سمة الفن هي انفتاحه على التأويل، فإذا وصمه التوجيه، ولو كان بسيطًا، فسد، فكيف يمكن لممتلكٍ أدواته الفنية كاملة أن يودي بعمله الفني باستتهار وإن أتيحت له الفرصة كاملة لغير ذلك، هذا ما يعكسه تمامًا الفيلم الأميركي "الولد الصغير Little Boy" لأليخاندرو مونتفيردي، فقد كان ممكن للمخرج المكسيكي أن ينهي فيلمه قبل 20 دقيقة فقط من النهاية، ليصير عمله خالصًا لوجه الفن، لكنه أبى إلا أن يخرج به دون توجيه يقصي أي تأويل آخر؛ غير أن قنبلة "هيروشيما" لم تكن كارثة على الإطلاق لكنها يد العناية الإلهية التي ترفق دائمًا بالأمريكيين.
إذا وصم التوجيه الفن، حتى لو كان بسيطًا، فسد
في السادس من آب/أغسطس من عام 1945، ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلة نووية على مدينة هيروشيما، تحمل اسم "الولد الصغير"، وقد اتخذ مونتفيردي في الفيلم، الذي كتبه بالاشتراك مع المكسيكي الآخر بيبي بورتيو، تلك التفصيلة الصغيرة ليبنيا عليها قصتهما، التي تحكي عن طفل يعاني قصورًا في النمو الجسدي فيصير معيرة لأهل قريته، إلا أنه وجد في أبيه سلوته، بيد أن الحرب العالمية الثانية تفرقهم، ولكي يعود أبوه إليه من جديد تسعفه الدراما بحل "سحري" يكمن في تدريب نفسه على الإيمان، فمن خلال حبة خردل صغيرة يمكنه تحريك الجبل، وبالتبعية يمكنه أن يعيد أباه، لكنه يتورط في حادث عنصري تجاه أحد اليابانيين، فلا يصبح إيمانه مكتملًا إلا بعد مصادقة هذا الياباني والإحسان إليه، حتى تكتمل قائمة الإيمان التي وضعها له قس الكنيسة.
ولكن القصة ليست بتلك البساطة التي تبدو عليها، فلا بد حتى تصل الرسالة واضحة، أن يكون الله حاضرًا، يثق به الطفل الصغير، وأن يكون الياباني عدميًّا، وأن تؤكد أن الشعب الأمريكي ليس عنصريًا، فهو لا يضهد الياباني لعرقه وإنما لصورة العدو التي يبدو عليها وجهه، ولكن يلزمها أيضًا، وهو الأهم، أن يقدمها فريق عمل فني موهوب وممسك بأدواته الفنية جيدًا، فالقدرة على التخييل واستلهام تفاصيل صغيرة لتشييد عمل فني عليها، ليست ميزة الفيلم الوحيدة، فقد برع المخرج في تطويع قدرات ممثليه لتحويل قصته البسيطة تلك إلى أمثولة بصرية انفعالية غاية في التأثير، واستطاع المونتير ميج رامساي أن يخرج كافة التقنيات السردية التي تضمنها الفيلم سلسة دون إرباك، فقد يحدث أن يضم المشهد الواحد ثلاثة "فلاش باك" متتالية، دون أن يجرح بصر المشاهد أو يلتبس عليه إدراكه للحدث.
لا يبدو أن أمريكا تريد الظهور في موضع المنكر لكارثة هيروشيما
تبدو الرسالة في غاية الوضوح، فالطفل الذي آمن بقدرة الله ونفذ تعليماته، استطاع تحريك الجبل، وفي الساعة التي وقف فيها يتحدى شمس اليابان، ألقيت على هيروشيما القنبلة النووية التي تحمل اسمه فدمرتها وأنهت الحرب، وحتى تلك اللحظة من عمر الفيلم كان يستطيع صناع الفيلم أن ينقذوا عملهم؛ فالمشهد الذي يوهم فيه النص أن الطفل اختار حياة صديقه الياباني على حياة أبيه، كان يمكن إذا انتهى الفيلم عنده، أن يمثل إرباكًا للمتلقي فيعيده لتأمل أحداثه بالعديد من وجهات النظر المختلفة، إلا أن الشريط لم يقف عند تلك اللحظة، بل استمر ليظهر فيه الياباني نفسه منكرًا لقسوة قنبلة هيروشيما، ومتأثر أكثر بفقدان الطفل لأبيه الذي لم يمت، ليعود في النهاية كدليل على عناية الله بأمريكا وبأطفالها حسني النية بيض القلوب.
لا يبدو أن أمريكا تريد الظهور في موضع المنكر لكارثة هيروشيما، ولكنها تفضل تلفيق الحقيقة عبر إظهارها بتشوهات عدة، وليست الأعمال التي تناقش الكارثة هي السبيل الوحيد سينمائيًا في ذلك، ولكن أيضًا رصد كوارث الآخرين التي تظهرهم كهمج يجب التخلص منهم دون النظر إلى طريقة ذلك، ففي حين تنكر اليابان "مذبحة نانجنج" (1937)، تصنع هوليود فيلم وردة الحرب الذي يلقي الضوء عليها، وفي حين يستمر تغريب شعب التبت ونكران مذابح غزوه من قبل الصين (1950)، يكون فيلم "سبع سنوات في التبت" دليلًا على ما جرى.
بالمثل يتخذ المتلقي الأمريكي الموقف نفسه ولكن بصورة مغايرة، فحين سقط فيلم "الولد صغير" جماهيريًا ولم يستطع تغطية نفقات إنتاجه، حقق الفيلمان سالفا الذكر، وأفلام أخرى، أرباحًا خرافية، فالمتلقي الأمريكي الذي يرفض "الصورة المدلسة للحقيقة"، يقبل على مشاهدة الصورة الهمجية للشعوب الأخرى، والتي يظهر فيها المواطن الأمريكي بمظهر "السوبر مان"، مثل "وردة الحرب".
الفن يفرق، ذلك أنه يشعر المتلقي بفرديته داخل المجتمع، أما العمل الذي يخاطبه بلسان "المجموع" فيترك فيه أثرًا سرعان ما ينطفئ فور عودته للانعزال بنفسه مرة آخرى، وفي ظل ما سبق، لا يمكن إدراك استمرارية هذا الخط السينمائي الأمريكي، دون التوقف أمام التساؤل حول فعل تلك الأعمال بمتلقيها؟!