رفعت هيئة "تحرير الشام" المؤسسة من اندماج فصائل إسلامية متشددة، حدة خطابها الرافض للأحاديث المرتبطة بإرسال قوات تركية روسية مشتركة إلى مدينة إدلب غرب سوريا، في إطار تنفيذ بنود اتفاقية مذكرة التفاهم لمناطق "تخفيف التصعيد" الموقع عليها بين الدول الضامنة لاجتماع "أستانا 4"، مطلع أيار/ مايو الماضي.
إدلب.. من النظام السوري إلى تنظيم القاعدة
تعتبر مدينة إدلب المركز الإداري لمحافظة إدلب، آخر المدن التي تمكنت فصائل المعارضة من إحكام السيطرة عليها، بعد تنفيذها هجومًا واسعًا عبر تحالف فصائل إسلامية ومعتدلة ضمن مكون "جيش الفتح"، مطلع شباط/ فبراير 2015، الذي انتهى بعد أشهر بخروج قوات الأسد والمليشيات الأجنبية منها، باستثناء بلدتي كفريا والفوعة اللتان بقيتا محاصرتان إلى أن أبرم الاتفاق المعروف بـ"اتفاقية المدن الأربعة" في وقت سابق من العام الجاري.
بعد سيطرة المعارضة على مدينة إدلب، عملت جبهة النصرة على تعزيز سيطرتها في المدينة بمهاجمة مقرات فصائل الجيش الحر
الهجوم الذي مكن فصائل المعارضة من السيطرة على مدينة إدلب، لتكون ثاني المدن التي تخرج بشكل كامل عن سيطرة النظام السوري بعد الرقة، اشترك في تنفيذه عدة فصائل كان من بينها فصيل "جند الأقصى" المنحل، و"جبهة النصرة" قبل أن تبدل اسمها لجبهة "فتح الشام".
وخلال المرحلة التي أعقبت دخول المعارضة السورية للمدينة، عملت فتح الشام على تدعيم تواجدها في المدينة والريف، وقامت بمهاجمة مقرات العديد من الفصائل المنضوية ضمن الجيش السوري الحر المصنفة بـ"المعتدلة"، تحت حجج مختلفة من بينها تلقيها دعمًا من الدول الغربية.
اقرأ/ي أيضًا: الدولة المفيدة.. كيف وقع التغيير الديموغرافي "القسري" في سوريا؟ (3/3)
ومنذ إعلان تشكيلها، الذي يرجع لعام 2012 تقريبًا، قامت النصرة بالكشف عن بيعتها لتنظيم القاعدة، قبل أن تعلن فك ارتباطها رسميًا، بعد أن بدلت اسمها لفتح الشام عام 2016، وذلك لتفادي استهداف قيادييها من طائرات التحالف الدولي المسيّرة، كونها من الفصائل المدرجة على لائحة التنظيمات الإرهابية في سوريا، حيثُ تحولت إدلب مأوى لقياديين سابقين في التنظيم المسؤول عن هجوم 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ما دفع ببعض المراقبين لمسار التنظيمات المتشدد إلى وصف مدينة إدلب بـ"قندهار" سوريا.
هيئة تحرير الشام بديلًا عن فتح الشام
توجهت النصرة بقيادة أبي محمد الجولاني، الذي أصبح فيما بعد القائد العسكري لتحرير الشام؛ منذ السيطرة على كامل مدينة إدلب، إلى أن تكون القوة العسكرية الوحيدة في المدينة، وبدأت حربًا على عديد الفصائل المعتدلة، إلا أن التطور الأهم في مسارها، كان رفضها خروج مقاتليها من الشطر الشرقي لمدينة حلب، مقابل إيقاف النظام السوري هجومه العنيف الذي أدى لاستعادته السيطرة على الأجزاء التي تتمركز فيها المعارضة السورية نهاية العام الماضي؛ الأمر الذي دفع بعض الفصائل لتحميلها بشكل مباشر مسؤولية استعادة النظام لأجزاء حلب الشرقية.
وفي كانون الثاني/يناير العام الجاري، شنت فتح الشام هجومًا على مقرات ثلاثة فصائل على الأقل، بذريعة مشاركتهم ضمن الوفد الذي حضر لقاء "أستانا 1"، وبعد أن فشلت محاولات حركة "أحرار الشام الإسلامية" –التي طال رصاص الجبهة مقراتها في أوقات مختلفة– قامت فتح الشام بالإعلان عن ولادة تحالف هيئة "تحرير الشام"، باتحادها مع أربعة فصائل تصنف على أنها متشددة، هي نور الدين الزنكي ولواء الحق وجبهة أنصار الدين وجيش السنّة، وكانت في الوقت عينه ردًا على محاولة اندماج الفصائل ضمن جسم عسكري واحد في سوريا.
لم تخرج تحرير الشام منذ تشكيلها عن المسار العام لمخطط فتح الشام، إنما استمرت بالسير على ذات الخطى، فكانت "الفرقة 13" المنضوية ضمن الجيش السوري الحر آخر أهدافها، عندما داهمت مقراتها مطلع الشهر الجاري في مدينة "معرة النعمان" بريف إدلب، وعمدت لاعتقال عناصرها، وإطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين الذين خرجوا لمنعها من اقتحام مقرات الفرقة.
منذ تشكيلها لم تخرج هيئة تحرير الشام عن الخط العام لجبهة النصرة، فهاجمت العديد من فصائل المعارضة "المعتدلة"
وجاء هجوم تحرير الشام الأخير ضمن الخط العام الذي انتهجته النصرة منذ إعلان تواجدها رسميًا في سوريا، والذي كان أولها بإعلان بيعتها لتنظيم القاعدة، وثانيها وقوفها على الحياد في المعارك بين فصائل المعارضة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وثالثها الوساطة التي قادتها لإيقاف الهجوم الذي نفذه فصيل "جند الأقصى" المبايع لتنظيم الدولة على مواقع لحركة أحرار الشام، والذي انتهى بخروج الجند إلى مدينة الرقة معقل تنظيم الدولة الأهم في سوريا والعراق.
رفض مذكرة مناطق "تخفيف التصعيد"
صرح المتحدث الرئاسي التركي، إبراهيم كالين، قبل أيام بأنّ بلاده اتفقت مع روسيا على إرسال قوات مشتركة إلى مدينة إدلب، قائلًا: "سنكون حاضرين بقوة في منطقة إدلب مع روسيا، وفي الأغلب روسيا وإيران ستكونان حول دمشق ويجري إعداد آلية تشمل الأمريكيين والأردن في الجنوب في منطقة درعا".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يتودد أردوغان إلى بوتين؟
وردًا على تصريحات المسؤول التركي، أصدرت تحرير الشام بيانًا أعلنت فيه عدم التزامها بما نص عليه اتفاق مناطق تخفيف التصعيد، مُشددةً على أنها لن ترضى بأي "تدخل خارجي يقسم بلادنا لمناطق نفوذ تتقاسمها الدول". وتشير اللغة التي تحدث فيها البيان على قرب مواجهة محتملة بين تحرير الشام وفصائل المعارضة المشاركة في عملية "درع الفرات"، الذين تحدثوا في الشهر الماضي عن أنهم قد يدخلون إلى مدينة إدلب.
ويعكس بيان تحرير الشام الأخير محاولتها مصادرة القرار السياسي والعسكري لفصائل المعارضة المنخرطة في العملية السياسية، فهي تعمل على أن تكون الفصيل الوحيد الذي يقود عملية المفاوضات مع الدول الفاعلة في سوريا، متجاهلة حالة الاحتقان الشعبي المتزايدة في مناطق تواجدها، بسبب انتهاكاتها المستمرة، إذ أنها تتقاسم السيطرة على محافظة إدلب مع حركة أحرار الشام وفصائل أخرى. وتعتبر إدلب أبرز مواقع تحرير الشام.
كما أن تحرير الشام أدخلت الثورة السورية في متاهة كبيرة عندما قبلت جبهة النصرة سابقًا، استضافة قيادات من تنظيم القاعدة، جعلت النظام السوري يستثمرها في وسائل إعلامه لتعزيز روايته الدائمة حول "أسلمة الثورة"، كذلك فإنها في الوقت الذي كانت تحاكم القرارات التي تتخذها فصائل المعارضة، اتخذت في المقابل قرارات أحادية الجانب، وعملت على مصادرة القرار الخاص بمعظم الفصائل بحجة الدفاع عن أهداف الثورة السورية، رغم أنها لا تتقيد بأي منها ولم تفعل.
يدل الاحتقان بين المدنيين ضد تحرير الشام على فقدانها شعبيتها، وأن عملية عسكرية ضدها قد تلقى تأييد أغلبية المقيمين بمناطق سيطرتها
وقد يكون بيانها الأخير بداية لمعركة كبيرة من المتوقع أن يشهدها الشمال السوري بين فصائل المعارضة التي ضاقت ذرعًا من تجاوزاتها من طرف، ومقاتليها من طرف آخر، كون رفضها دخول القوات المشتركة التركية الروسية، إلى إدلب، يدعم اقتراب مواجهة عسكرية محتملة، لن تكون في صالحها، بسبب الدعم الذي تلقته فصائل الجيش السوري الحر المشاركة في عملية "درع الفرات" من الحكومة التركية، وهي من الفصائل التي لديها حساسية مع تحرير الشام، ومدرجة ضمن قائمة الفصائل "المعتدلة".
اقرأ/ي أيضًا: هل تبتلع القاعدة فصائل المعارضة السورية؟
وتدل حالة الاحتقان المتزايدة بين المدنيين ضد تجاوزات تحرير الشام، على فقدانها للقاعدة الشعبية، وأن عملية عسكرية قد تكون ضدها، ستلقى تأييد النسبة العظمى من المقيمين في مناطق سيطرة المعارضة، وعليه سيكون رفضها دخول القوات المشتركة إلى إدلب، مفتاحًا لبدء عمليات عسكرية ضدها، دون أن تحسب نتائجها التي من الممكن أن تجعلها تحل نفسها أو تندمج ضمن تشكيل جديد، بخاصة أن مدينة إدلب تخضع لحصار تفرضه قوات الأسد والمليشيات الأجنبية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ولم يبق أمامها منفذًا إلا تركيا بسبب سيطرة فصائل المعارضة على معبر "باب الهوى" الحدودي معها، وهو ما قد يدعم فرضية حدوث اشتباكات في الشمال السوري لن تكون مثل سابقاتها، لأنها ستكون بتحالف بين عدد كبير بين الفصائل يضعها في موقف حرج لتفوقهم عدديًا، ما سيشعل المحافظة التي تحولت ملجأً للسوريين المهجرين قسريًا من مناطقهم الأصلية بعد اتفاقيات إخلاء المدن التي أبرمها النظام منذ منتصف العام الماضي.
اقرأ/ي أيضًا: