عرف السياسي والسيناتور الأمريكي، بيرني ساندرز بمواقفه المناهضة للتمييز العنصري في أمريكا والعالم، ودأب على تقديم مواقف ضد اليمين العنصري الأمريكي والاستعمار الإسرائيلي، وبعض القوى الرجعية في العالم مثل النظام السعودي بقيادة محمد بن سلمان، لكن هناك جزءًا مخفيًا من تاريخ الرجل، يعرضه الكاتب والناشط الأمريكي شون كينغ في هذا المقال المترجم عن مجلة جاكوبين، ويتطرق لأهمية تفاني بيرني ساندرز في مكافحته للعنصرية على مدار حياته، منذ ستينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا.
أرفض تمامًا تلك الأصوات القائلة بأن بيرني ساندرز كان بعيدًا عن الساحة الحقوقية في ستينيات القرن الماضي. إذا كان كذلك، فمن أنت إذًا؟ وماذا قدمت؟ وما الذي ناضلت من أجله؟ ومن وما الذي جابهته طوال حياتك؟ عندما يتقدم الناس إلى تولي المناصب القيادية بعد عشرين وثلاثين وأربعين عامًا من الآن، ويتنافسون على السلطة، فإن كل ما كانوا يفعلونه، وموقفهم من حركة "حياة السود مهمة"، لابد أن يحمل أهمية كبيرة. إذا كان ما فعله بيرني في ستينيات القرن الماضي ليس مهمًا، فإن ما تفعله الآن ليس مهمًا. إلا أنني أعلم يقينًا مثلك تمامًا أهمية ما قام به.
اصطف بيرني ساندرز جنبًا إلى جنب مع متظاهرات سمراوات البشرة، وتشبث بهن ورفض التحرك. حتى عندما أخبرته شرطة شيكاغو أنه قد يتعرض للاعتقال
قال مارتن لوثر كينغ ذات مرة "إن المعيار الحقيقي للرجل ليس موقفه في أوقات الراحة والرفاهية، بل موقفه في أوقات الشدة والنزاع".
انتقل بيرني ساندرز في سن المراهقة من مسقط رأسه في بروكلين إلى شيكاغو خلال ذروة حركة الحقوق المدنية. كان ذلك الوقت هو الأكثر اضطرابًا وشدةً الذي واجهته البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية قبل مئة عام.
اقرأ/ي أيضًا: العنصرية تلاحق شبح مارتن لوثر كينغ.. عين الأكاديميا الأمريكية المغمضة
ظل أغلب الأمريكيين، ولا سيما الغالبية العظمى من الأمريكيين البيض، صامتين. كان ذلك صمتًا إزاء الإعدامات التعسفية دون محاكمة، وخراطيم المياه، وتفجير المنازل والكنائس، وتنفيذ الاغتيالات، وإطلاق الكلاب الشرسة على الأطفال. كان ذاك الصمت الأبيض هو الذي فطر قلب كينغ القابع في سجن برمنغهام. كان ذاك الصمت الذي كشفه، يخبرنا أن ضمير أمريكا أكثر وحشيةً وشرًا من هذا المكان.
أحب بيرني الدكتور كينغ. وقبل استخدامنا لتلك العبارة بوقت طويل، كان لدى بيرني فكرة أنه في حاجة لاستخدام ميزة أنه أبيض البشرة للنضال ضد العنصرية، والتعصب، والاضطهاد، وعدم المساواة. وبدأت تلك الرغبة الرامية للارتقاء بتلك البلاد إلى أعلى المراتب بالنضوج لدى بيرني، الذي كان طالبًا صغيرًا بجامعة شيكاغو. والذي أصبح آنذلك رئيسًا للمكتب الجماعي لمؤتمر المساواة العرقية CORE، والذي دمجه مع التنسيقية الطلابية ضد العنف SNCC. ساهم بيرني حرفيًا في تنظيم أول اعتصام معروف في جامعة شيكاغو، حيث خيم ثلاثة وثلاثون طالبًا خارج مكتب رئيس الجامعةـ احتجاجًا على الفصل العنصري في السكن الجامعي.
وبسبب انزعاجه من وحشية الشرطة في شيكاغو، قضى بيرني يومًا كاملًا ذات مرة في نشر وتغطية جدران المدينة بالمنشورات المناوئة لهذا الفعل، وتجدر الإشارة إلى أنه كان يتم تعقبه من الشرطة التي كانت تتبعه وتنزع تلك المنشورات مرة أخرى.
لا يحب بيرني رواية تلك القصص، كما رفض مرارًا وتكرارًا استغلالها سياسيًا على مر السنين، حتى عندما أخبره الناصحون وكتاب آخرون أنها قد تعزز مكانته، أصر على رفضه. إنه يفعل ما يتوجب عليه فعله لأنه صاحب قضية. عندما تحدثت عن بيرني في إحدى المسيرات في لوس أنجلوس، من خلال مشاركة العديد من تلك القصص، أتتني عائلته والدموع في أعينهم، وقالوا إنهم أنفسهم لم يسمعوا تلك القصص من قبل إطلاقًا. لقد شعر دائمًا بضئالة ما فعله في الستينيثات مقارنةً بمن تعرضوا للضرب، أو لقوا حتفهم؛ لذلك، احتفظ ببعض القصص المؤثرة لنفسه.
بسبب انزعاجه من وحشية الشرطة في شيكاغو، قضى بيرني يومًا كاملًا ذات مرة في نشر وتغطية جدران المدينة بالمنشورات المناوئة لهذا الفعل
من اللطيف أن يقول بعض الناس "لقد شاركت الدكتور كينغ إحدى المسيرات"، أما بيرني، فقد كان حاضرًا بالفعل في التظاهرة الكبرى في واشنطن، لكنه قدم أكثر من ذلك بكثير. هذه ليست بعض القصص الخرافية المبالغ فيها. إنها القصة الأصلية لرجلٍ سياسيٍ ثائر.
بعد تسع سنوات من قضية براون ضد مجلس التعليم، وبالتحديد في عام 1963، كان هيكل السلطة البيضاء في شيكاغو لا يزال يقاوم المساواة في المدارس وكأن حياته تعتمد على ذلك. فقد كانوا يعاملون أطفال المدارس من أصحاب البشرة السوداء حرفيًا مثل الموبوئين. ولم يقتصر الأمر على أن تعاني مدارس السود من نقص التمويل فحسب، بل كانت مكتظة ومتهالكة أيضًا.
في الوقت نفسه، وعندما كانت الغرف الدراسية في مدارس السود في شيكاغو تعاني من الاكتظاظ بالطلاب، حيث كان الأطفال في بعض الأحيان يتشاركون المقاعد والمكاتب، وُجد أن هناك 382 غرفةً دراسية في مدارس البيض في شيكاغو فارغة تمامًا.
قرر كل من ريتشارد ديلي، عمدة المدينة الذي حكم شيكاغو بقبضة من حديد، والذي لا يزال يُشاد به كبطلٍ ديمقراطيٍ حتى يومنا هذا، وبنجامين ويليز، المشرف العام على المدارس، أنه قبل أن يسمحوا بدخول طفلٍ أسودٍ واحدٍ إلى غرف الدراسة الفارغة الخاصة بمدارس البيض، سوف يضعون مقطورات قديمة في ملاعب ومواقف سيارات مدارس السود، لاستيعاب أطفال المدارس السود فيها بدلًا من ذلك. كان الطلاب يلهثون من الحرارة في الصيف، و يرتعشون من البرد القارس في الشتاء. بُنيت تلك الفصول بشكل سيء وبتكلفة زهيدة، لدرجة أن أرضيتها كانت تحتوي على كثير من الثقوب، بما يسمح للقوارض بالدخول والخروج متى شاءت بحرية. عُرفت تلك المقطورات الشنيعة في جميع أنحاء شيكاغو باسم "ويليز واغونز" تيمنًا باسم بنجامين ويليز، المشرف العام على المدارس.
وفي آب/أغسطس من عام 1963، قبل أيام قليلة من المسيرة الكبرى في واشنطن، كانت بلدية شيكاغو بصدد تركيب بعض مقطورات ويليز واغونز في مدارس الأطفال السود، إلا أن مجموعة شجاعة من منظمي الفعاليات والناشطين المحليين متنوعي الأعراق؛ قرروا التصدي بأجسادهم لقطع الطريق أمام تثبيت تلك القاطرات. فقد وقفوا أمام الجرافات. وربطوا أجسادهم معًا بسلاسل حديدية. وانطلاقًا من تقديره لما قدمه الناشطون الجنوبيون، لطالما آثر بيرني التقليل من أهمية تلك المظاهرة، لكنها تطلبت جرأة وجسارة كبيرة.
فقد اصطف بيرني جنبًا إلى جنب مع متظاهرات سمراوات البشرة، وتشبث بهن ورفض التحرك. حتى عندما أخبرته شرطة شيكاغو أنه قد يتعرض للاعتقال، وسوف يُبعدوه بالقوة، رفض أيضًا، بل عندما قرروا اعتقاله، واقتياده، وإبعاده عن موقف السيارات المُزمع تثبيت قاطرات ويليز واغونز فيه، ركل وصرخ وقاوم طوال الطريق. هل رأيت تلك الصورة التي تقتاد فيها الشرطة بيرني من قبل؟ لكم أحب تلك الصورة. لا تمثل تلك الصورة بالنسبة لي كيف كان بيرني آنذاك فحسب، بل تمثل كيف كان طوال حياته.
إن القول أن كل ذلك لا معنىً له أمرٌ مستحيل. إنه يعني كل شيء. فقد كان بيرني متظاهرًا، وناشطًا، ومنظمًا. إنه الشخص الوحيد حرفيًا في مجلس شيوخ الولايات المتحدة الأمريكية الذي يمتلك مثل تلك السيرة. عندما يتقاعد، سوف يكون آخر ناشط من حقبة الحقوق المدنية في مجلس الشيوخ الأمريكي.
فعل بيرني أكثر من ذلك بكثير. أستطيع إخبار عشرات القصص الأخرى، لكنني أردت أن أتحدث بمن هو بيرني قبل أن نعرفه، وقبل أن يترشح للرئاسة، وقبل أن يُصبح شخصية وطنية. كان مناضلًا. رفض على الدوام القبول بالأمر الواقع. تحدث من قبل معارضًا لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قبل أن يُصبح قضيةً عالمية. وها هو اليوم يهاجم نفس ظروف الفصل العنصري في فلسطين، على الرغم من أنه أمر لا يحظى بشعبية كبيرة كذلك.
تحدث بيرني من قبل معارضًا لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وها هو اليوم يهاجم نفس ظروف الفصل العنصري في فلسطين
يتطلب الأمر قدرًا من الشجاعة في هذا البلد لرفض أن تكون ديمقراطيًا أو جمهوريًا. ويتطلب جسارةً فائقة لتفعل ما أقدم بيرني على فعله في وقت مبكر من هذا الشهر في كاليفورنيا، بالوقوف خارج ديزني لاند، وإخبار البلاد بأن واحدًا من كل عشرة أشخاص من عمالها أصبح مشردًا خلال العامين الماضيين، وأن اثنين من كل عشرة من عمالها لا يحظون بأمن غذائي، وأن ثلاثة من كل أربعة أشخاص لا يحصلون على المال الكافي لتوفير احتياجاتهم الأساسية، بينما يحقق رئيسها التنفيذي مئات الملايين من الدولارات، ويصرح هنا وهناك أنه ربما يترشح للرئاسة. يقف بيرني ساندرز وحده منتقدًا لجيف بيزوس على ثروته الهائلة بينما يعاني العاملون في أمازون من نقص احتياجاتهم الأساسية في جميع أنحاء البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: غزة اليوم أمريكا الأمس.. فهود "الصحافة البيضاء" الجدد
نظمت حملة قوية من أجل بيرني ليكون رئيسًا. كنت على ثقة أنه سيتغلب على دونالد ترامب، ولا زلت أعتقد ذلك، إلا أن شيئًا لم يؤثر فيّ بشأن بيرني أكثر من حبه ودعمه لصديقتي إيريكا غارنر. أعتقد أن إعلانها لحملة بيرني كان الأكثر إقناعًا سياسيًا عام 2016. أثار ذاك الإعلان حفيظة المؤسسة السياسية لدرجة أن هارفي واينستاين أرسل لحملة كلينتون، وحثهم كي يجدوا طريقةً لإسكات إيريكا.
أُجبرت إيريكا على أن تصبح مناضلةً ثورية من أجل الحرية بعد أن قتلت شرطة نيويورك والدها بدم بارد. لدى إيريكا قدرة فائقة على كشف الهراء والحديث الفارغ. قابلها كثيرٌ من السياسيين وكذبوا عليها مرارًا وتكرارًا، قائلين إنهم كانوا يبذلون أقصى ما في وسعهم لحصول أسرتها على العدالة. و كان بيرني حرفيًا هو الوحيد من بين القادة السياسيين التي وثقت فيه.
أحبت إيريكا بيرني كثيرًا. أمضت إيريكا حياتها في النضال من أجل حصول عائلتها على العدالة. وكانت آخر محادثة لي مع إيريكا قبل وفاتها تدور عن مدى حبنا نحن الإثنين لبيرني، ومدى إيماننا بقدرته على التغلب على ترامب. أشاهد الفيديو مرة أخرى. أحبت بيرني لأنها علمت يقينًا أنه ناشط حقيقي يعمل بكل قلبه.
أعتقد أننا في حاجة ماسة لإعادة استكشاف جذري لهوية بيرني، بمزيد من التركيز المُنصف على جوهره في المواقف الصعبة، وجوهره على مدى أجيالٍ وحتى الآن.
اقرأ/ي أيضًا: