15-مارس-2021

لوحة لـ رومار بيردن/ أمريكا

0

- تطلّع إلى وجهي جيّدًا، ستراهُ مشوّهًا بعد أربعين سنة.. تمامًا كما سيبدو وجهُك!

بهذه السردية المُرعبة ودّعتني المدينةُ التي حملَتني في جوفِها 20 سنة. لم تلفِظني خارجها سوى يوم واحدٍ وليلتين، قضيتهما في مدينة أخرى لسبب لم أعُد أذكُره.

أغادرُ الآن من مطارٍ يصغرُ من شباكِ طائرتي، حتى يتماهى مع رمل صحرائه، وتزدحمُ بهِ أنفاس الخلائق من بلاد الله كلّها، يتكثّفُ من خللِها بخارٌ أبيض وعيونٌ تحاولُ أن لا يكون حنينُها مكشوفًا. أتابعُ في تناقضٍ طازج امتعاضي من وطني وحنيني إليه.

 

1

توزّعَ بصري، بين قمم جبالٍ تناثرت في فضاءٍ مفتوحٍ لي من شرفة شقتي في الطابق العشرين من البناية التي أسكنُها، وبين النصف المرئي تحتي الذي تراقصت به أضواء ساحرة، بينما كشفَت هدأة الليل عن أنينٍ اتخذ هيئة صراخ. كنتُ أشعرُ أنني منفلتٌ من قوة الجاذبية، لا يربطني إليها سوى خيطٍ واحد ممزق، أسبحُ في فضاءاتٍ محدودةٍ بحدود الشرفة ذاتها! كان الأنين الصارخ يقتربُ مني، ويزدادُ صوته حشرجةً متعَبة تُردّدُ برتابة قوية:

- تطلّع إلى وجهي جيّدا، ستراهُ مشوّهًا بعد ثلاثينَ سنة.. تمامًا كما سيبدو وجهُك!

حينَ صحوتُ من نومي، كانت الكلمات تدقّ في رأسي مثلَ سكينٍ معطوبة، ولمْ أدرِ أين سمعتُها من قبل، كأنّ ذاكرتي فقدت ملامحها!

 

2

لقد ضعُفَ بصري؛ فارتديتُ نظّارتي السميكة. ومنذُ اليوم صار لي نظارتان، واحدة للقراءة، والأخرى لأنظرَ في وجوه الناس جيّدًا، ومع ذلك لن أتذكرهم.

نمتُ هذه الليلة محدّقًا في سقف الغرفة، يأخذُني إلى مشاهدَ مُتخيّلة لأقوامٍ صارَ حيّزهُ ساحةَ حربٍ لهم، أحضرت كل فرقة منهم حيواناتها معها: النمرُ المخطّط يغرسُ مخلبه في جلد النمر الأسود، والحصانُ المجنّحُ يركبُ ظهر الفيل الأبيض... ثمّ بزغَ الليلُ من منتصف حيز المعركة، أي السقف، يحملُ في عتمته المنثورةِ صوتًا أنثويًا يغني كلماتٍ لم تكن موزونة، لقد غنى الصوت الأنثوي:

- تطلّع إلى وجهي جيّدًا، ستراهُ مشوّهًا بعد عشرين سنة.. تماما كما سيبدو وجهُك!

ثمّ انقضّت ساحة المعركة فوقي؛ فاستيقظت وقد آلمتني أضلاعي، ولم أتذكر.

 

3

أطفأ الجميعُ أنوار غرفهم. بدا تسلسل خفوت الأنوار باعثًا على الخوف، حيث أحسست أنّ صدري يختنق بدخان سنواتي الخمسين التي أُطفأت اليوم. كانَ الجوّ عاصفًا، وكانت الريحُ تعوي خلف الشبّاك الزجاجيّ، ولا أدري حقًّا إن كنتُ قد غفوتُ أم أنّ الحلُم قد توحّدَ مع الخيال ليلِدا واقعًا مرعبًا تجسّد أمامي!

انكشفَ فضاءُ الغرفة عن ضوءٍ ساطعٍ بزغ من كشاف كهربائي معلق فوق بابها. وعلى الجدران ظلالُ رجالٍ يروحونَ ويجيئون دون أن تُوجدَ أجسادهم في الفضاء المكشوف. كانت الظلالُ تُحدّقُ فيّ وتسير، ولم أستطعْ أن أشيحَ بصري أو وجهي عنها. وصعدَ قلبي إلى حلقي فشرقتُ به.

خمسونَ شمعة انتظمتْ في طبقٍ مذهّبٍ كبير، بدا الظلّ الذي يحملها مرعبًا أكثر من باقي الظلال، قُدّم الطبق لي، ولما أمسكته، انفتح جدارُ الغرفة على ريحٍ عاتية تجمعت في خطّ سير ضيّق، وصفّرت، ثمّ أطفأت الشمع بينَ يديّ. ثمّ سمعتُ صوتا غليظا ينادي:

ـ تطلّع إلى وجهي جيّدا، ستراهُ مشوّهًا بعد عشر سنين.. تمامًا كما سيبدو وجهُك!

حينَ فتحتُ عينيّ كانت الشمعاتُ المنطفئة منثورةً على سريري، وكان الكلامُ ما يزال يدور في أرجاء الغرفة!

 

- الزمن: صفر.

حلّقنا في السماء. كانت الطائرةُ تضطّربُ بين زمنينِ أنامُ خلالهما لأريحَ جسدي من الجنازة. خلال عشرة أيام لم أنم إلا سبع ساعات. كنتُ أفيقُ من نومي ودموعي تبلل صدري. لقد مات ابني بعد يومين من حصوله على درجة الدكتوراة في الهندسة الوراثية. خلّف وراءه روحي الهشة الممزّقة، وتركني جسدًا يُصارعُ ذاكرتَه فلا يطيقُ سطوتها عليه.

الآن، أتوجه بالسيارة إلى المدينة التي غدرتُها/غدرَتني قبل أربعين سنة، ترتعشُ في جسدي العتمةُ التي أشعرُ بها، وفوقي، تستعدّ غيوم المدينة لبكاءٍ مرّ.

أطلبُ من السائق أن يتوقف على الجهة اليمنى من الطريق، على مدخل المدينة تمامًا. تسقطُ قطرةُ ماء فوقَ رأسي. أجدُني ملوّحًا جسدي لرياح عاصفة تزدادُ شدّتُها. أدخل المدينة التي لم أرها منذ الوقت الذي غادرتها فيه، ويشتدّ المطر. يخيّلُ إليّ أن المطر يجلدني بأمر من المدينة، او ربما يغسلُني، لكني لا أشعر بصدق هذا الاحتمال. كانت الغيوم تمرّ فوقي، بيني وبين قمر المدينة الذي غاب معظمُه، تمرّ مسرعة. لقد خلعت المدينةُ قناعها الأول، واستبدلته بقناعٍ أجمل، لكنه قناعٌ غادر، موحش، ورائحته، رغم جمالها، إلا أنها تثير الاشمئزاز في نفسي. لقد رأيتها مشوّهة عن صورتها الأولى، كأنّها مسخ. وضحكتُ وأنا أبكي، حين انعكست صورتي على واجهة زجاجية لمتجر ملابس. ضحكتُ لما استرجعت تلك السردية التي سمعتُها لأول مرة قبل أربعين سنة:

- تطلّع إلى وجهي جيّدا، ستراهُ مشوّها... تمامًا كما سيبدو وجهُك!

ضحكتُ لأنّني رأيتُ وجهي المشوّه كما رأتهُ المدينة منذ أربعين سنة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

غير أيامنا المُقبلة، ماذا يأكل الخوف؟

كنتُ أتمنى.. كنتُ أرجو