حتى هذه اللحظة التي أُرسل فيها لـ"ألترا صوت"، ولأن هاجس الموت مازالَ مسيطرًا عليّ بقوة.. فإن هذا النص لم ينقّح أو يُشذّب أو يُهذّب.
البارحة في العمل اختلَّ توازني، ترنحتُ مثل طائر أعرج، للحظاتٍ لم أرَ شيئًا أمامي، مساحة مائلة للأصفر لا أكثر، ولم أسمع في البدايةِ إلّا همهماتٍ مبهمةٍ. تلمّست أقرب كرسي وسقطتُ فيه كحجرةٍ في بئر. كان زميلي الذي يراقبُ حركتي المتأرجحة مندهشًا، يقولُ: " سأتصل بالإسعاف"، بالكاد سمعتهُ أو فهمتهُ، فطلبتُ بما تبقى فيّ من صوت إيصالي إلى القطار الذي سيصلني بالبيت وليس إلى أي مكانٍ آخر، متكابرًا على الألم وهذه من عاداتي السيئة، إذ أعتقد أن الطبيب لا يمكن أن يقدّم لي علاجًا سحريًا وفوريًا، وبالتالي أعتمدُ على روحي والزمن في إزالة الألم!
فكرت في هذه اللحظة بالذين شكوا من هذا العارض الذي تمنيته طارئًا وليس قاتلًا، ومنهم أصدقاءَ مضوا إلى شأنٍ آخر ومكانٍ آخر، وظننتُ أن ساعةَ عمري أوشكت على التوقف. قلت سأسارع إلى أسرتي، كنت بحق أريد الساعة الخامسة والعشرين، الساعة الإضافية التي تحدّث عنها بورخيس وقسطنطين جورجيو، وكان عليّ الانتصار لقضاء "الساعة الأخيرة" مع أطفالي على حساب الذهاب للمستشفى والقيام بإجراءاتٍ عاجلةٍ، قد لا تؤخر من الرحيلِ لكنها ستمنعُ عني وقتًا أحتاجهُ أكثر.
ولعلّ الحبّةَ التي ستضعها الممرضةُ الألمانية تحت لساني، لن تكونَ أكثر نفعًا من تلكَ النظرة الصادقة وأحسبها الأخيرة لهؤلاء الذين أحببتهم، الذين كنتُ سببًا في مجيئهم إلى الحياة، وكانوا سببًا في علاقتي بمعنى الحياة، فلا أنا "جنيتُ عليهم" ولا هم فعلوا ذلك. كانت بحقّ هي شراكةُ حب، أنعم بها إلى جانبِ امرأة ساحرةٍ وقلّةٍ من الحقيقيين، الذين إلى الآن بقوا، ولم يصبحوا خبرًا للفعل الماضي الناقص "كانَ"، ولم يخرجوا من باب الطوارئ.
حين وصلتُ البيت أخبرتني زوجتي بأن وجهي شاحب، وكان صوتي مخنوقًا، ونظري يذهبُ عنوة عني إلى جهة بعيدة، أبعد من النافذة والأفقِ الذي بدا أصفرَ، فلم أستطع قولَ الكثير. حضنتُ ملائكتي الأرضيين كما يفعلُ مشتاقٌ أو مودّعٌ، موقنًا أن هذه الجهة البعيدة لم تعد بعيدة، بل صارت أقربُ من مسافة يقطعها القطار من مكان عملي إلى بيتي. لم أوصّ بشيء، فلا أرض أملكُ ولا مال عندي، ومرارًا ذكرت أن لا ضير من دفن جسدي في أي أرض كانت، ما دامت روحي ستظل كفرسٍ تحوم في البراري التي هناك، وليس في الغابات الظليلة التي هنا، أو على الطرقاتِ السريعة أو في المحطاتِ أو في ساحةِ (الكونشيرتو) التي أحرسها حيث عملي الذي لا أحبُّ.
لا أدري إذا غفوت على سريري، أم أخذتني إغماءة طويلة، ورأيتني في هذا الوقت، أتنقّلُ من عالم إلى آخر، عوالم بلا ملامح، وأكثر ما رأيتُ هم الموتى الضبابيون، كانوا يصافحونني بحرارة وحبّ، ويسألون ما إذا كانت إقامتي ستطولُ بينهم إلى الأبد، وإذا الحياة ما زالت بشعة كما تركوها بالحروب والنمائم، ثمّ يتبخّرون من حولي كأنّهم هواءٌ ثقيل، ولم أكن أبكي، رغم أني لم أكن سعيدًا في هذه الرحلة أيضًا، وصرختُ بهم بأعلى صوتي: "ليدلني أحدٌ ما إلى باب نفقِ العودةِ، النفق الذي دخلت منهُ".
كنت أستنجدُ بأحدٍ يردني إلى ماكنت عليه، أو يخزني بقوة لأستيقظ من هذا الحلم الطويل فيما لو كان حلمًا، إلى أنْ تشبثتُ بيدٍ صغيرةٍ، أمسكتها بقوة، وأمسكت بي بقوة وسحبتني لأشهقَ ثانية، مزيحًا أطنانًا من العجز من على صدري، ومستعيدًا هواءً نقيًا لا يشبهُ الهواء الثقيل الذي صار إليهِ الموتى في فيلمي الشخصي والواقعي جدًا جدًا.
فتحتُ عيني لأجدَ يدَ طفلي الصغير تضغط على يدي. ابتسمتُ لهُ، ومع أنني لم أبكِ في الرحلةِ إلى المجهول الذي عدتُ منهُ، سألني الطفل: "ليش كنت تبكي يا بابا"، لم أجبه، واكتفيتُ بمسحِ دمعةٍ كبيرةٍ سقطت على خدي، وصرتُ أستعينُ بذاكرتي للحديث عن هذه التجربةِ المؤقتةِ لفهمِ ماذا يعني الموت والخوف منه، ولربّما التمرّنِ على الغياب.
أعتقدُ أنّ التفكير بالحياة أجدرُ بي لأفعلهُ، ولهذا أفكرُ بأقصى درجاتِ الحبّ، وبالاعتذار من الذين آذيتهم عن قصدٍ أو غيرِ قصد، وكذلك الذين آذوني عن قصد أو غير قصد، فلولاهم ماكنتُ سأتعرّفُ الأذى عن قرب، وأستثمر فيه حياتي لأكونَ إنسانًا طبيعيًا وواقعيًا، ينتمي إلى الأرض وليسَ السماء، إلى أشخاصٍ ضعفاء مثلهُ، وليسَ إلى أشخاص يردُ ذكرهم في الأساطير.