مذ غَرز مسمار الحياة في عقدة الحبال، هذا اللحن كان بمثابة إنذار لدرّ النقود في جيوب الأطفال، تراهم يدبون كالنمل في أصقاع البيت، باحثين عن كل ما يمكن بيعه أو ما تم جمعه من الشوارع احتياطًا لقدوم هذا الواهب المفاجئ، ترمقهم وأعينهم لامعة آملين بمبلغٍ يغطي نفقات السجائر وبعض حبات دوار الشمس وقنينة كازوز بغازها الكثيف الذي يوجعُ الأنوف.
شاري النحاس المحروق
لا أعلم لماذا كانوا عُرجًا كلّهم، وأقصد الذين دفعوا عرباتهم بجهدٍ واضح، كما لو أن العجلات ليست بدائرية بل مثلثة، ولا اجتياح رتل دبابات لمدينة هشة الدفاعات بمثال يوصَف به عملية ولوجهم الحواري بل ربما دخول كتيبة المشاة مدينةً محصنة وهم يُطرحون أرضًا، يترصدون النحاس، متوحدين بلون القميص البني الصدئ مع ميزات في الشخصية كإتقان عملية التلاعب بالآراء، ملاحمين ذلك بتعبيرات وجهّية لو شاهدتها عن بعد ثلاثة وثمانين قدم ستدلك على المقابر وأصل البؤس وأقبية التعذيب، كممثل على خشبة المسارح المازوخية، كل هذا فقط كي يبخسوا بسعر المشترى، فما لتراجيديات القرون الماضية إلا درس للمبتدئين منهم، ولولا العازة لمنح الأطفال الحُملَ الشاريَ وفوقه قطعة خبز وسيجارة مجانًا، امتثالًا لموهبة التمثيل العالية لدى المستفيد من قدراته في ابتزاز طيبة الصغار أو سذاجتهم وجهلهم بتلك الألاعيب.
عدسة كاتب
كحرفية أصابع عازف الجيتار الإسباني، وأخص عازف أنطونيو مايرينا، أخذ القطعة الذهيبة اللون تاركًا عربته على اليمين وبسرعة تغيير الأكورد الموسيقي في أغنية غجرية ما ولى هاربًا، وأنفاسه يلتقطها كما التقاط الأطفال منشورات البعث المتساقطة من الهيليكوبتر في كل مناسبة وطنية، يركض وترى أفكاره مكتوبة على فقاعات نصية فوق رأسه، نعم هذا هو مستقبلي، بين يدي، لن أدعه يهرب، سأبيع هذا بألفي ليرة، لا بل بثلاث، سأشتري عربةً أكبر، ذات دواليب هواء، مزركشة بخطوط كوفية برونزية، وأفضل اللون الأخضر هيكلًا، ربما سأشتري فقط النحاس، وسألمعها ليلًا بالشحم العسلي، أعلم جيدًا، سيغارون مني، كلّهم، ولكنني احتياطًا سأذبح ديكًا أسود، وألطخ يدي اليسرى بدمه وأدمغ عربتي من كل جانب، وأرمي اللحم في أفواه الحاقدين المستقبليين، يا ليت أميّ تقرأ الآن أفكاري، ولو لمرة واحدة سأرفع رأسي شامخًا، وأشتري لها الثوب الذي وعدتها به قبل وفاتها بسنتين، (دمعٌ يتطاير من عينيه ويكاد يمحي الفقاعات النصية)، يتعثر بحافة الكهريز، يصمد، يقف رافعًا القطعة كأنها كأس الحارة التنكي الذي فازه فريقه بكرة قدم الحارات أيام الطفولة، يعاود الركض، يلتفت شمالًا حيث تعميه مصابيح الشاحنة، وعندها يتذكر أخر ذكرى، وهي القطعة التي بين يديه، فيدرك أنها فقط ساعة ماء سورية قديمة "عدّاد" لا تصلح لشيء وليست نحاسًا، بل حديد بائس كأيامه.
يكون -من المفترض- بطلُ أيُّ كاتبٍ عملاقًا من حيثُ المعنى الأدبي أو الصوري، فتكون الصفات -حتى لو كانت سلبيةً- مطلقةً كالقاتل المحترف الرؤوف، أو روبن هوود، وإني قيد الشك فبطلي عاش ومات مذلولًا مخدوعًا مغمورًا، والكومبارس يموتون تحت كعوب الممثلات النزقات، ولا يذكرهم أحد إلا حواف المشاهد أو أخطاء وعثرات الأفلام، فيا حبذا أن أكون حافة المشهد أو خطأً كتابيًا، أو ربما عثرةً في نسقِ المقال، وعسى أبطالي الحمامجية والنحاسيون وشاريو الخبز اليابس وغيرهم، يجدون يومًا ما أحد ما ينتصر لهم ويكتب عنهم ولو بدأ ما يكتبُ بشتيمة.
اقرأ/ي أيضًا: