لفترة من الزمن, وضعت إسرائيل مسافة تفصلها عن الأحزاب والتنظيمات السياسية التي لها ماضٍ مرتبط بإرث الرايخ الثالث. ولكن مع صعود أحزاب اليمين المتطرف للمشهد السياسي في أوروبا تغيرت المواقف، وكما يقول رئيس الوزراء البريطاني السابق وينستون تشرشل: "ليس ثمّة أصدقاء دائمون وأعداء دائمون، بل ثمّة مصالح دائمة فحسب".
سعت تلك الأحزاب لتجديد صورتها، لكن الملاحظ أنّ إسرائيل لم ترتبط بعلاقة رسمية مع الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية، على الرغم من أنّ الاخيرة أعربت في عدة مناسبات عن دعمها غير المشروط للدولة العبرية، وكان الأمر جليًا خلال العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة.
اليمين المتطرف في أوروبا لديه تاريخ طويل ومخجل في معاداة السامية. وبعد حوالي القرن على المحرقة، أصبح إظهار الدعم لإسرائيل وسيلة لجعل شعبويته مقبولة أوروبيًا، ولتحقيق مكاسب انتخابية.
ومن المؤكد أنّ هذا الدعم أصبح ركيزة أساسية لمشروع أحزاب اليمين المتطرف، في حين تم استبدال كراهية اليهود بكراهية الأجانب والمسلمين على وجه التحديد.
وفي هذا السياق، يقول الكاتب البريطاني ديفيد هيرست إنّ: "الجيل الجديد من السياسيين الأوروبيين واضحون فيما يفكرون فيه، فهم يعتقدون أن الحضارة الغربية مهددة من قبل الإسلام، وأن سكان أوروبا الأصليين مهددون من قبل المهاجرين، وهم يؤيدون نظرية صدام الحضارات ونظرية الاستبدال الكبرى، ويؤيدون إسرائيل بشكل قوي في تصريحاتهم، إن لم يكن بأفعالهم".
اليمين المتطرف في أوروبا لديه تاريخ طويل ومخجل في معاداة السامية، وبعد حوالي القرن على المحرقة، أصبح إظهار الدعم لإسرائيل وسيلة لجعل شعبويته مقبولة أوروبيًا، ولتحقيق مكاسب انتخابية
هذا التصور يتقاطع مع ما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في لقاء صحفي مع القناة الفرنسية الأولى "TF1"، جرى نهاية الشهر الماضي، حين قال: "انتصارنا هو انتصاركم. انتصارنا هو انتصار إسرائيل على معاداة السامية. وهذا هو انتصار الحضارة اليهودية المسيحية على البربرية، هذا هو انتصار فرنسا، إذا انتصرنا نحن هنا، فأنتم تنتصرون هناك".
مثلما لا يهتم نتنياهو لقضية المحتجزين في غزة، فإن ملايين اليهود الذين وقعوا ضحية للنازية يعتبرون من التاريخ المطوي، لذا لا يهم إن كان من بنو تاريخهم على معاداة السامية هم حلفاء اليوم، فما يهم حقًا في الوقت الحالي هو وجود قضية مشتركة تجمعهم، وهي العداء للعرب والمسلمين.
وقد لفت هيرست لهذا الأمر قائلًا: "التحالف مع الأحزاب السياسية الأوروبية التي تشيطن المسلمين بنفس الطريقة التي كانت المجموعات اليمينية المتطرفة تكن الكراهية والعداء لليهود أكثر من مجرد غزل، بل سرعان ما تكرس ذلك على شكل تحالف وثيق، بالفعل وبالكلمة".
وهذا ما تثبته الواقع، فهناك استعداد تام لتشكيل هذا التحالف، وهو ما يترجم في تصريحات وزراء الحكومة الإسرائيلية العلنية عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وحتى الضفة الغربية، وليس من باب المصادفة أنّ يتقاطع ذلك مع خطاب اليمين المتطرف في أوروبا الداعي لطرد المهاجرين. فكرة الطرد والتهجير تمثل الركيزة في فكر الطرفين. لذا فإن هذا التحالف، المثير للاستغراب، يبدو منطقيًا أمام الشواهد التي تكشف عن قواسم مشتركة عديدة بين الصهاينة واليمين المتطرف.
وإنّ عدنا للتاريخ سنجد أنّ المعادين للسامية الأوروبيين دافعوا عن قيام أولى المستوطنات اليهودية في فلسطين، فخلال القرن 19 بدأت الحركة القومية اليهودية تعمل من أجل إيجاد وطن قومي لليهود، فلم يكن من المعادين لهم إلا العمل من أجل مساعدتهم على تحقيق مسعاهم حتى تتمكن أوروبا من إخراجهم خارج حدودها، وفق تصورهم.
ولعل هذا أحد الأسباب التي جعلت الحكومة البريطانية تتحمس لمشروع إقامة دولة يهودية بفلسطين، التي كانت في ذلك الوقت تحت الانتداب البريطاني.
وخلال الحرب العالمية الثانية، سارت العلاقة بين الصهاينة والنازيين والفاشيين على جثث مئات الآلاف من اليهود بمراكز الاعتقال النازية.
ففي كتاب يحمل عنوان "الصهيونية في زمن الدكتاتورية" يتحدث كاتبه اليهودي الأميركي ليني برينر، عن أنّ قادة صهاينة تعاونوا مع الفاشيين والنازيين من أجل إقامة كيان يهودي في فلسطين. وكشف عن وثيقة عرفت باسم "أنقره"، تتضمن أدلة على قيام الصهيوني أبراهام شتيرن، الذي أسس عصابة تحمل اسمه شاركت في المجازر التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، بالاتصال أولًا بالفاشيين الإيطاليين، ثم بالنازيين الألمان، بهدف التحالف معهم والقتال بجانبهم، بشرط الحصول على مساعدتهم لقيام دولة إسرائيل.
وبحسب الوثيقة، كان ذلك عام 1940، في عز الاجتياح النازي لأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، حين بدت هزيمة المحور بعيدة المنال.
كان الاتفاق يقضي بأن يعترف موسوليني بقيام دولة يهودية في فلسطين، في مقابل ذلك يحارب اليهود إلى جانب قوات المحور. ولم يكتف شتيرن بهذا الاتصال، فأراد أن يكون هناك اتصال مباشر مع الألمان، إذ أرسل نفتالي لونستيك إلى بيروت لمقابلة مسؤولين عن الإدارة الشرقية في الخارجية الألمانية.
يحلم اليمينيون المتطرفون اليوم في أوروبا ببعث هذا التاريخ المخزي من جديد لمواجهة "الأعداء الجدد"، وهذا بالاستناد على ما تقوم به إسرائيل فعليًا في غزة من ممارسات ترقى لجرائم حرب، وهو بطريقة ما استمرار لفظائع النازيين في أوروبا منتصف القرن الماضي.
لذا نجد نازيًا مثل مارسيل يارون غولهامر يخدم في الجيش الإسرائيلي، ويعود لبلاده وينضم إلى صفوف حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، مُناديًا بطرد المهاجرين والمسلمين على وجه التحديد، حتى لا تصبح ألمانيا مُحاطة بأعدائها كما يحدث في إسرائيل، على حد تعبيره.
كما نجد سياسيين إسرائيليين يستشهدون بمقولات للزعيم النازي أدوف هتلر، ومثال على ذلك تصريح عضو الكنيست السابق عن حزب الليكود موشيه فيغلين، الذي تحدث في مقابلة تلفزيونية: "كما قال هتلر، لا يمكنني العيش إذا بقي يهودي واحدًا حيًا، فلا يمكننا العيش هنا إذا بقي إسلامي نازي واحد في غزة".
هذا التماهي المتبادل بين إسرائيل وقادة اليمين المتطرف من مارين لوبان، إلى غيرت فيلدرز إلى ماتيو سالفيني إلى سانتياغو أباسكال إلى فيكتور أوربان إلى جيمي أوكيسون إلى حزب البديل في ألمانيا، ليس مجرد حالة انتهازية مرتبطة بوضع سياسي طارئ، بل هي روابط تستند إلى تاريخ من الإجرام والفكر العنصري الموغل في التاريخ والمفتون بصراع الحضارات، متبنيًا مقولة: "من ليس معنا.. فهو ضدنا".