"هل ستصارع الأسى للأبد حقًا؟"
"كم من الوقت سيمر قبل أن تنتهي مراحل الأسى الخمسة؟"
"ألم تأسَ وقتًا كافيًا؟"
"ألم يحن الوقت للمُضي قدمًا وتجاوز خسارتك؟"
للأسف، كثيرًا ما تُطرح تلك الأسئلة على من دهمهم الفقد.
لكن الأسى لا يقتصر على سلسلة من الأحداث، أو المراحل، أو الخطوط الزمنية. ويفرض مجتمعنا ضغطًا هائلًا علينا لتجاوز خسارتنا، والتغلب على أسانا. لكن كم ينبغي أن تكون مدة الأسى لفقد من تزوجته لخمسين عامًا، أو لفقد مراهق قُتل في حادث سيارة، أو لفقد طفل عمره 4 سنوات؟ سنة؟ خمس سنوات؟ للأبد؟
يحدث الفقد في الزمن، ولا يستغرق سوى لحظة في واقع الأمر، لكن توابعه تستمر مدى الحياة.
الأسى حقيقي لأن الفقد حقيقي. ولكل أسى نسخته الخاصة، نسخته التي لا تقل تميزًا وفرادة عن الشخص الذي فقدناه. ويكون ألم الفقد جسيمًا حقًا، ومفجعًا حقًا، لأننا، في الحب، نتواصل بعمق مع إنسان آخر، وليس الأسى إلا انعكاسًا لتلك الصلة المفقودة. نظن أننا نرغب في تجنب الأسى، لكن الحقيقة أن ما نود تجنبه هو ألم الفقد. فالأسى عملية تعافٍ تنتهي بنا إلى العزاء في خضم الألم.
نعاني في أسانا لاستيعاب فقد من نحب، والأسى خطوة ضرورية للانتقال من الموت إلى الحياة
يظل ذلك الألم وذلك الحب متصلان للأبد. فلتجنّب الألم، سيكون على المرء أن يتجنب الحب والحياة المشتركة. يقول سي. إس. لويس إن "الألم الحاضر جزء من السعادة الماضية، وتلك هي الصفقة". وإنكار ذلك الفقد إنكار للحب. ولأجل التأقلم مع إحساسنا بالفقد الجسيم بعد الموت، ندخل غالبًا مرحلة الإنكار سريعًا. ردة فعل المرء عندما يقول لنفسه "لا أستطيع التصديق" أو "لا يمكن أن يحدث لي هذا" أداة مهمة للتأقلم مع ما حدث من فقد. نعاني في أسانا لاستيعاب فقد من نحب. والأسى خطوة ضرورية للانتقال من الموت إلى الحياة.
نكاد نخطط لكل شيء في حياتنا. نخطط لأعياد الميلاد مسبقًا، ونخطط لعطلاتنا قبلها بشهور، ولزفافنا قبله بسنة. نخطط لتقاعدنا قبله بعقود. لكن أكبر رحلات حياتنا، أي الموت، عادةً ما يدهمنا مفاجئًا. ولا نكون أبدًا مستعدين لخسارة من نحب أمام الموت، لُغز حياتنا غير المُرحب به.
الموت خط، خط مفجع يفصل عالمنا الذي نعيش فيه رفقة من نحب وذلك العالم الذي نعيشه الآن. يتحول خط الموت هذا، عند مده على استقامته، إلى علامة بين ما قبل وما بعد، إلى خط بين وقتنا مع أحبائنا ووقتنا دونهم، إلى خط رُسم دوننا أو دون إذن منا، إلى وجود يستمرون فيه مستبعدًا إيانا، لننفصل عمّن نحب ونفقد.
غالبًا ما يكون التعافي من الأسى تجربة طاغية وموحشة. لا يتوفر لنا نظام حقيقي نركن إليه لمساعدتنا على التعافي من فقد من نحب. لا تظن أن في حوزتنا الأدوات اللازمة للتغلب على المشاعر التي تفتك بنا. لا يعرف أصدقاؤنا ما ينبغي قوله أو كيف يمكنهم مدّ يد العون لنا. ونتيجةً لذلك، نتساءل في أيام ما بعد الفقد إن كان في إمكاننا النجاة. وبمرور الوقت، يسلمنا الخوف إلى الغضب، والحزن، والانعزال، فتهاجمنا تلك المشاعر واحدًا بعد الآخر. ونحتاج المساعدة.
رأى جيلنا الموت والأسى في صورة تختلف عن رؤية أي جيل آخر لهما. صار جون إف. كينيدي وجهًا مألوفًا مع ظهور التلفاز. ورغم أنه لم يكن أول رئيس يُغتال، فقد كان ذلك أول اغتيال تسجله شاشة التلفاز ليشاهده العالم. وفي تلك اللحظة، وبطريقة لم تكن أبدًا ممكنة من قبل، جمعنا كأمة أسى مشترك. ولا زال ذلك الأسى والفقد يجمعانا في الذاكرة الجمعية حتى اليوم.
من أخص الأمور إلى أعمّها، لا نزال نتعرض للقصف بصور الأسى الوطني والعالمي بطريقة لم يكن لنا أن نتخيلها قبل ذلك على الإطلاق. من فقد الأميرة ديانا، والأم تيريزا، وجون كينيدي الإبن، إلى ما تلى ذلك بالطبع من أحداث 11 سبتمبر الفظيعة، غرقنا كأُمة في وفيات "لا تُنسى".
يحدث الفقد في الزمن، ولا يستغرق سوى لحظة في واقع الأمر، لكن توابعه تستمر مدى الحياة
في تلك الخسارات العامة وحفلات التأبين الكبرى نشعر مرة أخرى أننا جزء من مجتمع. يُذكرنا ذلك بوقت من الماضي القديم تعاملنا فيه مع الفقد في بلدة صغيرة بدلًا من مستشفياتنا ودور جنازاتنا بينما يكون الأقرباء على مسافة أبعد من تسمح لهم أن يشاركونا فقدنا.
كانت الأمور مختلفة قبل قرن من الآن. كان الموت يجمعنا، فنقرع جرس البلدة، ويوضع الجثمان على لوحة تبريد. كان الخُشب يُجمع لأجل التابوت، ويُخاط القماش إلى ملابس للجثمان. كان جثمان من نحب يوضع في غرفة استقبال، حيث يجتمع كل أهل البلدة ويؤدون واجب العزاء.
كان الجميع يعرفون بعضهم البعض. وكان كل زائر يأتي بقصة عمّن نحب، فتشكل القصص معًا نسيجًا ثريًا. كان من يدير حفل التأبين يعرف من نحب جيدًا ويساعدنا على النظر إلى فقدنا في سياقه. كان الأصدقاء والعائلة جميعًا يحضرون إلى المدفن. وكانوا يقومون بأشياء لأجلنا بعد ذلك، مكتفين بذلك، دون أن يسألونا عمّا يمكنهم القيام به أو عن كيف يمكنهم مساعدتنا. ولم يكن هناك ما يُلغز فيما يخص كيفية مساعدة شخص آخر يعاني الفقد.
نعيش في عالم جديد ينكر الموت، ويصرف عن الأسى. في أمريكا، لم نعد نموت كما يجب، ولم نعد نأسى كما يجب. انتقل المرض إلى المستشفى في أربعينيات القرن العشرين وانتقل الموت إلى دار الجنازات. فصرنا الآن، في أكثر الأحيان، نموت رفقة غرباء، فلا يُسمح سوى بقلة من الزوار لغرفة المستشفى في المرة. رعاية المحتضرين والرعاية التلطيفية رائعتين، لكنهما موردين لم يُستغلا بعد على النحو الواجب. نادرًا ما نجتمع كعائلة بينما يحتضر من نحب. وإن قمنا بذلك، يجبرنا النظام الطبي على القيام بذلك في مناوبات. ولا يُسمح للأطفال الأصغر من 14 سنة عادةً بزيارة المستشفيات.
إن ذكرنا شعورنا بالأسى الاستباقي للطبيب، فلديه حبة دواء لأجلنا. ما الذي لديه ليقدمه لنا في السابعة والعشرين من عمره؟ وقته مشغول بالعديد من المتطلبات، وكذلك طاقم التمريض. الأطباء والممرضون عطوفون، وحسنو النيّة، لكن في نظام مصمم لأجل الشفاء، ليست ثمة توجيهات واضحة عندما يموت من نحب. نعرف خبر وفاة من نحب من الممرض أو الطبيب، وربما من مكالمة هاتفية سريعة، وأحيانًا ما يماثل مقدار العاطفة في ذلك ما يكون في إشعار تسليم طرد. وإن كنا موجودين في وقت الوفاة، سيساعدنا الممرضون على التواصل مع قاعة حفظ الجثث.
لا نرى من نحب مرة أخرى إلا عندما يظهر مرة أخرى بشكل سحري عند عرض الجثمان أو في الجنازة، فيضفي عليه الموت طابعًا لم يسبق أن بدا عليه في الحياة. لم نعد ننقل الموتى روتينيًا في عربات سوداء فخمة، بل صرنا في أغلب الأحيان نستخدم شاحنات بيضاء تخلو من أي علامات. صرنا نلتقي مدير الجنازات الذي يدير كل شيء في دار الجنازة. ليس ثمة جرس بلدة نقرعه، لكن يمكننا نشر نعي في الجريدة. لم نعد نعرف كل أهل البلدة. ولم نعد نعيش في بيت أو بيتين فقط، بل صار العديدون منا يعيشون في عشرة منازل أو عشرين على مدار حياتنا. ولم تعد عائلاتنا موزعة على مربعات سكنية، بل توزعت على عدة ولايات.
نظن أننا نرغب في تجنب الأسى، لكن الحقيقة أن ما نود تجنبه هو ألم الفقد
مجتمعنا مجتمع إنتاجي. فتسمح أغلب الشركات بالتغيّب بحجة الثكل لثلاثة أيام أو خمسة. ولن يصدر إلا عن أقل القليل منها عبارة "تأنّ قدر ما تريد، فتلك فترة عصيبة". وعادةً لا يسمح عملنا إلا بوفاة واحدة في السنة. ويكون علينا أن نعود للعمل بعد فترة الثكل. ربما نعود بأجسادنا، لكننا لا نعود بالضرورة بعقولنا. يصعب علينا الوصول إلى خاتمة ما ويصعب أن نعثر عليها سريعًا. ونتوقع من الجميع أن يأسى بنفس الطريقة ولنفس المدة.
لكن لا ينبغي أن يكون الموت كذلك بالضرورة. فيمكنك أن تختار طريقة أغنى بالمعاني. وباعتبارنا شخصين أمضيا حياتيهما يتعاملان مع الفقد والأسى، فقد زرنا معسكرات اعتقال، حيث وجدنا منحوتات لفراشات. والفراشات رمز راسخ للتحوّل، رمز لاستمراريتنا في وجه الفقد، بطريقة ما، وعلى نحو ما. أمضينا وقتًا مع الأم تيريزا وشهدنا تجسدًا للّطف البشري. وجدنا خيوط أمل في أسوأ ما مررنا به. وفي الأسى، كما هو الحال في الموت، يتحول الباقون على قيد الحياة. إن لم تتأنّ في أساك، فلن تتمكن من العثور على مستقبل تتذكر فيه الفقد، وتكرمه، دون ألم.
- مقطع مترجم من كتاب "On Grief and Grieving" لإليزابيث كوبلر روس وديفيد كيسلر.