"معرفة نفسك ومعرفة عدوك تساوي ألف معركة وألف انتصار" -سون تزو مؤلف كتاب فن الحرب.
رغم بعدهما الجغرافي الكبير والتباين التاريخي والثقافي شكلت علاقة اليابان والولايات المتحدة مادة ثرية وخصبة للغاية في السينما. فتاريخ اليابان الحديث مر بتقلبات وصدامات عدة، كان أبرزها وأهمها على الإطلاق الحرب العالمية الثانية التي شكلت نهايتها علامة فارقة في التاريخ الياباني، إذ لم تعد اليابان تلك القوة العسكرية العظمى في العالم كما كانت قبل الغزو الأمريكي، وهو أول غزو أجنبي لأراضي اليابان يحدث في التاريخ، ممهدًا لتغيرات كبيرة حدثت في اليابان على أصعدة عدة، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا.
ولعل من الثوابت التاريخية القليلة المتفق عليها أنه لا توجد حروب بلا تجاوزات أخلاقية. فأطراف الصراع هم بشر وكلما ازداد عددهم صارت السيطرة عليهم أصعب في وسط بحور الدماء، لذلك لا يقاس نبل وتحضر أحد الأطراف المتحاربة بعدم ارتكاب تجاوزات مطلقًا فذلك أمر أقرب إلى المستحيل، ﻷن البشر ليسوا ملائكة، إنما يمكن الحكم على جيش دولة ما بوصفه همجيًا أم لا، بحسب قدرة قيادته على التحكم في أفراده في حالة ارتكابهم تجاوزات ومحاسبتهم حسابًا رادعًا، ومنعهم من ارتكاب المزيد من الانتهاكات.
لا توجد حروب بلا تجاوزات أخلاقية. فأطراف الصراع هم بشر وكلما ازداد عددهم صارت السيطرة عليهم أصعب وسط بحور الدماء
ومن الثوابت أيضًا أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ينطبق هذا على الأفراد الدكتاتوريين الذين يتحكمون بمفردهم في مصائر دول وشعوب بأكملها، كما ينطبق أيضًا على دول وجيوش الدول العظمى التي ما فتئت ترتكب الانتهاكات حتى لقوانينها الخاصة بالاشتباك وبشعاراتها التي ترفعها عاليًا وتعتز بها أمام مواطينها، ﻷن لا أحد يحاسبها، فهي دول عظمى ولا يوجد من هو أقوى منها ليردعها!
على أنه من المهم أيضًا عدم إغفال حقيقة أن الصراعات العسكرية إنما تنشب بين الدول فقط، حينما تفشل الحلول السياسية وتصل إلى أفق مسدود. فالصراعات السياسية لا تقل ضراوة وشراسة عن الصراعات العسكرية بل قد تزيد، وإن كانت أقل دموية في الظاهر. ولكل هذه الصراعات آثارها المترتبة على الشعوب اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
"نحن نعيش في الحاضر، ونحلم بالمستقبل، ونتعلم حقائق ثابتة من الماضي" - شيانج كاي شيك قائد سياسي وعسكري صيني.
وبالعودة إلى اليابان وصراعاتها السياسية والعسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن صناع السينما الأمريكية لم يغفلوا عن المادة الدسمة، التي يمكن تحويلها إلى قصص درامية علنًا للشاشات الكبيرة، والمستمدة أساسًا من تاريخ الصدام بين أمريكا واليابان. كما أن للثقافة اليابانية سحرها ورونقها الخاصين والعريقين، وهو أمر لا يمكن تجاهله مقارنة بافتقار أمريكا لتاريخ عريق وحضارة متأصلة في الجذور. هذا أن أمريكا دولة هجينة بلا ثقافة أصيلة وتأسست على الملايين من جماجم السكان الأصليين ودماء وعرق الملايين الآخرين من الأفارقة، الذين تم خطفهم من قارتهم واستعبادهم ليعملوا بالسُّخرة لصالح الرجل الأبيض، أما اليابان فلها ثقافة وتاريخ واضحان الملامح ومسار زمني ضارب في القدم.
اقرأ/ي أيضًا: 7 من أفضل أفلام سرقات البنوك
إذا أردنا البدء في البحث عن الأفلام التي تناولت التسلسل الدقيق لتاريخ اليابان الحديث، فالبداية ستكون من فيلم "The Last Samurai" للمخرج إدوارد زويك، الذي يتناول مرحلة تحديث اليابان على النمط الغربي تحت إشراف الإمبراطور الجديد، وتحديدًا بناء جيش قومي موحد على نفس شاكلة الجيوش الغربية، الأمر الذي أدى إلى إنهاء حقبة الساموراي بكل ثرائها الثقافي والأخلاقي، لتصبح اليابان مجتمعًا مشتتًا، ممزقًا بين التمسك بتراثه القديم الذي ينساب بين يديه كالماء وبين رغبته في اللحاق بركب الحضارة الغربية والاستمتاع بثمرات منجزاتها العلمية والتقنية.
لعل الرسالة الأبرز لهذا الفيلم تحديدًا كانت ضرورة التوقف قليلًا لالتقاط الأنفاس وتكوين صورة نقدية متكاملة لتجارب الآخرين قبل الشروع في نسخها وتطبيقها بحذافيرها في بيئة أخرى مختلفة وغريبة عنها تمامًا، وإلا فثمن هذا التغيير الراديكالي ىسيكون باهظًا ولن يؤدي النتيجة المرجوة!
وإذا كان التحديث على النمط الغربي مثار نقد لمخرج أمريكي كونه جعل الهوية اليابانية مشتتة بين الشرق والغرب، فالتاريخ يخبرنا أن بعد فترة وجيزة من هذا التحديث صارت اليابان تتصرف بصلف تجاه العالم وكان أول ضحايا هذا الصلف هم جيرانها المقربين. وصور المخرج الصيني ييمو زانج في فيلمه "The Flowers of War" بعض من الجرائم المرتكبة من قبل الجيش الياباني ضد المدنيين، في خضم أحداث الحرب اليابانية الصينية التي كانت بمثابة المخاض للحرب العالمية الثانية فيما بعد.
كما هو معلوم فقد هاجمت اليابان أمريكا أولًا بقصفها لميناء "بيرل هاربور"، مما أدى لإعلان أمريكا الحرب على اليابان التي صارت عضوًا في دول المحور بينما كانت الولايات المتحدة عضوًا في دول التحالف. وقد تناول فيلم Hacksaw Ridge بعضًا من أحداث تلك الحرب في قالب درامي لحياة ديزموند دوس، قام بدوره الممثل أندرو جارفيلد؛ الممرض الذي قرر الذهاب للحرب، لا لكي يقاتل مثل باقي الجنود، بل ليعمل كمسعف. وتسبب تمسكه الشديد بهذا المبدأ، إلى حد رفض حمل السلاح حتى في التدريبات، لمتاعب عديدة في فترة تجنيده قبيل ذهابه إلى الحرب. ولكن الأمور تتغير بشدة حينما يذهب ديزموند لساحة المعركة ويبدأ في "إنقاذ الأرواح بدلًا من إزهاقها" على حد تعبيره. وعلى عكس الاعتقاد الشائع عند البعض، فهذا لم يكن فيلمًا حربيًا، مثل العديد من أفلام المخرج ميل جيبسون السابقة، بل هو فيلم سيرة ذاتية تدور أحداثه داخل حرب وشتان ما بين الأمرين.
ولم تكن رسالة الفيلم بعيدة عن هذا المعنى أيضًا حيث لم تخلُ من بعض المضامين الدينية المسيحية الصريحة، عن أهمية التسامح العقائدي وكيف يمكن لشخص أن يستخدم عقيدته الدينية لما فيه خير للجميع، بما فيهم ألد أعدائه. كما كان لافتًا للنظر وجود بعض الدعاية فيما بين سطور الفيلم للجيش الأمريكي، وهي كلها رسائل ربما أراد المخرج إيصالها ﻷسباب تتعدد بين التجارية، لضمان نجاح الفيلم في دور العرض، وفنية، بغرض إرضاء النقاد، وشخصية، ليحقق عودة إلى الساحة بعد غياب طويل. لكن تظل النقطة الأبرز في فيلم كهذا هو تصوير وحشية وبشاعة الحرب، ومدى صعوبة أن يظل شخص ما على قدر عالٍ من الثبات على مبدأ وسط كل هذه الأشلاء والجثث والدماء، فالحرب مريعة بكل ما فيها، ولا حل يطرحه المخرج من وجهة نظره سوى التسامح الديني للخروج من دوامة الحروب.
فيلم "The Last Samurai" للمخرج إدوارد زويك، يتناول مرحلة تحديث اليابان على النمط الغربي تحت إشراف الإمبراطور الجديد وإشكالاتها المركبة
لكن ربما لكونه فيلم سيرة ذاتية لم يسمح باستكشاف المزيد من أحداث الحرب من زواية أخرى، أو طرح تساؤلات أعمق، وهو ما يجعلنا نعود إلى الوراء قليلًا إلى ما قبل اليابان الحديثة، وقبل كل الأحداث التي وردت في اﻷفلام المذكورة بالأعلى إلى فيلم آخر صدر في عام 2016 أيضًا وهو فيلم Silence للمخرج الكبير مارتن سكورسيزي، والذي يقوم ببطولته أيضًا في مفارقة غريبة أندرو جارفيلد، حيث يمثل الصفة المشتركة بينهما بالإضافة لكون الفيلمان يتحدثان عن اليابان بشكل أو بآخر.
"لماذا نحافظ على التراث؟ ﻷننا لا نستطيع معرفة إلى أين نحن ذاهبون بدون معرفة أين كنا. لا نستطيع فهم المستقبل أو الحاضر حتى نحصل على بعض المعرفة من الماضي" - مارتن سكورسيزي.
يمثل فيلم Silence قيمة كبيرة لدى مارتن سكورسيزي ﻷنه انتظر أكثر من ربع قرن ليقوم بصناعته، وهذا بالتحديد ما جعله من أهم الأفلام المنتظرة لدى الكثيرين. يختلف مارتن سكورسيزي عن ميل جيبسون؛ فعلى عكس الأخير، ليس لدى مارتن سكورسيزي ميول دينية واضحة أو بمعنى أدق تركيزه ينصب أكثر على فلسفة الدين وطرح التساؤلات، مقارنة بجيبسون الذي يبدأ من فرضية عقائدية بالأساس ويجعلها نقطة انطلاق له.
اقرأ/ي أيضًا: قائمة شخصية: أفضل 10 أفلام صدرت مؤخرًا
فكان فيلم مارتن سكورسيزي بعنوان "صمت" الذي يدور حول رحلة اثنين من القساوسة اليسوعيين إلى اليابان، في مهمة استكشافية لمعرفة مصير معلمهما السابق الذي كان يقوم بمهمة تبشيرية هناك، وأثيرت شائعات حول ارتداده عن المسيحية، الأمر الذي رفضه القسان الشابان رودريجز وفرانشسكو، ويقوم بدورهما الممثلان أندرو جارفيلد وآدم دريفر. وخلال هذه الرحلة يستعرض الفيلم الأهوال التي يتعرض لها اليابانيون ممن اعتنقوا المسيحية ومدى الاضطهاد الذي يتعرضون له لإجبارهم على الارتداد إلى البوذية.
وتكمن المفاجأة بالنسبة للقس رودريجز في تطور أساليب الاضطهاد والتعذيب عما كان يظن أنه مستعد له، فالسلطات اليابانية لا تستهدف اليابانيين المتحولين للمسيحية بالقتل الجماعي كما كان يتوقع، بل أيضًا تربط مصيرهم بعقيدة القساوسة الذين يحاولون نشر المسيحية بينهم. وهكذا يجد رودريجز نفسه في معضلة أخلاقية كبرى، حول اكتشاف التصرف الصائب إزاء كل هذا، وكيف يمكن للمرء الموازنة بين إخلاصه لعقيدته وبين حياة الناس، إذا عرف بأن حياتهم مهددة طالما ظل هو على إيمانه. ذلك كان أحد أهم الأسئلة التي طرحها الفيلم بالإضافة إلى أسئلة أخرى فلسفية، كالسؤال الكلاسيكي القديم حول مشكلة الشر، وسبب عدم وجود رد فعل سريع ومباشر وظاهر من الإله إزاء كل هذا الشر في العالم، وهو أحد الأسئلة التي يطرحها رودريجز على نفسه عبر أحداث الفيلم.
ربما كان غرض مارتن سكورسيزي من الفيلم هو طرح هذه الأسئلة بشكل رئيسي، لكنه أيضًا أثار في الخلفية العديد من الأسئلة الأخرى حول التسامح الديني بين أتباع الديانات المختلفة، وهل نظرت السلطات المحلية في اليابان للمسيحية باعتبارها شيئًا دخيلًا ينبغي مقاومته بالقوة نظرة دينية بحتة، أم للأمر أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية، شديدة التعقيد والتركيب أيضًا، نظرًا لكون البعثات التبشيرية تأتي من أوروبا؟ وهل كان التنقيب في تاريخ اليابان القديم هذا محاولة لمعرفة اللحظة الأولى التي تصرفت فيها اليابان بوحشية "تجاه أفراد شعبها قبل الآخرين" سيعقبها ندم شديد بعد عدة قرون؟
في المجمل أجاد مارتن سكورسيزي كعادته طرح الأسئلة المفتوحة التي لا يمكن إجابتها ببساطة، وهو الدور الرئيسي والأول للسينما والفن عمومًا وهو طرح التساؤلات على المشاهدين وليس الإتيان بحلول.
"إن الإنسان الرفيع يبحث عن جذوره، فإذا ما تأصلت جذوره وضح الطريق" - كونفوشيوس.
وبالعودة إلى الحرب العالمية مرة أخرى، وتحديدًا إلى الحدث الأبرز على الإطلاق والذي أدى لإعلان اليابان استسلامها، وإنهاء الحرب على أحد أهم محاورها وأثار جدلًا لا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا حول مدى أخلاقية التصرف الأمريكي هذا، أي قصف هيروشيما وناغازاكي بالقنبلة النووية التي مسحتهما.
يدور فيلم سكورسيزي "صمت" حول رحلة اثنين من القساوسة في مهمة لمعرفة مصير معلمهما السابق الذي كان يقوم بمهمة تبشيرية باليابان
يرصد فيلم USS Indianapolis الصادر في عام 2016 أيضًا- وهي مفارقة غريبة أن تصدر ثلاثة أفلام في نفس التوقيت تقريبًا عن اليابان- الأحداث التي مهدت لقصف المدينتين، من خلال عرضه لحياة طاقم السفينة الحربية التي كانت مهمتها إيصال أجزاء من القنبلة الذرية لأحد نقاط الاشتباك التي يسيطر عليها الجيش الأمريكي.
على عكس الفيلمين السابقين، جاءت رسالة هذا الفيلم مضطربة قليلًا، مع أنه مبني على قصة حقيقية. فالسفينة تتعرض لهجوم ياباني بعد توصيلها للقنبلة الذرية، ويتعرض طاقم السفينة لمشاكل وأخطار وأهوال عدة أثناء محاولتهم البقاء على قيد الحياة والنجاة من كل ما يهدد حياتهم. ويستغرق الفيلم جزءًا لا بأس به من عرض حياة الجنود، فيما يبدو وكأنه دعاية للقصف الذري على المدينتين أو تبنٍّ للرواية الرسمية للحكومة الأمريكية القائلة بأن قصف المدينتين كان أفضل الحلول الممكنة. إلا أنه كلما اقترب الفيلم من نهايته رأينا الندم يظهر على قبطان السفينة وقائد طاقم الأسطول البحري على ما حدث، وكيف تأثرت حياة أغلب من ظلوا على قيد الحياة من الطاقم سلبيًا، وقد خسروا الكثير والكثير.
ولعل مما يجمع هذه الأفلام الثلاثة، وغيرها مما تمت الإشارة إليه باختصار، على اختلاف الأزمنة التي تقع فيها، والقصص المختلفة التي حدثت في كل منها، هو وجود نبرة الندم على خوض الحروب بوحشيتها ودمويتها وإلقاء اللوم، ولو بشكل خفي، على السياسيين وعدم اكتراثهم بحياة من يموتوا في تلك الحروب، بالإضافة إلى عدم وضع الأمور في خانتي الأبيض والأسود، فكلا الخصمين في تلك الحرب ارتكب العديد من الأمور الوحشية في حق الطرف الآخر، وربما في حق نفسه، مما يجعله يشعر بالندم إلى الأبد ويبقى السؤال الأخير: هل اتعظت الأطراف من هذه الحروب؟ وحده المستقبل كفيل بالإجابة.
اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "A History of Violence" كصفعة للحلم الأمريكي
هل تتجه السينما المصرية إلى المقاولات مجددًا؟