10-فبراير-2019

يثق آلاف السودانيين بتجمع المهنيين (فيسبوك)

أكثر ما هو محير الآن في زخم تطورات الأوضاع السياسية على الصعيد السوداني يتصل بتجمع المهنيين السودانيين، المتحكم فعليًا في إدارة وتنظيم المظاهرات، إذ يبدو وكأنه "الماتادور" الخفي الذي يلاعب السلطة لدرجة كادت تفقد توازنها فتسقط، وهنا أصبح السؤال الذي لم ينفك يبارح خيال قيادات الدولة والأجهزة الأمنية: من هو تجمع المهنيين السودانيين، ولماذا تتخفى قيادته، وكيف ظهر على نحوٍ مفاجئ بكل هذه القوة والسيطرة على الأرض؟

 أعلنت العديد من الأحزاب والقوى السياسية دعمها لتجمع المهنيين، من بينها نداء السودان الذي يضم حركات مسلحة وأحزاب سياسية، وقوى التجمع الوطني

لا أحد يملك إجابة قاطعة بالطبع، رغم أن دعوات تجمع المهنيين السودانيين أصبحت خلال أيام قليلة هى الوسم الأعلى على مواقع التواصل الاجتماعي السودانية، والأكثر حضورًا أيضًا في الشارع السياسي، وفي أحلام الثوار.

البداية والسيطرة  

أكثر من ثلاثمائة ألف يتابعون صفحة التجمع في فيسبوك وفي تويتر، بينما لا تزال المنشورات التي تصدر منه الأكثر تفاعلًا ومشاركة، وعلى أرض الواقع يلتزم المحتجون بجدول التجمع وميقات التحرك بصورة حرفية، حتى أصبحت نموذجًا للانضباط، حيث تنطلق المواكب في الزمان والمكان المحددين، وقد نجح التجمع أيضًا في تجميع أصوات عالية النبرة، كما أن بيانته المكتوبة بلغة رصينة ومعبرة عن المِزاج العام المعارض هي على الأجح السبب الذي جعله يكتسب مصداقية عالية، بدليل الاستجابة الواسعة التي تحظى بها دعواته للخروج والتظاهر داخل وخارج السودان. 

اقرأ/ي أيضًا: الشارع السوداني ينتفض ضد الجوع والقمع.. لا شيء لدى السلطة إلا "البوليس"

تاريخيًا، تأسس تجمع المهنيين في العام 2013 عقب الموجة العنيفة للاحتجاجات التي اندلعت في السودان خلال أيلول/سبتمبر من ذلك العام، وسقط فيها عشرات الضحايا بالرصاص الحي، إلا أن التجمع اختار أن يعلن عن نفسه مع انطلاق الانتفاضة الجارية منذ ثلاثة أشهر، دون أن يفصح عن قيادته حتى اتسم بالغموض، وهو يتكون من لجنة الأطباء المركزية، وشبكة الصحفيين السودانيين، وتجمع المعلمين والمحامين والصيادلة والمهندسين، وجميعها نقابات ظل لا تعترف بالواجهات الحكومية الفئوية، أما الهدف المعلن للتجمع فهو إسقاط النظام وإقامة البديل الديمقراطي.

إعلان الحرية والتغيير

على الأرض أعلنت العديد من الأحزاب والقوى السياسية دعمها لتجمع المهنيين، من بينها نداء السودان الذي يضم حركات مسلحة وأحزاب سياسية، وقوى التجمع الوطني التي تضم الشيوعي والبعث والناصريين والمؤتمر السوداني، بجانب حزب الأمة القومي والفصائل الاتحادية المعارضة، وهي كلها كانت تنشط في معارضة نظام البشير منذ استيلائه على الحكم في العام 1989، وقد توافقت مع التجمع على إعلان الحرية والتغيير، الذي تضمن جملة مطالب تم التوافق عليها بالإجماع، وهي التنحي الفوري للبشير دون شروط، وتشكيل حكومة انتقالية من كفاءات وطنية لأربعة أعوام، ووقف الانتهاكات وإلغاء القوانين المقيدة للحريات.

ومنذ تدشين نشاطه الأخير، أعلن تجمع المهنيين عن أربعة متحدثين باسمه، وهم الدكتورة سارة عبد الجليل تعيش في بريطانيا، الصحفي المهاجر إلى فرنسا محمد الأسباط، وفي الداخل الدكتور محمد يوسف موسى الأستاذ بجامعة الخرطوم، والطبيب الشاب محمد ناجي الذي اعتقلته السلطات بمجرد الإعلان عن اسمه ونشر صورته، علاوة على مقطع فيديو أشبه بالبيان الأول، وهو غالبًا السبب الذي جعل التجمع يتحفظ بعد ذلك عن كشف أسماء قيادته بالداخل خشية الاعتقال، لكنه أعلن بأنها موجودة وتتحرك بصورة سرية على الأرض.

الحزب المتخفي 

اتهمت الحكومة السودانية التجمع بأنه واجهة للحزب الشيوعي، اختار العمل من خلف ستار لتحقيق أهدافه. وهى الاتهامات التي ظلت تتكرر مؤخرًا على لسان قيادات في الحزب الحاكم وكتابات أنصاره في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الرئيس عاد قبل أيام واتهم تجمع المهنيين بالعمالة للخارج، زاعمًا بأن الحملة الإعلامية المساندة للاحتجاجات تم تمويلها بمبالغ مالية كبيرة من جهات معادية للسودان، وقال البشير في لقاء سياسي بالقصر الجمهوري: "من يقودون الاحتجاجات غير معروفين وليس لهم أجسام حقيقية يمكن الرجوع إليها" .

حكومة ظل

بالعودة لنشاط التجمع فهو حاليًا المتحكم في مثار الأحداث السياسية، وتتعامل معه الحكومة بردود الأفعال، بحيث يقوم بالإعلان عن جدول أسبوعي للاحتجاجات، تتوزع على المظاهرات الليلية والاعتصامات والمواكب المركزية صوب القصر الرئاسي، علاوة على أدواره الميدانية في إسعاف المصابين ودعم الأسر المتضررة من الأساتذة والأطباء المضربين عن العمل، تمهيدًا لبلوغ العصيان المدني الشامل. ولا يستبعد المراقبون أن يجنح التجمع إلى خيار حكومة ظل مستقبلًا، وربما الإعلان عن حكومة انتقالية من جانبه على غرار ما فعله زعيم المعارضة الفنزويلية خوان غوايدو الذى نصب نفسه رئيسًا لفنزويلا واعترفت به أمريكا ودول أوروبية، فهل سيقبل التجمع على هذه الخطوة بعد ضمان تأييد واعتراف داخلي وخارجي؟ لا سيما وأن الحكومة السودانية تعاني من حصار وعداوات خارجية. 

البديل النقابي 

ينظر الكاتب الصحفي والمحلل السياسي فيصل محمد صالح، للأسئلة حول غموض التجمع بشكل من الاستغراب، نافيًا صفة السرية عنه، حيث قال لـ"ألترا صوت" إن تجمع المهنيين "تنظيم معروف وهو يضم نقابات الظل أو الأجسام البديلة للنقابات الحكومية التي تسبح بحمد المؤتمر الوطني وتتحول إلى مجرد كومبارس يبارك السياسات الحكومية" على حد وصفه.

واعتبر فيصل صالح أن تجمع المهنيين ليس تنظيمًا سريًا، مشيرًا إلى أن كل قطاع يعرف قياداته، سواء كانوا أطباء، مهندسون، معلمون، صحفيون، أساتذة جامعات وغيرهم، لافتًا إلى أن كثيرًا من قيادات التجمع رهن الاعتقال منذ فترة. وأضاف فيصل أن "الجانب الوحيد الذي تحيط به السرية هو أسماء أعضاء السكرتارية التي تدير العمل اليومي"، ومن الواضح أن هناك أسبابًا مفهومة، وراء التكتم وعدم إعلان الأسماء، فلو تم كشفها سيتم اعتقالهم وبالتالي تعطيل العمل. 

اقرأ/ي أيضًا: جمعة الغضب في السودان.. السلطة تقمع والشعب يواصل احتجاجه

المعركة الأخيرة

في البدء، انطلق الحراك عفويًا ومن دون أي قيادة إلا من بوصلة تراكم القمع وهدر الكرامة وضنك العيش وقتامة المستقبل، ثم وبوعي ثوري وإدراك عميق، التقط "تجمع المهنيين السودانيين" نبض اللحظة التاريخية واستجاب لها، وفقًا للقيادي اليساري الشفيع خضر، الذي اعتبر أن التجمع تصدى لقيادة الحراك، متخذًا به منحى تصاعديًا، ووفق موجهات قيادية حكيمة، أكسبته ثقة الآلاف التي تهدر في الشوارع. وقال الشفيع في مقال صحفي: "أنا شخصيًا، أجزم بأن أكثر من 99 في المئة من هذه الآلاف المنتفضة في الشوارع لا يعرفون من هم تجمع المهنيين السودانين، ولا تهمهم أسماء الشخوص، ومع ذلك يستجيبون لنداءاته ما دامت تتطابق مع ما يجيش في دواخلهم ومشاعرهم وتطلعاتهم، وتتجسد ملموسًا في هذة التظاهرة وذاك الاعتصام". رافضًا الاعتقاد بأن التجمع محض شبح اسفيري، متسائلًا: هل يعقل أن تستجيب الآلاف في شوارع مدن السودان لنداءات مجهولة المصدر، أو صادرة من أشباح؟.

 ثمة من يرى أن تجمع المهنيين السودانيين هو تجربة مشابهة لتجمع الهيئات التي كان لها الدور الفاعل في ثورتي تشرين الأول/أكتوبر 1964 ونيسان/أبريل 1985

ومع ذلك ثمة من يرى أن تجمع المهنيين هو تجربة مشابهة لتجمع الهيئات التي كان لها الدور الفاعل في ثورتي تشرين الأول/أكتوبر 1964 ونيسان/أبريل 1985، اللتين أطاحتا بانظمة دكتاتورية، وبالمقابل يبدو أن الطريق بات سالكًا أمام تجمع المهنيين السودانيين لاختراق كبير في الساحة السياسية، فكيف ستنتهي المعركة التي اختار زمانها ومكانها في مواجهة النظام الحاكم السوداني؟