سنوات طويلة من السيطرة الأمنية، وسطوة رجال الدين. حرمان من حق الانتقاد والاعتراض على الحاكم والسلطة، وحرمان من الفن والفنون، ومن الضحك. سنوات طويلة عاشها المواطن السعودي ممنوعًا من الضحك على غير رغبة السلطة ورضاها، حتى بدأت، من بوابة وسائل التواصل الاجتماعي، بذور السخرية والنكات تخرج من الشباب السعودي، وظهرت موجة واسعة من التداول العام للنكات مع تصاعد ثورات الربيع العربي في 2011، وانتشرت بشكل كبير العديد من القنوات على مواقع مثل يوتيوب لشباب سعودي حصل بعضهم على شهرة واسعة، تركزت سخريتهم على الأزمات الاجتماعية، بعيداً عن السياسة.
ليس للشعب السعودي مخزون معروف من النكات السياسية، مع بطش وتعتيم واسعين، وهو ما لا يتعلق بالنكات وحدها، بل بالإنتاج الثقافي والفني بشكل عام
طرأ التحول الجديد مع صعود ولي العهد محمد بن سلمان، الذي ساهمت سياساته المتهورة في ظهور العديد من مسارات السخرية، بداية من تصريحاته وإعلامه وصولًا لتصرفات أجهزته الأمنية التي قامت بواحدة من أسوأ عمليات الاغتيال في التاريخ الحديث، للصحافي السعودي جمال خاشقجي، وهي الحادثة التي تسببت الروايات السعودية المتضاربة حولها، بسخرية سعودية واسعة. ليساهم الأمير الصاعد، دون قصد في إثراء المحتوى الساخر في المملكة كما لم يفعل أعمامه لعشرات السنوات الماضية.
محرمة وممنوعة
ليس للشعب السعودي مخزون معروف من النكات السياسية مقارنة بالدول المحيطة به، مع بطش وتعتيم واسعين، وهو ما لا يتعلق بالنكات وحدها، بل بالإنتاج الثقافي والفني بشكل عام. فمع صعود آل سعود للسلطة، على يد عبدالعزيز آل سعود، تصاعد معهم نفوذ رجال الدين المتشددين، وبدأ الطرفان في حصار السعوديين فكريًا وسياسًا ودينيًا، معممين ثقافة سلفية معادية للفرح والبهجة. ومع التحولات الاقتصادية المتتابعة التي طرأت بعد ارتفاع أسعار النفط في السبعينات، ساهم الوافدون بتغيير ملموس.
ساهم الكبت والحصار الذي ضربته السلطة على السعوديين أيضًا في فقر الإنتاج الفني والثقافي، الجاد والساخر، واستخدمت السلطة رجال الدين المتشددين في مواجهة هذا الصعود، فكان التحريم والمنع سلاح النظام الدائم في حال ما رأت ضرورة، ومن لا يرضخ لسطوة التحريم الديني والتضييق المجتمعي يواجه السجن، أو الموت.
ووفقًا لبعض آراء الخبراء في السعودية، فإن النكتة السياسية، لم تنتشر على نطاق واسع في المملكة بسبب استمرار السلطة في حصار المواطن سياسيًا ودينيا، وكان أغلب السعوديين يستعير النكات من مجتمعات أخرى، ولكنها نكات لم تكن بنت المجتمع السعودي.
السوشال ميديا.. المرحلة الأولى
انكسر جدار الحصار الذي استمر لسنوات، مع التقدم التكنولوجي، بالرغم من المحاولات المستمرة من الحكومة السعودية لمنع انتشار السخرية والنكات على مدار السنوات الأولى لظهور الإنترنت. على سبيل المثال، صدر في 2013 بيان من الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في السعودية، وهو تحذير قالت فيه الإدارة إنها تعتبر كل من ينشر نكاتًا حول تعاطي الحشيش والمحششين، مدانًا بالترويج للمخدر، ودعوة لتعاطيه. وأضافت أنه "معلوم أن تعاطي الحشيش وترويجه وتهريبه محرم شرعًا. فالحذر ثم الحذر".
كان هذا البيان المقتضب ملخصًا لعقلية السلطة السعودية وإدارتها وكيفية فهمها وتعاملها مع السخرية والنكتة، التي حرم منها السعوديين لعشرات السنوات تحت ادعاءات دينية وسياسية واجتماعية متعددة.
وفي ظل غياب الفنون والحريات، اتجه الشباب لمواقع التواصل الاجتماعي، للبحث عن جمهور للمتابعة، وظهر العديد من الكوميديين والكوميديات السعوديين، كان أبرزهم فهد البتيري الزوج السابق للمعتقلة لجين الهذلول، الذي بدأ عروض الكوميديا منذ عام 2006 خلال دراسته في جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان يقتصر على الانتقادات الاجتماعية بشكل رئيسي، وتحول لاستخدام اليوتيوب من خلال برنامج لا يكثر الذي توقف منذ عامين.
تصاعد استخدام المواهب السعودية الكوميدية لليوتيوب وعروض الكوميديا منذ 2011، مع الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي الذي صاحب ثورات الربيع العربي، واستهدفت تلك العروض السخرية من مختلف القضايا المحلية، وكان أبرز هؤلاء عمر حسين الذي بدأ مع ثمانية شبان سعوديين برنامجًا فكاهيًا تحت اسم "على الطاير"، وتوقف عام 2017، وكذلك بدر صالح، وهو أحد الكوميديين الأكثر شعبية في السعودية، وحاز برنامج "إيش اللي" خاصته على شهرة واسعه ولكنه اتجه للتمثيل لاحقًا. وتحصد تلك البرامج الكوميدية ملايين المشاهدات وملايين المتابعين.
ابن سلمان بطل السخرية
ظلت النكتة السعودية حبيسة الخوف من التنكيل بالرغم من انتشار الانتقادات الاجتماعية. فيما لم يكن المعارضون السياسيون الساخرون في المملكة يحظون بانتشار واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، مع موجة البرامج الساخرة التي بدأت في الظهور منذ 2011، ولكن رواجهم بدأ مع نهاية حكم الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ومع صعود ابن سلمان بصحبة والده الملك، فكان أبرزهم غانم الدوسري المعارض السعودي المتواجد في لندن.
طرأ التحول الجديد في النكتة السياسية مع صعود ولي العهد محمد بن سلمان، الذي ساهمت سياساته المتهورة في ظهور العديد من مسارات السخرية
قدم غانم الدوسري سلسلة من الحلقات المليئة بالسخرية من محمد بن سلمان، ووصل عدد المشاهدات في قناته على اليوتيوب إلى أكثر من 226 مليون مشاهدة، وأطلق اسم "الدب الداشر"، على ولي العهد محمد بن سلمان، فيما أطلق على والده الملك سلمان لقب "سلمانكو". ولاقت حلقات غانم الدوسري صدىً واسعًا لدى المعارضين لحكم آل سعود. وفي آب/أغسطس 2018، نقلت وسائل إعلام بريطانية أنباء حول الاعتداء على الدوسري، وحاول شخصان الاعتداء على غانم في أحد شوارع لندن وصرخ أحدهم: "من تكون حتى تتحدث ضد آل سعود وتنتقد محمد بن سلمان".
وبعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وتقطيع جثمان الفقيد بالمنشار من قبل بعض المقربين من ولي العهد محمد بن سلمان، انتشرت موجة السخرية وظهرت أحد أبرز الصفحات لانتقاد ولي العهد وهي صفحة ابومنشار-أبو كرش سابقًا، وتسابق المغردون من خارج المملكة وبعض الشخصيات التي تخفي اسمها على السخرية من الأمير المتهور.
وتحاول المملكة بشكل كبير إيقاف الهجوم الساخر ضدها. كان أبرز ما قامت به حكومة محمد بن سلمان، بالتواصل مع موقع نتفليكس قبل فترة، حجب حلقة من برنامج ساخر ينتقد السعودية كان يقدمه الكوميدي الأمريكي حسن منهاج بدعوى خرق الحلقة لقوانين المملكة للجرائم الإلكترونية، وكان منهاج انتقد تعاطي الحكومة السعودية مع أزمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي.
وتخشى المملكة منذ سنوات من تزايد المعارضين لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعد حكومة الرياض من أبرز الدول في ملاحقة مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، حيث أصدر موقع "تويتر" في 2014، تقريره حول عدد مطالبات الحكومات بمعلومات عن مستخدمي حسابات "تويتر"، ووفقًا للتقرير فإن المملكة حلت في المرتبة الثالثة بين الحكومات التي طالبت بمعلومات عن مستخدمي "تويتر" بـ189 طلبًا.
تستمر محاولات الشباب السعودي المعارض في إطلاق النكات السياسية ضد سلطة وحكومة ودولة آل سعود، وفي المقابل تستمر الأسرة في قمع المعارضة ورفض الضحكة.