يحدث أحيانًا أن يدمن فنان على تصوير وجه رجل أو امرأة. إنما وفي الغالب الأعم ليس ثمة رغبة لدى المصورين في تكرار تصوير المشهد نفسه. قد يكون فيلم "دخان" الذي كتبه الروائي الأمريكي بول أوستر أمرًا ناشزًا في هذا المجال. أحد مجسّدي شخصيات الفيلم يصور الشارع نفسه من الزاوية نفسها في الساعة نفسها من اليوم طوال سنوات. وحين يعرضها على الشخصية الرئيسية في الفيلم، تظهر أمامه تحولات لا تحصى في هذه البقعة الضيقة من المدينة. هذه التحولات ما كانت لتكون بهذا الغنى لو أن مصورًا صور حقول فان غوغ على مدى سنوات بدلًا من تصوير شارع من شوارع نيويورك الصاخبة والمتلونة.
الأماكن المصورة في صور مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي هي الثابتة، والمصورون زائلون
لكن الغالب في التصوير أن يصور المرء ما يصادفه. وكلمة المصادفة في هذا المقام أساسية وحاسمة. تصور ما تصادفه، لأن العالم الذي يقع أمام العدسة متنوع إلى درجة الهذيان. تصور ما تصادفه، لأن الشارع الذي صورته بالأمس لم يعد هو نفسه اليوم. تصور ما تصادفه، لأن المصادفات وحدها، في نهاية الأمر، هي ما يصنع حجة الصورة. مع ذلك يحدث أن يقوم مصورون كثيرون بتصوير أوبرا سيدني ومن الموقع نفسه في عرض البحر. ويحدث أن يصور ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي المعلم نفسه الذي سبق لملايين غيرهم أن صوروه. ذلك أن مثل هذه الصور تحاول القول، إن من يمسك بالكاميرا هو العنصر الأقل ثباتًا في الصورة، وإنه اليوم يقف أمام واجهة السلطان أحمد في إسطنبول وغدًا سيكون أمام برج إيفل في باريس. الأماكن المصورة في صور مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي هي الثابتة، والمصورون زائلون. حتى بالمعنى الفني، لن تعمّر الصور التي يلتقطها هواة لبرج إيفل في أذهان الناس. هذا مكان يجدر بنا أن نشاهده على الطبيعة، وتصويرنا له لا يقول أكثر من أننا أنجزنا هذا الفرض الفني الذي يجدر بكل شخص أن ينجزه، وليست صورنا هذه إلا دعوة للآخرين لإنجاز هذا الحج.
من جهة ثانية، تبدو علاقة اللوحة المرسومة بالمشهد معقدة ومركبة. الرسم بهذا المعنى يناقض في مؤداه فن التصوير. وتذكر المكسيكية فريدا كاهلو في هذا المقام، يوحي بأن التشكيل يبدو فعل إدمان. إدمان على المشهد، تذكر له، محاولة لجعل المشهد المرسوم مقيمًا في نفس الرسام وذاكرته وحياته. بل إن بعض الفنانين ذهبوا أبعد من ذلك، حين اختصروا الجسم المرسوم، وكان غالبًا أجسام نساء، ببعض الخطوط التي تحيط به وتحدد مساحته في الفضاء، ذلك أن الجسم المرسوم في أعمال هؤلاء، يتكرر في ذاكراتهم على نحو متواتر، وغالبًا ما يكون اختصار الجسم ببعض الخطوط، يشبه في وجه من الوجوه، التأكيد الحاسم على أن هذا الجسم ما زال يحتل مساحته كاملة في ذاكرة الفنان. أعمال اللبناني الراحل بول غيراغوسيان تقص هذه القصة تحديدًا. مسارها التطوري من العناية بالتفاصيل في لوحاته المبكرة، إلى جعل الأجسام الواقفة كتلًا لونية، في أعماله المتأخرة، ينبئ كما لو أن الفنان يريد تذكيرنا بهواه المقيم في نفسه. كما لو أنه يقول لنا: ما زلت أقيم في الهوى نفسه، ولن أغادره. وهؤلاء الأشخاص الذين تعبق بهم لوحاتي، هم أنفسهم الذين رسمتهم لأول مرة حين كنت أتهجى الخطوط والتفاصيل.
لهذه الأسباب ربما، يعجز الرسم اليوم عن الإحاطة بالحدث. وكثيرًا ما يلجأ الرسامون إلى محو الحدث، محو تفاصيله على الأقل، والإبقاء على الأثر الذي خلفه في نفوسهم. ذلك أن ما يبقى في الرسم، حقيقة، هو مشاعرنا، في حين أن الصور لا تني تحرضنا على تأسيس الرغبات وتربيتها. الرسم بهذا المعنى، حميم كبيوتنا وأسرتنا، في حين أن التصوير نادرًا ما يستطيع أن يتحول فنًا شخصيًا. ذلك أن المشهد يغلب المصور، وصورة المشهد تغلب المشهد نفسه، لذلك يموت الرسام مرة واحدة في حين أن المصور يموت مرتين.