على متن قاربٍ مطّاطيّ صغير، وبرفقة نحو 60 شخصًا بينهم 15 طفلًا لم يتجاوز عمر البعض منهم سوى شهور قليلة، وصل الفنّان الموسيقيّ باكو حلّاق إلى القارّة الأوروبّية، أرض الأحلام أو برّ الأمان بالنسبة إلى سوريين كُثر، بعد رحلةٍ محفوفة بالمخاطر، تقلّصت فيها المسافة بين حلّاق ومن معهُ من جهة، والموت من جهةٍ أخرى حينما اقتربت سفينة ضخمة من القارب الصغير، وحاولت إغراقه بمن فيه.
بالنسبة لباكو حلاق، ألبوم "حنين" محاولة في استعادة التراث الشرقيّ بمختلف تفاصيله، واستعادة مدينة دمشق أيضًا
"حاولت السفينة في البداية ثقب القارب وإغراقه، ولكنّ طاقمها اكتفى فيما بعد بإجبارنا على إفراغه من الوقود بحيث لا نتمكّن من مواصلة رحلتنا. هكذا، بقينا في عرض البحر ستّ ساعات تقريبًا، حاولت خلالها برفقة آخرين أن نُعيد القارب إلى الشواطئ التركية من خلال دفعه، ولكنّنا فشلنا بسبب ثقل حمولته. في النهاية تمكّنا من العودة، وواصلنا رحلة اللجوء تلك في اليوم التالي. لقد نجونا يومها مرّتين، ووصل كلٌّ منا إلى وجهته بعد نجاتنا" يقول باكو حلّاق في حديثه لـ "ألترا صوت".
اقرأ/ي أيضًا: رسام برياش متكسّرة
لا يستعيد ضيفنا هذه الحادثة إلّا من أجل استعادة أكثر ما يعينه منها، وهو نجاته ونجاة من رافقه في رحلة لجوئه الطويلة التي انتهت ظاهريًا بوصوله إلى ألمانيا، ولكنّها داخليًّا لا زالت مستمرّة حتّى هذه اللحظة، ينتبه إليها حينما ينتبه إلى وجوده بصفته وجود غير طبيعيّ طالما أنّه، بشكلٍ أو بآخر، مؤقّت، وكلّ مؤقّت لا يعوّل عليه.
إنّ ما يجعل رحلة اللجوء هذه بالنسبة إلى الفنّان السوريّ لا تزال مستمرّة، هو الحنين الذي لا ينتهي إلى حياةٍ مضت في مكانه الأوّل الذي لا يكاد يتوقّف عن العودة إليه بين وقتٍ وآخر من خلال الأعمال الدرامية وكلّ ما يجعله على صلةٍ بها. في المقابل، لا يُخفي أو يُنكر مُحاولاته لجعل هذا الحنين متوازنًا نوعًا ما من خلال مُحاولة العيش بطريقة طبيعية مُشابهة للحياة التي يعيشها الألمان من حوله، ساعيًا في هذا السياق إلى التحرّر من أكثر الصفات التي ارتبطت به منذ مغادرته بلاده، والتي تُنبِّهه في الوقت ذاته إلى وجوده: لاجئ!
مُحاولات باكو حلّاق لجعل حنينه متوازنًا ومتّزنًا أيضًا، بدت غير مجدية أو فعّالة، والأبواب التي حاول أن يوصدها أو يتركها مواربة على ما مضى، تبيّن أنّها مشرّعة على وسعها، ينهلُ منها باستمرار ما سيشكّل فيما بعد أساساتٍ لألبومه الموسيقيّ الجديد الذي حَملَ عنوان "حنين"، الأمر الذي جعل منه، في واحدٍ من تعريفاته، ترجمة موسيقية حرفية لما يجول في خاطره، وحوارًا مفتوحًا لا بين "الفلامنكو" والموسيقى العربية فحسب، وإنّما حوارًا بين حلّاق نفسه وبلاده التي يُخاطبها هنا باللغة التي يتقنها.
الحياة في ظلّ ظروف اقتصادية واجتماعية ومعيشية أفضل، كان رهان غالبية السوريين الواصلين إلى الدول الأوروبّية لإلغاء الحنين أو كبح جماحه والتعامل معه. بالنسبة إلى حلّاق، لم يكن أمر التعامل معه يسيرًا، لا سيما وأنّ ألبومه أساسًا بدا قائمًا على الحنين، نسأله عن الأمر فيقول: "الفكرة من الألبوم هو تقديم شيء ما للبلد، بالإضافة لاستعادة التراث الشرقيّ بمختلف تفاصيله، واستعادة مدينة دمشق أيضًا، وترجمة المعاناة التي عايشناها كسوريين منذ بداية الثورة وحتّى هذه اللحظة".
تُحيط الفنّانين السوريين في بلاد اللجوء "هالةٌ" من التعاطف الذي يرى حلّاق أنّه يؤثّر سلبًا على الفنّان، لجهة فرضهُ نمطًا أو طريقة معيّنة لتلقّي أعماله الموسيقية والتفاعل معها وتقييمها انطلاقًا لا من جودتها وأصالتها، وإنّما من مأساة صاحبها الذي لا يُعرِّف بصفته "فنّان" بقدر ما يعرّف كـ "لاجئ"، ممّا يجعل من عملية التفاعل والتقييم قائمة على هذا التعريف تحديدًا، دون إعطاء العمل حقّه من التفاعل بطريقة سليمة. "باكو ليس اسمي الحقيقيّ، إنّه مُستعار، والهدف منه التخلّص من الشفقة والأسف على ما حدث في بلادي من قبل المتلقّين لما أقدّمه. عدا عن أنّه مُحاولة تمويه لفرض نمط مُختلف من التلقّي تكون في طريقة التفاعل مرتبطة بالمقطوعة الموسيقية، وليس بخلفية مؤلّفها ومأساة بلاده".
تُحيط الفنّانين السوريين في بلاد اللجوء "هالةٌ" من التعاطف الذي يؤثّر سلبًا على الفنّان، لجهة فرضهُ نمطًا أو طريقة معيّنة لتلقّي أعماله الموسيقية والتفاعل معها
ماذا بشأن أحوال الموسيقى العربية عمومًا والسوريّة خصوصًا، في القارّة الأوروبّية؟ نسأله فيجب: "حتّى هذه اللحظة لا يُمكن اعتبار ما جرى تقديمه في أوروبا موسيقى شرقية أصلية، باستثناء بعض الأعمال، على قلّتها. أمّا بالنسبة للطفرة في عدد الموسيقيين والأنشطة الموسيقية الشرقية، فإنّها لم تكن كفيلة بتقديم هذه الموسيقى بطريقة صحيحة، وبالتالي لا تزال صورتها مجهولة بالنسبة للأوروبّيين".
اقرأ/ي أيضًا: أوركسترا أورنينا.. سؤال الحرية بقالب فيلهارموني
أمّا عن إمكانيات الموسيقى العربية في الوقت الحاليّ، يقول حلّاق إنّها تراجعت بفعل الحروب والنزاعات المسلّحة الدائرة في المنطقة، الأمر الذي جعل من تطوّرها عملية بالغة الصعوبة في ظلّ هذه الظروف التي جعلت من مستقبلها مجهولًا. ويُضيف حلّاق في سياق الحديث عن مستقبل الموسيقى العربية: "هناك فكرة سائدة مفادها أنّ على الفنّ أن يكون بسيطًا بالشكل الذي يمكّن أي أحد من سماعه وتقديمه. الفكرة بشكلٍ عام جميلة وقابلة للتطبيق، ولكنّ هذا الأمر لا يتمّ على نحو صحيح لأنّ هناك من فهم الأمر على أنّه دعوة لتقديم الموسيقى دون دراسة أو تدريب، وهذه الموسيقى لا يُمكن إلّا أن تكون فارغة".
اقرأ/ي أيضًا: