ألتراصوت-فريق التحرير
باتت إثيوبيا قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق إلى مستنقع الحرب الأهلية من جديد، بعدما أعلنت"جبهة تحرير شعب التغراي وجيش تحرير أورومو" الزحف نحو العاصمة أديس أبابا، وهو الإعلان الذي ردّت عليه الحكومة المركزية في أديس أبابا بإعلان حالة الطوارئ وبدعوة المواطنين إلى ترخيص أسلحتهم وحماية أنفسهم.
نستعرض فيما يلي خلفيات وأسباب وواقع وتداعيات الصراع الدائر بين جبهة تحرير شعب التغراي والحكومة المركزية بقيادة رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد الحاصل على جائزة نوبل للسلام.
التغراي طرف الصراع الرئيسي في مواجهة السلطة المركزية في أديس أبابا
تُمثّل قومية التغراي 6% فقط من سكان إثيوبيا البالغ عددهم نحو 115 مليون نسمة، ويُعد التغراي ثالث أكبر قومية في البلد بعد الأورومو والأمهرة، وغالبية التغراي هم مسيحيون أرثودوكس توجد بينهم أقلية مسلمة تسمى "الجبرتة" وتُقدّر الإحصائيات عددهم بنحو 175 ألف نسمة، أي حوالي 4% من جملة سكان التيغراي. يقطن التغراي في مناطق شمال إثيوبيا وبالتحديد على الحدود مع إريتريا، ويجاورهم في المناطق التي يقطنونها داخل أثيوبيا قوميتَيْ "ولو وجوندار" الأمهريتين وقومية العفرية.
تاريخيًا عُرف إقليم التغراي بالتوترات لأسباب مختلفة، بينها معاناة الإقليم الشديدة مع المجاعة، 1983-1985 والحروب خلال فترة الحكم العسكري والحرب الأهلية الأثيوبية 1974-1991 التي أعقبت خلع الإمبراطور الإثيوبي الأخير هيلا سيلاسي عام 1974 من طرف ضبّاط متوسطي الرتبة بقيادة مينغستو هيلا مريام الذي أطيح به هو الآخر في العام 1991 بعدما تعرضت قواته للهزيمة في حرب أهلية طويلة استمرت قرابة عقدين. وكانت القوات التي انتصرت على الحكم المركزي عبارةً عن تحالف من ائتلاف يُسمَّى "الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا"، وكانت جبهة تحرير شعب تيغراي التي تستقي أدبياتها من الحزب الشيوعي الألباني المتطرف تُمثل أحد أبرز مكونات ذلك التحالف الائتلافي، بالإضافة إلى "منظمة شعب الأورومو الديمقراطية"، و"حركة الأمهرا الوطنية الديمقراطية"، و"الحركة الديمقراطية لشعوب وقوميات جنوب إثيوبيا".
بعدما وضعت الحرب الأهلية أوزارها صعد نجم الأقلية المعروفة بالتغراي، حيث هيمنت على الجهاز الإداري والعسكري في البلاد. ففي المؤسسة العسكرية تصل نسبة القادة المنتمين إلى قومية التغراي في المناصب العليا وحدها إلى 90% من مجموع قادة الجيش الإثيوبي، كما تحظى بتمثيل كبير في المناصب الإدارية العليا التابعة للدولة. وتواصلت هذه الهيمنة التي بدأت منذ العام 1994 حتى العام 2018 الذي شهد اندلاع احتجاجات واسعة في إقليميْ أوروما وأمهرا، غيَّرت المشهد الإثيوبي ودفعت رئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين المنتمي لقومية التغراي إلى الاستقالة، لتبدأ أثيوبيا مرحلةً سياسيةً جديدةً عنوانُها الانفتاح السياسي والتحول الديمقراطي تكلّلت بوصول رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد إلى الحكم.
بوصول آبي أحمد إلى الحكم شَرَع في تفكيك هيمنة التغراي على المؤسسات الرسمية، وذلك بإزاحة رموزهم، على خلفية قضايا فساد كبيرة رُفعت ضدّهم. وعندما اتخذ آبي أحمد قرارًا بصهر تحالف الأحزاب الحاكمة الممثِّلة لعدة أعراق في حزب واحد، رفضت قيادة جبهة تحرير تيغراي الانضمام إلى هذا الحزب، ليلتحقوا بعدها، أي قادة الجبهة، بإقليمهم في الشمال. ولحظتها بلغت الأزمة بين الجبهة وحكومة آبي أحمد نقطة اللاعودة، وكخطوة استباقية من آبي أحمد لاحتواء بوادر تمرد التغراي، على إثر قيام قواتٍ منهم بشن هجوم على قاعدة محلية للجيش في الشمال، وجّه آبي أحمد الجيش الإثيوبي الاتحادي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2020 إلى الإقليم، لتبدأ المواجهات العسكرية الواسعة بين الجانبين، وخلالها تمكّن الجيش الاتحادي في البداية من إنهاء بوادر التمرد العسكري للجبهة باعتقال قائدها، سبحت نغا، في كانون الثاني/يناير 2021 وبإحكام سيطرته على عاصمة الإقليم، ميكيلي.
لكن جبهة التغراي التي تضم في صفوفها 250 ألف مقاتل من المتمرّسين بالقتال إضافةً لقيادات عسكرية كبيرة من قادة الجيش الاتحادي وجهاز المخابرات الإثيوبيَيْن استطاعت تنظيم صفوفها من جديد والعودة للقتال، في ظل حديث عن حصولها على دعم خارجي، من دول بعينها، ودعم داخلي من جنود في الجيش الإثيوبي بالإضافة لانضمام جيش تحرير أورومو إليها في آب/أغسطس. لتتمكن الجبهة في غضون أشهر قليلة من استعادة السيطرة في حزيران/يونيو 2021 على عاصمة الإقليم ومناطق أخرى واسعة بينها مدن عدة في جنوب مدينة كومبولشا الإستراتيجية، على بعد 320 كم من أديس أبابا، وصولًا إلى إعلانها قبل يومين، أي جبهة تحرير شعب التغراي، الزحف نحو العاصمة أديس أبابا في ظل توقعات من داخل الجبهة، أن سقوط أديس أبابا "لن يستغرق أكثر من بضعة أسابيع"، وهو زعمٌ لقي آذانًا صاغية لدى السفارات الأجنبية في إثيوبيا التي حذرت مواطنيها من السفر إلى أديس أبابا ونصحت رعاياها بمغادرة البلاد حفظًا لسلامتهم.
تداعيات خطيرة وتعتيم إعلامي
تتحدث وسائل الإعلام الدولية، ومن بينها رويترز، أن الحكومة المركزية في أديس أبابا فرضت تعتيماً إعلامياً تاماً على إقليم تيغراي، في ظل تقديرات غير رسمية تتحدث عن أن النزاع العسكري الدائر خلّف آلاف القتلى وتسبّب في نزوح أكثر من مليوني شخص، غالبيتهم مهددون بالمجاعة.
وسبق للأمم المتحدة أن صرّحت بأن أكثر من خمسة ملايين شخص في الإقليم محل النزاع في حاجة ماسة إلى الغذاء والمساعدات، بينما هناك نحو 350 ألف شخص على الأقل على حافة المجاعة، وهو ما تنفيه الحكومة الإثيوبية التي تصرّ على احترامها للقانون الدولي في مجال الحروب، إلا أن التقارير الحقوقية المختلفة تتهم جميع الأطراف، أي الحكومة وجبهة تحرير شعب التغراي، بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان وتنفيذ عمليات قتل جماعي.
ونتيجة لتدهور الأوضاع واتساع رقعة عمليات القتال بعثت الولايات المتحدة موفدها إلى منطقة القرن الأفريقي جيفري فيلتمان إلى إثيوبيا في زيارة تمتد ليومين (الخميس والجمعة 4 و5 تشرين الثاني/نوفمبر) للدعوة إلى إيجاد حل سلمي في البلاد، وكان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس قد قال "إن الولايات المتحدة منزعجة بشدة من توسيع رقعة العمليات القتالية والعنف في إثيوبيا وتراقب الوضع عن كثب"، مشيرا إلى أن لدى إدارته "أدوات للضغط على الحكومة الإثيوبية فيما يخص الأوضاع في إقليم تيغراي، مجددا دعوة واشنطن لإريتريا "بسحب قواتها من إقليم تيغراي بشكل كامل". ومحذرا من أن أي "محاولة من قبل إثيوبيا لعرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى الإقليم ستقابل برد مناسب" على حد تعبيره.
وكانت الإدارة الأمريكية قد "علّقت امتيازات أديس أبابا في قانون النمو والفرص في أفريقيا" وهو ما أعربت أديس أبابا عن أسفها له، معتبرةً أن المخاوف بشأن حقوق الإنسان لا تبرر تعليق الامتيازات الإثيوبية في قانون النمو والفرص بأفريقيا.
على المستوى الاستراتيجي المتعلق بتعايش المكونات القومية في إثيوبيا يجادل بعض المتابعين بإمكانية أن يؤدي نجاح تمرد التغراي إلى تمردات قومية مشابهة، علمًا بأن إثيوبيا تتكون من 10 ولايات إقليمية جرى تقسيمُها على أسس عرقية، حيث تتمتع كل ولاية أو إقليم بحكم ذاتي مع وجود مؤسسات مركزية على المستوى الوطني، وكان آبي أحمد المتشبع بنظريتيْ مركزية الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا، والنظام الإداري للجغرافيا السياسية لفرنسا قد حاول إرساء سلطةٍ مركزية غير فيدرالية، وهو ما وجدت فيه بعض القوميات، وخاصة التغراي محاولةً لتهميشها ومركزة السلطة بيد آبي أحمد وحلفه السياسي.
لكن الثابت، في نظر المتابعين، أن الصراع الحالي سيُضعف الدولة الإثيوبية التي بدأت تتلمس طريقها نحو النهوض والتنمية في الفترة الأخيرة، وقد يعصف بالانفتاح السياسي وتجربة الانتقال الديمقراطي فيها، وهو ما يعني العودة إلى مربع الدكتاتورية العسكرية أو فوضى الحرب الأهلية الشاملة.
فضلا عن تلك التداعيات يتحدث المراقبون عن عواقب إقليمية مدمرة جرّاء الصراع الحالي، فقد عَبَر عبر آلاف اللاجئين الحدود نحو السودان، كما تورطت أريتريا البلد المجاور لإقليم تغراي في العمليات العسكرية التي تستهدف مقاتلي جبهة تحرير شعب التيغراي في تشرين الثاني/نوفمبر، وأي سيطرة للتغراي على مفاصل الدولة من جديد معناها توتر العلاقات مع الجارة الشمالية بسبب انحيازها للسلطة المركزية في حربها على إقليم تغراي.
تنصب جهود عدة قوى دولية وإقليمية على تهدئة أطراف الصراع والوصول إلى حلول سلمية قبل فوات الأوان
كما أن تركيز السلطات المركزية لجهدها العسكري في مواجهة جبهة تحرير شعب التغراي من المتوقع أن يلقي بظلاله على مشاركتها في دعم الحكومة الصومالية في مواجهة مقاتلي حركة الشباب.
ولذلك حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من أن "استقرار إثيوبيا مهم لمنطقة القرن الأفريقي بأكملها"، كما تنصب جهود عدة قوى دولية وإقليمية على تهدئة أطراف الصراع والوصول إلى حلول سلمية قبل فوات الأوان.
اقرأ/ي أيضًا:
إثيوبيا.. إعلان حالة الطوارئ مع إعلان جبهة تحرير تغراي تقدمها نحو أديس أبابا
الخلاف السوداني الأثيوبي: حرب تصريحات مستمرة والاتحاد الافريقي يتدخل