بين يدينا الآن بابلو نيرودا. أكثر شعراء أمريكا اللاتينية كتابة عن الحب.
منذ بداياته "عشرون قصيدة حب" حتّى مراحله المتقدمة "مائة قصيدة حب"، عرَفَ كيف يجمع بين البوحية المباشرة، وبين ربط هذا الحب الشقيّ الجارف المجنون بالأرض والطبيعة والناس وبالزمن أيضًا. يمكننا أن نلاحظَ أنَّ نيرودا في أبرز كتابين عن الحب "عشرون قصيدة حب" و"مائة قصيدة حب" يعود في نهاية العملين إلى نوع من الميلودراما، أو بالأحرى الدرامية: خط بياني يبدأ باللحظات الباهرة والعشق المنفتح لينتهي إلى الفراق. تطور درامي عند نيرودا وكأنه، في عبره غير المباشرة، يجعل الزمن ينتصر.
لكن علينا أن نتبع هذه الغنائية الرقيقة والعنيفة والفاجعة في عشقه إلى ما هو أضخم وأوسع عندما تعانقا. وبأجواء خيالية وأسطورية عالية الملحمية لا سيما في "النشيد العمومي" وهي برأينا تحفته الكبرى، أو في "سيف اللهب" حيث يمتزج الحس الخاص بالتاريخ والأسطورة، لتتداخل فيها الخوارق والحكايات والأساطير والتواريخ في بنية متماسكة وشعريّة مفتوحة. نايرودا في هذين الكتابين عرف كيف يعدُّ الغنائية المتفجرة بالملحمية العالية ووصولًا إلى صفاء النشيد.
غنائيته هنا تخترق المخيّلة التاريخيّة والذّاكرة الجماعيّة في لغة متماسكة وموصولة. يبني عمارتها حجرًا حجرًا، ونشيدًا نشيدًا، ومشهدًا مشهدًا، ولحظة لحظة، إنه الوعي الحاد بالتاريخ الذي اكتسبه من انتمائه الأيديولوجي، وهو الوعي الحاد بالأسطورة الذي اكتسبه من تراثه اللاتيني، وهو يمر بكيمياء العناصر اللغوية والصورية والايقاعية اكتسب بعضها من ثقافته الأوروبية لا سيما الفرنسية كما فعل صاحباه ماركيز وبورخيس.
المناخات الغرائبية التي نقرأها في "النشيد العمومي" و"سيف اللهب" متأثرًا بهذا الأخير بحكاية التكوين بارودي للواقع، هل تلتقي السوريالية التي تعمقها نيرودا؟ هل عناصر الصورة: جمع المتباعد أو لمّ المتنافر من إرث الدادائية أو السوريالية؟
علينا أن نعرف أن نيرودا التقى السوريالية وافترق عنها حاله حال رينيه شار وبريتير وارطو وايلويار وحتى لوركا. ما نقصده هنا أنه اختزن هذه اللعبة السوريالية القائمة على المدهش والغرائبي، والصدمة في الصورة والتراكيب. كلّ هذا موجود في شعره: المزيج من الإبهار الغريب في تركيب الصورة نجده حتى في قصائده الأولى وفي مجمل أعماله حتى في قصائده الغنائية "الصّافية".
علينا أيضًا أن نعرف أن نيرودا يبتعد بحكم تكوينه الأيديولوجي والنفسي عن المجانية. فالصورة المتداعية عند السورياليين مجانية. من سماتها الغياب أو الغيبوبة. ولا تذهب أبعد من ذاتها، أي أنها لا توظف في خدمة رؤيا يتخللها وعي "صارم" بالعالم.
الصورة السوريالية تلتقي مناخات الصوفية، والصوفية حواس متلاشية أو ذائبة أو نائمة أو حالمة. عند نيرودا الصورة جزء من الصمد الصوفيون ذوو عيون مغلقة يستنبطون بها العالم. عند نيرودا الصورة طالعة من "عين مفتوحة" على العالم. أي ذاهبة إلى وظيفة ومعنى وإيحاء وفكرة، بمعنى آخر إلى حقيقة ما. مغادرة لقيمتها "الإدهاشية" ومجانيتها.
هذا يعني أنّ نيرودا استفاد وإلى حد كبير من تقنيات السورياليين، ليدرجها في رؤيا نقدية. للعالم أو في نسيج متماسك للقصيدة، نستطرد هنا لنقول أنّ السورياليين رفضوا مبدأ القصيدة كبناء واع في اتجاه أن الجمالية المشغولة بعيدة عنهم.
لكن إذا كان نيرودا ترك ما ترك من السوريالية وأخذ ما أخذ فلأنه تأثر أيضًا بالرمزية ومن أعلامها البرسامان، جان بول رو هنري جايمس، بول فور وصولًا إلى مالرمه فاليري وصعودًا إلى بودلير وفراين وحتى رامبو. ما نقصده أن نيرودا لعب لعبة الظاهر والباطن وهي أيضًا عند الصوفيين الرمز والمرموز إليه، أي المجاز الذي يحبك عناصره حبكًا مشدودًا، أو حبكًا يستغل فيها مبدأ "الإيماء بدلًا من التفسير المباشر، سواء عبر الصورة (رامبو)، أو الموسيقى (فرلين)، أو الاثنين معًا فاليري".
علينا أن نلاحظ أيضًا أنّ علاقة نيرودا بالرمزية كمدرسة، هي كعلاقته بالسوريالية كمدرسة أيضًا وبالرومانطيقية، علاقة تقاطع ومغادرة. فهو ابتعد عن الوقوع في التصنيفات. وفي الكاتدرائيات النظرية الصارمة أي ابتعد عن تبني إحدى هذه المدارس كأبجدية مكتملة، ليستغلها كمفردات ويكون بذلك قد تحرر من كل ربق أو جماعة أو لغة جاهزة. نستطرد أيضًا لنقول أنّ كل المدارس تخضع لنظريات جاهزة
وهنا يكمنُ مقتلُها.
نقول هذا من دون أن نغفل أن نيرودا الذي نأى بنفسه عن الارتباطات الجمالية المحددة قد التزم الفكر الماركسي أو الشيوعي كمناضل وكحزبي حتى آخر أيامه. هل هو تناقض؟ ربما. لكن علينا أن نعرف أن نيرودا بقي في مجمل نتاجه ذا التزام مفتوح شيوعي متفتح بلا علامات مفروضة ولا ارتباط مقنن أي انتصر الشاعر على الايديولوجيا.
وعلينا أن نعرف أنه عدا عن بعض شعره السياسي المباشر، فهو قد كتب معظم شعره خارج هذه الالتزامات الأيديولوجية الضيقة، سواء في "حجارة التشيلي" أو في "قصائد الحب" أو في "سيف اللهب". وهي على الشرط الانساني العمومي لكن عبر تواريخ وطنه تشيلي وأمريكا اللاتينية. هكذا كان لوركا وألبرتي بالنسبة إلى إسبانيا، وناظم حكمت بالنسبة إلى تركيا. بل وعلينا أن نلاحظ أن نيرودا وظّف كل العناصر والمدارس الجمالية في زمانه، في خدمة قصيدته الخاصة أي قصيدته التي بقيت خارج التصنيف.
كان نيرودا من أصحاب الضربات الجمالية العالية، وتلك الكيميائية الخصبة في صهر العناصر التي تصوغ قصيدة متماسكة، وفي المقابل بقي شاعر الضوء بامتياز. أي شاعرًا لم يلجأ وعلى امتداد مراحله لا إلى الغموض، ولا إلى الالتباس. في قصيدته غموض شفاف غموض يضيء الداخل والفكرة والموضوع. غموض يطلعُ من تجريبية لغوية أو تكسير للمتن، أو تحطيم للمعاني، أو طمس لعلامات أي لا غموض تجريبيًا متصلًا بفكرة منسبقة أو بقلق شكلي يريد تطبيقهما فهو بعيد عن المختبرات.
هل يعني هذا أننا يمكن إدراج نيرودا ضمن لائحة الشعراء الشعبيين؟ أو الشعبويين كما هي حال كثير من شعراء الأيديولوجيا والأحزاب؟ هذه النقطة حساسة جدًا. وملتبسة. ذلك أن نيرودا هو أصلًا ذو انعطافات شعبية بطبيعة تركيبه وتوجهاته ومفهومه لدور الشاعر والمثقف، لكن هذه الانعطافات الفكرية قد لا تتحقق في ميدانه القصيدة النيروداوية بالشكل أن لديه كثيرًا من القصائد المناسبة. هذه القصائد صاغها لأهداف آنية كأن يوزعها أو يلقيها في تجمعات عمالية أو ثقافية أو حتى جماهيرية ثم تنطوي بانطواء المناسبة، لكن الأصح أن نيرودا ليس شاعرًا شعبيًا بالمفهوم الاستهلاكي أو السياسي أو الآني. فشعره يحتاج إلى تأمل وإلى درجة ما من الثقافة، والوعي الجمالي، والتلقي الإيجابي النقدي أي أنه شاعر تهيأ ليقرأ في كتاب. لا ليسمع في مهرجان حتى قراءته تحتاج إلى جهد قد لا يقوم به سوى النخب مع أنه يعارض مفهوم النخبة، فقصائد مثل "النشيد العمومي" أو "السيف الملتهب"، أو "يوميات الإقامة" أو حتى "حجارة التشيلي".
إنه يوم نيرودا وقصائده الشاعر الذي كتب بالحب، والحالم الكبير والتراجيدي الكبير استخلص في شعره عصارة قارة كاملة بكل تواريخها وأساطيرها وأحلامها، وأفكارها، ونضالاتها ودكتاتورييها وسجونها ومنافيها. الشاعر الذي ملأه الحبّ فكان شاعر القارة بل الشاعر القارة.
هنا قصائد له في الحب تعود إلى بداياته.
أحبُّ
أحبُّ حبَّ المراكب:
بضع خطوات قبل ثم تمضي
تترك تلك وعودًا
لكنها لا تعود أبدًا
امرأة تنتظر في كل مرفأ،
البحارة يقبلون ويمضون
ذات مساء ينامون مع الموت
بأسره في زرقة المحيط
*
أحبُّ الحب الذي يتقاسم بالقبل،
في السرير والخبز.
حب يمكن أن يكون أبديًا
وربما أيضًا عابرًا.
حب يريد أن يتحرر
ليعاود الحب من جديد.
حب كإله يقترب
حب كإله يمضي.
غسقُ ماروري
المساء على السطوح
يهبطُ
يهبطُ
من أعطاه لكي يأتي
جناحي عصفور؟
وهذا الصمت الذي يملأ
كل شيء،
من أي بلد كوكبي
جاء وحده
ولماذا هذا الضباب أيضًا
-ريشة صغيرة مرتعشة -
قبلته المطر
- المحسوسة –
هل سقطتُ في الصمت والأبد
كلَّ حياتي؟
الغسق
فقدنا مرة أخرى هذا الغسق
ولا أحد رآنا متشابكي الأيدي
بينما كانت القمة الزرقاء تهبط على العالم.
رأيت من نافذتي
عيد المغيب على الهضاب البعيدة.
أحيانًا، وكميدالية
تشتعل قطعة شمس في يدي.
وأتذكرك وقلبي منقبض
حزين من الحزن الذي تعرفينه فيّ.
أين كنت إذًا؟
وبين أيّ أناس؟
أيّ كلمات كنت تلفظين؟
لماذا يمكن أن يأتيني كلّ هذا الحب دفعة واحدة
عندما أحس نفسي حزينًا وأعرفك بعيدة؟
سقط الكتاب الذي كنا نأخذه إلى الغسق
معطفي قلب جريح، تدحرج عند قدمي.
تبتعدين دائمًا، ودائمًا في المساء
إلى أين يسرع الليل ماحيًا التماثيل؟
قلبٌ يكتفي
قلبي يكفيه صدركِ، أجنحتي لحريتكِ
من فمي يدركُ السماء
كل ما كان يرقد في نفسكِ
فيك الوهم اليوميّ
تأتيني،
ندًى على التويجات
غائبةً وتحفرين الأفق
كالصنوبر وأشرعة السفن.
أنتِ مثلها عالية ومثلها صامتة.
تكتئبين فجأة كما يكتئب المسافر.
مضيافة، مثل درب قديم.
أصداء وأصوات حنينية تسكنكِ.
عند يقظتي أحيانًا تهاجر وتمضي
طيور نامت في نفسك.
هذه الليلة
يمكنني أن أكتب أحزن الأبيات هذه الليلة.
أكتب مثلًا: الليل مزدان بالنجوم
وكواكب الأثير ترتعش في البعيد.
ريح الليل تدور في السماء وتغني:
يمكنني أن أكتب أحزن الأبيات هذه الليلة.
كنت أحبها، وأحيانًا هي أحبتني أيضًا.
في الليالي وكهذه الليلة كانت في أحضاني.
كنت أحضنها مرات كثيرة تحت السماء السماء اللامتناهية.
أحبتني وأحيانًا أنا أحببتها أيضًا
وكيف لا تُحب عيناها الواسعتان، عيناها
الواسعتان الثابتتان.
يمكنني أن أكتب أحزن الأبيات هذه الليلة.
أفكر بأنها لم تعد لدي.
آسفٌ لأني فقدتها.