تعارضت خطة ليز تراس مع خطط المصرف المركزي البريطاني فاستقالت من منصبها كرئيسة للوزراء. لم تكن خطة ليز تراس مناسبة. إنما من الذي يقول ذلك؟ خبراء المال ورؤساء الشركات الكبرى ومسؤولو المصارف المركزية والخاصة. وهؤلاء حين يقولون قولًا يفترض بالعالم أن يستمع جيدًا.
قد يقول قائل إنهم طغاة العصر الحديث، وإن مصالحهم الخاصة هي التي تقرر لنا شكل الحياة التي نعيشها ومستواها على حد سواء. لكن هذا يبدو أيضًا مشكوكًا بمضمونه ومؤداه. ويقول آخرون إن هذا العالم ومقدراته موضوعة في خدمتهم، وأنهم المتنعمون في عالم تسوده اللاعدالة واللامساواة. مع ذلك يجدر بنا أن ندقق جيدًا في هذا الشعارات.
المواطن والمستثمر يحققان أرباحًا من التسهيلات التي تقدمها المصارف لهم، والمصارف تحقق أرباحًا من التسليفات التي تقدمها لهؤلاء وتقتطع من رؤوس أموالهم نسبًا مئوية لقاء كل عملية تبادل مالي
هذا العالم لا يمكن أن يستمر من دون هؤلاء. إنهم يديرون شركات خاصة، صحيح، لكنها الشركات التي تشكل معظم أعصاب التواصل بين الناس في المجتمعات الحديثة. يستوفون ثمن خدماتهم التي يقدمونها للناس أرباحًا نقدية مباشرة، لكنهم يقدمون خدمات ما كان يمكن للناس أن تستغني عنها من دون خسارات هائلة. هكذا تبدو العلاقة على النحو التالي: المواطن والمستثمر يحققان أرباحًا من التسهيلات التي تقدمها المصارف لهم، والمصارف تحقق أرباحًا من التسليفات التي تقدمها لهؤلاء وتقتطع من رؤوس أموالهم نسبًا مئوية لقاء كل عملية تبادل مالي، شراء أو بيعًا. في المحصلة لا يمر يوم على أي كان على الكرة الأرضية من دون أن يدفع نسبة مئوية مما أنفقه لمصرف من المصارف. ولا يمر يوم أيضًا من دون أن تحقق المصارف فائضًا في ثروتها يأتي من مجهول ما.
الحديث عن المجهول في هذا المقام أعلى مقامًا من الوقائع. المجهول هو ثروات كامنة، تتفتح أوراقها ورقة إثر ورقة. هو رأسمال يستعد للاستثمار في قطعة أرض مهجورة، وسيجعلها حكما ذات قيمة وقابلة للبيع والشراء. والأرجح أن قابلية هذه السلعة أو تلك للبيع والشراء هي السر الذي يجعل الاقتصاد قابلًا للتطور وتحقيق الأرباح. فأن يكون غرضًا ما قابل للتبادل مع غرض آخر فهذه وصفة حاسمة لمنع مالكي هذه الأغراض من تحقيق الثروة. على العكس قد تؤدي الوفرة في المنتجات إلى كسادها وإفقار أصحابها في بعض الأحيان. أما أن يتحول غرض ما إلى سلعة قابلة للبيع والشراء، فهو أمر مشروط باهتمام المصارف بهذا الغرض، وتسليعه. هذا ما يجعل المصارف في حقيقة الأمر الشريان الذي تتغذى منه الجماعات وتتشكل الهويات حوله. لا هوية معاصرة من دون مصارف ناشطة وتحقق أرباحًا، وليس ثمة تعاون بين الدول والشعوب يفوق في قوته ومتانته التعاون بين المصارف إلى أي جهة انتمت ومن أي دولة صدرت. نحن نعيش اليوم في عصر المصارف، وحين تصاب هذه المصارف بعلة، أو يتم ضبطها وهي تنفذ سياسات غير راشدة، تنهار مع انهيارها اللحمة الاجتماعية بكاملها، ويتحول الاجتماع الذي كانت ترعاه من دون ضجيج إلى ما يشبه الغابة.
على هذا يمكننا التثبت عيانًا بأن روح الأمة اليوم هي نقودها السائلة، والتي ترعاها وتديرها المصارف الخاصة والرسمية في الوقت نفسه. في نهاية المطاف تستطيع الأمة أو الدولة أن تقيل رئيسة للوزراء وكل حكومتها، بصرف النظر عن مدى صوابية خطتها. لكنها لن تستطيع أن تشك في سياسات المصرف المركزي واتجاهات السوق والمصارف العاملة في البلاد. ذلك أن الشك بسياسات المصرف المركزي ومحاولة إقالته من التحكم بالشأن المالي العالم سيؤدي إلى انهيار لا قيامة بعده. في حين أن الحكومات تذهب وتجيء والأمم ما زالت قادرة على احتمال أخطائها، وغفران خطاياها وإسقاطها كل حين.