يعتبر دارسو الأدب الشعبي أن الألغاز واحدة من المظاهر الكاشفة لثقافة الشعوب، بتعبيرها عن جوانب من ثقافته المادية والعقلية والروحية والاجتماعية، فاللغز من خلال السؤال والجواب يعطي ملامح خاصة لنوعية الثقافة الشعبية السائدة في المجتمع. ولسنوات خلت، اعتاد المصريون على وجود فقرات الألغاز المتلفزة "الفوازير" على الشاشات الرمضانية، حتى أنها كانت تحوز على نسب المشاهدة الأعلى في الشهر الكريم.
يعتبر دارسو الأدب الشعبي أن الألغاز واحدة من المظاهر الكاشفة لثقافة الشعوب
كأن ارتباطًا شرطيًا جمع بين رمضان والفوازير، واستمد ذلك اللون الفني حضوره القوي من خفة الحبكة الدرامية واحتوائه على الأغاني والرقصات الاستعراضية التي تؤديها فنانات يتمتعن بقبول ورصيد شعبي كبير، إلى جانب الجزء الأهم وهو الفزورة أو الأحجية التي يقوم الجمهور بحلها.
اقرأ/ي أيضًا: في حضرة العميد أسامة أنور عكاشة
الآن، لم يعد للفوازير وجود، إلا في أخبار متناثرة على صفحات المجلات الفنية عن استعداد النجمة الفلانية لإعادة تقديم الفوازير في رمضان القادم، ثم يأتي رمضان ولا يحدث أي جديد.
بدايات
في اللغة، فرز الشيء أي فتته، والفزورة في الأدب الشعبي تسمى "الحرز"، وهي أحد أقسام المأثورات الشعبية الأربعة إلى جوار الحكاية والأغنية والمثل. عرفها المصريون مع الإذاعية الكبيرة آمال فهمي منتصف الخمسينات، وعن ذلك تقول أول امرأة ترأس إذاعة الشرق الأوسط: "الفكرة جاءتني داخل إحدى محطات البنزين عندما كنت أستمع إلى صوت يتردد في الراديو ولم أستطع التعرف على صاحبه". هنا، فكرت الإذاعية النابهة في برنامج مسابقات يقوم على استضافة المشاهير ليقرؤوا ما تيسّر من صفحات الكتب، ويحزر المستمعون صاحب الصوت، فاستضافت أم كلثوم التي قرأت صفحة من رواية "الأيام" لطه حسين، وتروي آمال فهمي أن عددًا كبيرًا من الجمهور أخطأ في صوت أم كلثوم واعتقدوا أنها الدكتورة سهير القلماوي. كان ذلك زمنًا مختلفًا، استضافت الإذاعية الكبيرة في هذه الفوازير التي سمتها "مين صاحب الصوت؟" عددًا كبيرًا من نجوم السينما والفن والأدب في ذاك الزمان، وكانت الجائزة الأولى قدرها 5 جنيهات والثانية 4 جنيهات والثالثة 3 جنيهات.
ثم قدمت آمال فهمي فوازير "على رأي المثل" بالمشاركة مع سامية صادق، وكانت عبارة عن أسئلة يقوم المشاركون من الجمهور بإرسال الإجابات عنها عبر البريد، ثم انتقلت الفكرة إلى التلفزيون المصري بعد عام واحد على بدء إرساله. ولأن بيرم التونسي هو أول من كتب لآمال فوزي فوازيرها الإذاعية، كان من الطبيعي أن يكون شاعر العامية الكبير هو صاحب أولى التجارب التلفزيونية عام 1961، حيث مزج بين الفزورة والمثل الشعبي، عن طريق تأليف قالب درامي قصير ينتهي دائمًا بعبارة تلقيها المذيعة "وعلى رأي المثل"، ليقوم الجمهور بإرسال قائمة الأمثال الصحيحة التي تدور حول معناها حلقات البرنامج.
شهدت فوازير "صورة وفزورة" التي دامت ٧ سنوات شراكة بين نيللي والمخرج عبد الحميد
لكن الشكل المتعارف عليه لفوازير رمضان بصورتها الاستعراضية لم يعرفه المشاهدون إلا على يد المخرج أحمد سالم وفرقة ثلاثي أضواء المسرح وأبطالها الضيف أحمد وجورج سيدهم وسمير غانم. وكانت أول فوازير رمضانية بعنوان "وحوي يا وحوي"، التي قام الثلاثي أنفسهم بكتابة حواراتها وارتجالاتها معتمدين على الكوميديا والاسكتشات التي كانوا يجيدونها، بينما أخرج المقدمة الراحل نادر جلال. وبالإضافة إلى صفاء أبو السعود التي تعتبر الضلع النسائي المضاف إلى الثلاثي، شارك في بطولة الفوازير الممثلون إبراهيم سعفان وسهير الباروني وأحمد نبيل وأسامة عباس وفاروق فلوكس وسمير ولي الدين وسيف الله المختار. وعلى الرغم من بساطة الثلاثي المعهودة وكوميديا أبطاله الصارخة، لم تستمر فوازيرهم لأكثر من 3 سنوات، لتتوقف في عام 1970 بوفاة العنصر الأهم في الفرقة، الضيف أحمد.
اقرأ/ي أيضًا: دراما رمضان المصرية.. فضائح الأسبوع الأول
هناك شواهد تاريخية على أن سمير غانم وسيدهم استمرا في تقديم الفوازير بعد وفاة صديقهم الثالث حتى تشرين الأول/ أكتوبر 1973، لكن المؤكد أنه بحلول العام 1975 كان المصريون على موعد مع الولادة الثانية والأهم للفوازير على يد الأيقونة نيللي، التي حوّلت الفوازير إلى استعراض مبهج يناسب فرحة المجتمع المصري الخارج لتوه من انتصاره على العدو الإسرائيلي.
فهمي عبد الحميد يقدم
لم يكن باستطاعة نيللي وحدها تقديم ما سيصبح أيقونة رمضانية لاحقًا، بل ساهم في ذلك شراكتها مع مخرج الفوازير الأشهر فهمي عبد الحميد واعتمادهما على الأسلوب الساخر في طرح واستخدام العديد من مكونات الموروث المصري، كالسيرك والأراجوز. بدأ الثنائي، نيللي وعبد الحميد، رحلة شراكة ستدوم 7 سنوات بينهما بمشاركة مبدع ثالث هو مصمم الاستعراضات الشهير حسن عفيفي، في فوازير بعنوان "صورة وفزورة"، واستمر هذا الثلاثي في العمل معًا في العام التالي في "صورة وفزورتين"، ثم في العام التالي مع "صورة و3 فوازير"، وعام 1978 في "صورة و30 فزورة" التي كانت تعتمد فكرتها على تنكر نيللي في شخصيتين، الأولى ثابتة طوال ثلاثين حلقة وهي شخصية صحفية تقوم باستضافة المشاهير، والثانية هي شخصية الضيف المشهور المطلوب من المشاهدين معرفة شخصيته. ثم جاءت مرحلة نضج الفوازير، إذا جاز التعبير، مع الشاعر صلاح جاهين في بداية الثمانينات، حين كتب لها رائعتين هما "الخاطبة" و"عروستي"، أجادت نيللي في كليهما بشكل كبير، وإلى الآن يعتبر الكثيرون "عروستي" واحدة من أفضل الفوازير التي قدمها التلفزيون المصري.
تميزت فوازير فطوطة بطاقة كوميدية ذكية مكّنتها من الوصول إلى قلوب المشاهدين من الصغار والكبار
ومثلما يحدث في أيامنا الحالية من استثمار لموجة الحنين إلى الماضي، قرر المخرج فهمي عبد الحميد في 1982 إعادة سمير غانم لتقديم الفوازير، مبتكرًا له خصيصًا شخصية "فطوطة"، والتي ستصبح بعد ثلاثين عامًا من تقديمها الرصيد الأبرز للممثل الكوميدي ليظهر بها في إعلان رمضاني لإحدى شركات الاتصالات ثم يعيد تقديمها في برنامج إذاعي هذا العام.
اقرأ/ي أيضًا: دراما رمضان والفانتازيا التركية
تميزت فوازير فطوطة بطاقة كوميدية ذكية مكّنتها من الوصول إلى قلوب المشاهدين من الصغار والكبار، كذلك تمتعت بحضور أسماء "ثقيلة" في تتراتها، وليس أدل على ذلك من تلحين سيد مكاوي لأغنيتي المقدمة والنهاية. لكن في الموسم الثالث لفطوطة، أخذ بريق سمير غانم في الخفوت، ثم ظهرت شريهان على الساحة.
في عام 1985، قدمت الفراشة الشقية أولى مواسم فوازيرها الشهيرة "ألف ليلة وليلة"، بتجسيدها شخصية عروس البحور، تلك الأميرة التي تعيش في البحر وتقع في حب أمير وسيم لا سبيل إلى العيش معه أبدًا. استمرت شريهان في تقديم شخصيات من "ألف ليلة وليلة" في العام التالي، ثم قدّمت فوازير "حول العالم في 30 يومًا" في عام 1987، لتعود في عام 1988 لتقديم فوازير "ألف ليلة وليلة: كريمة وحليمة وفاطيما". أبهرت شريهان الجميع بعد أن أظهرت موهبتها الاستعراضية المكتملة، ودخل الكثيرون في عقد المقارنات بينها وبين نيللي، واستغلت الصحافة الفنية جماهيرية النجمتين لإذكاء ما يشبه فتنة صغيرة تدور حول أي منهما صاحبة الفوازير الأفضل. في الأثناء، انشغلت شريهان بالسينما وبحياتها الخاصة التي امتلأت بالألم، بينما امتنعت نيللي عن العودة لتقديم الفوازير، فاضطر فهمي عبد الحميد للبحث من جديد عن "وجوه جديدة" لتقديم مشروعه الرمضاني.
وقع اختيار مخرج الفوازير على وجهين توسّم فيهما الجذب الجماهيري، فكانت فوازير رغدة ومدحت صالح في 1989، ثم حاول إسناد البطولة إلى مطربة الأطفال الشقية في ذلك الوقت، صابرين، بمشاركة هالة فؤاد ويحيى الفخراني في فوازير "المناسبات"، ثم أتي بحسن يوسف وليلى علوي لتقديم "الأشكيف وست المِلاح"، ثم عاد بمدحت صالح لتقديم فوازير "الفنون" بمشاركة شيرين رضا، وفي كل تلك المحاولات لم يحالفه الحظ في حصد النجاح والشهرة السابقة مع نجومه السابقين. لذا كان طبيعيًا أن تعود إحدى نجمتي الاستعراض لاستعادة وهج الفوازير، فكانت نيللي هي الأكثر جهوزية، لأن شريهان كانت تعاني من إصابات كبيرة نتيجة حادث قيل أن من وقفت وراءه هي سوزان مبارك.
المهم أن نيللي وافقت على العودة من جديد في فوازير بعنوان "عالم ورق ورق" عام 1990، ولكن أثناء التحضير لها خطف الموت فهمي عبد الحميد، فأكملها مساعده جمال عبد الحميد. كانت عودة نيللي موفقة للغاية، استطاعت إحياء ذلك الفن الذي كاد يموت، فقدمت موسمين تاليين من الفوازير، ثم اعتذرت عن استكمال المشروع في 1994. كان ذلك إيذانًا بفترة من التخبط ستشهدها الفوازير وبداية عصر جديد، حيث جاء محمد الحلو وشيرين وجدي في العام التالي وقدّموا "قيس وليلى" دون تأثير كبير، وحتى مع عودة شريهان ونيللي في الأعوام الثلاثة التالية فإن بريق الفوازير نفسها قد أخذ يبهت مع دخولنا في عصر سطوة المسلسلات التلفزيونية.
تعاقب على تقديم فوازير رمضان عدد من النجوم والنجمات، حاولوا وحاول التلفزيون معهم ملء الفقرة الرمضانية الثابتة
طوال السنوات اللاحقة، تعاقب على تقديم فوازير رمضان عدد من النجوم والنجمات، حاولوا وحاول التلفزيون معهم ملء الفقرة الرمضانية الثابتة ولكن النتائج لم تأت دائمًا على النحو المتوقع.
اقرأ/ي أيضًا: 10 أشياء ستشاهدها في دراما رمضان المصرية
في عام 1997 قدمت جيهان نصر فوازير "الحلو ما يكملش"، وفي العامين التاليين حاولت الصاعدة نادين تذكير المشاهدين بأيام نيللي في فوازير "جيران الهنا" و"ما نستغناش"، وفي نهاية العقد الأخير من القرن العشرين كان مشاهدو قنوات ART الفضائية الخاصة على موعد مع الفوازير الوحيدة التي حظت بجماهيرية لافتة وهي "أبيض وأسود" التي قدمها الثلاثي أشرف عبد الباقي ومحمد هنيدي ودينا. مع بداية الألفية الجديدة، اتجه التلفزيون المصري للاستعانة براقصات شهيرات في محاولة لجذب الجمهور وتقديم استعراضات مثيرة، فجاءت لوسي وحاولت بدورها في "قيمة وسيما"، ومن بعدها حاول التلفزيون المصري استغلال النجاح الذي حققته فوازير ART فاستعان بالراقصة دينا لتجرّب حظها وحيدة في "أبيض وأسود كمان" ولكن الأمر لم يكن على المستوى المطلوب. بعدها، جاءت راقصة البالية المتحولة للتمثيل نيللي كريم وقدمت فوازير "حلم ولا علم"، ثم جاءت البنت الشقية –حينها- ياسمين عبد العزيز لتقدم "العيال اتجننت" بمشاركة محمد سعد والراحل عبد الله محمود، ثم كانت نهاية تلك المرحلة على يد غادة عبد الرازق التي قدمت فوازير "فرح فرح" في 2003.
بعد ذلك التاريخ، اختفت الفوازير من على شاشة التلفزيون المصري ولم تجرؤ القنوات الخاصة على خوض تجربة إنتاجها إلا في محاولات متواضعة لم يكتب لها النجاح ولا الاستمرار، مثلما فعلت المغنية اللبنانية ميريام فارس في فوازير "مع ميريام" التي أنتجها رجل الإعلان طارق نور، أو ما فعلته المذيعة الكويتية حليمة بولند حين قدمت الفوازير على إحدى القنوات الخليجية فأنهت التفكير في تقديم محاولات غيرها.
وغياب الفوازير عن الشاشات المصرية والعربية يبدو أنه سيطول أمده، بالنظر لخوف المنتجين من المغامرة بإنفاق ميزانية كبيرة على "منتج غير مضمون"، معطوفًا على عدم توفر فنانة تمتلك الكاريزما والقدرات الاستعراضية المناسبة للقيام بالدور. ربما كانت المصرية دنيا سمير غانم خيارًا محتملًا لتقديم الفوازير بامتلاكها حضور وكاريزما لافتة، ولكن الخوف الشديد من المقارنة بنيللي وشريهان سيقف عائقًا أمام رؤية ذلك الاحتمال، أو غيره من الاحتمالات، متحققًا على أرض الواقع. في رمضان الماضي، كان المسلسل الكوميدي "نيللي وشريهان" الذي قدمته دنيا وشقيقتها إيمي سمير غانم، نواة لفوزاير من الممكن الاستثمار فيها لسنوات قادمة، غير أن صناع المسلسل غلّبوا دراما اللغز على اللغز نفسه.
إنه زمن الدراما، حيث لا تستطيع الفوازير النهوض من جديد، وأغلب الظن أنها لن تجد أساسًا من يعينها على ذلك.
المحتوى الدرامي للفوازير نفسها يبدو أنه سيجد صعوبة هو الآخر في إيجاد مواهب قادرة على تقديمه بصورة تماثل –أو تقترب حتى- ما فعله صلاح جاهين وبيرم التونسي وطاهر أبو فاشا وعبد السلام أمين، الذين جعلوا من تأليف الفوازير مهمة صعبة لمن سيأتي بعدهم. الأمر نفسه يمكن أن ينطبق على موسيقى الفوازير، فبعدما تصدّى لهذه التجربة موسيقيين من أمثال محمد الموجي وسيد مكاوي، سيكون من الصعب محاكاتهم أو مجاراتهم في عصر غلبت عليه الجُمل الموسيقية العابرة.
اقرأ/ي أيضًا: أفراح القبة.. الدراما المصرية تعود إلى الواجهة
أخيرًا، وقبل كل ما سبق، لا ننسى أنه في الظهور الثاني لأفضل من قدَّم الفوازير، نيللي وشريهان، في منتصف التسعينات، لم يستطع حضورهما الصمود أمام الغزو الدرامي الذي شهد بدايات فتوته على يد كتاب مثل أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبد الرحمن ومحسن زايد؛ فما بالنا وقد وصلنا الآن إلى عصر أصبح فيه رمضان "موسم مسلسلات" بامتياز، يُعرض خلاله أكثر من 40 عملًا دراميًا تتسابق القنوات الفضائية في ما بينها لانتزاع أكبر عدد ممكن منها وعرضه حصريًا على شاشاتها.
إنه زمن الدراما، حيث لا تستطيع الفوازير النهوض من جديد، وأغلب الظن أنها لن تجد أساسًا من يعينها على ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: