قد يعتبر الغرافيتي، على النقيض مما هو شائع، من أوائل الفنون التي أوجدها الإنسان، أي منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة، حين كان سكان الكهوف يكتبون ويرسمون على الجدران للتعبير عن مخاوفهم وقلقهم وحبهم. فهم رسموا صورًا تعكس مشاهداتهم وعلاقاتهم مع الحيوانات والطبيعة وخصوبة المرأة، وعبّروا عن أفكار تلك الأزمان، وما يزال الأمر على حاله اليوم، فنحن أيضًا نرسم ما يشيع من أفكارٍ في أزماننا.
ربما يكون الغرافيتي من أوائل الفنون التي أوجدها الإنسان
وباعتبار أننا نعيش في عصر الاحتجاج، فقد أصبح الغرافيتي، في عصرنا الحديث، من الفنون الاحتجاجية الأساسية، التي تعبّر عن تمرّد ورفض الإنسان لواقعه المعيش.
في بيروت، رسم الشباب، معبّرين عن تمردهم وتحديهم، على "جدار العار"، كما سمي من قبل النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا الجدار الذي وضعته الحكومة اللبنانية بين السراي الحكومي والمتظاهرين الذين خرجوا إلى الساحات في الآونة الأخيرة احتجاجًا على غرق مدينتهم بالنفايات، وعجز الطبقة السياسية الحاكمة عن حلّ هذا الملف وغيره من الملفات العالقة، ورفضًا لأمور سياسية وأمنية أخرى.
فيليب فرحات هو أحد هؤلاء. فنان تشكيلي بدأ الرسم على الجدران حين بلغ أربعة عشر عاما، وبعدها درس الفن التشكيلي في الجامعة اللبنانية. يقول فيليب إن 70% من أعماله هي انعكاس لما يحلم به، أو تعبير عن رفضه لفساد أو استبداد الزعماء اللبنانيين، وهو ما ظهر في رسوماته السبعة على جدار العار".
رسم فرحات 7 أشخاص، أفواههم مغلقة ومكتوب عليها أسماء الأحزاب اللبنانية الرئيسية، وهي "حزب الله، تيار المستقبل، الحزب التقدمي الاشتراكي، القوات اللبنانية، تيار المردة، حركة أمل، التيار الوطني الحرّ". "لم يسنح لي الوقت كي أرسم الكتائب اللبنانية والوطنيين الأحرار" يقول فرحات ممازحًا، لافتًا إلى أنه اختار الأحزاب اللبنانية الحاكمة، وكل حزب من هذه الأحزاب لديه جمهور تابع ومغلق الفم أو مدافع.
من جهة أخرى، تقول ميسم الهندي، وهي رسامة هاوية، دُعيت مع مجموعة أشخاص إلى النزول إلى ساحة "رياض الصلح" لتحويل الغضب الشعبي من الفاصل الاسمنتي الذي فرضته الحكومة اللبنانية على المتظاهرين، إلى جدار مليء بالألوان، ومعبِّرٍ عن مطلب شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني. رسمت الهندي وحشًا مكتوب عليه كلمة "ديمقراطي"، أي "صورة السلطة المخيفة، التي تدعي حماية حقنا في التعبير، دون أن تسمع هتافنا ومطلبنا بأبسط حقوق عيشنا، فبنت هذا الحائط بيننا وبينها، لتغض النظر عن غضبنا".
لكن يبدو أن الخوف استبد بهذه السلطة التي أزالت هذا الجدار خلال 24 ساعة "بعد أن تحوّل إلى قطعة فنية تشبهنا في وسط المدينة "سوليدير"، البلد السياحي المخملي الذي لم نمتلك فيه يومًا أي نوع من الذكريات المشحونة بأمزجة متعددة، من حب وغضب ويأس وتمرّد". تشرح الهندي "لقد أحببنا هذا الحائط وتعلّقنا به، لأنه بات أشبه بدفتر ذكريات أو غضب للكثير من الثائرين، فكلّ عبّر على طريقته، إن كان بالرسم أو بكتابة العبارات، والشتائم للسلطة الفاسدة، التي تستخدم كافة الأساليب القمعية لتنهي آمالنا بالتغيير".
وفي إشارة لافتة، ترى ميسم أن الحكومة اللبنانية بنت جدارًا حديديًا، بدلًا من الاسمنتي الملوّن، "لأنها لا تريد أن ترى رسوماتنا وعباراتنا، ولكن لا بد من أن نجد وسائل جديدة لنتحدّى عزلها لنا، فلطالما بنت هذه الحكومة ألف نوع من الجدران بينها وبين مطالب وحاجات الشعب".