مع زيادة حدة الصراع بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والصحافة الأمريكية، يلقي مقالٌ نشر بمجلة ذي أتلانتك الأمريكية الاثنين الضوء على الأسباب التي تجعل الصدام الحالي بين الرئاسة الأمريكية والصحفيين غير مسبوق وتبعاته المحتملة على حرية الصحافة والإعلام في الولايات المتحدة.
علاقة ترامب بالإعلام تمثل شيئًا جديدًا ويرجح أن يكون خطيرًا. إنه أول رئيس يشكك علانيةً في مكانة الإعلام في المجتمع الأمريكي
في البداية يلفت التقرير إلى سابقة لصراعٍ من نفس النوع عندما تولى الرئيس جون كينيدي، الذي كان معتادًا على التغطية الإيجابية، الرئاسة واصطدم بحدود قدرته على السيطرة على السردية المهيمنة عندما كان المراسلون الصحفيون يعطون صورةً مخالفة لمدى تورط وفشل الولايات المتحدة فيما أصبح لاحقًا حرب فيتنام أكثر مما كانت تعترف به الإدارة الأمريكية.
اقرأ/ي أيضًا: إدارة ترامب في شهر حكمها الأول: تحدي الفوضى
وصل الأمر إلى حد أن قام كينيدي في أحد أيام عام 1962 بالاتصال بصديقه القديم جيمس رستون، كاتب العمود الأسطوري ومدير مكتب واشنطن بصحيفة نيويورك تايمز، طالبًا منه أن يفصل المراسل الحربي ديفيد هالبرستام من أجل مصلحة الأمن القومي. رفض ريستون، وثابر هالبرستام في عمله، وبمرور الوقت كان يتضح أن الحرب كارثية مثلما تنبأ تمامًا، حتى أن الرئيس قال بنبرة رثاء ذات صباح عندما كان يقرأ الصحيفة "لم يمكنني الحصول على تلك الأمور من هالبرستام بينما لا أستطيع الحصول عليها من رجالي؟".
يحكي جون فاينر، كاتب التقرير، أنه قضى ثلاث سنوات مرافقًا لإحدى وحدات مشاة البحرية الأمريكية في العراق، حيث كان يغطي الأحداث هناك ويصطدم أحيانًا مع السفارة الأمريكية هناك. في وقتٍ لاحق، أصبح فاينر على الجهة الأخرى من الصدامات، حيث عمل فيما بين عامي 2009 و2017 مع وزارة الخارجية والبيت الأبيض في عهد أوباما، وكان يتعامل باستمرار مع زملاء الصحافة السابقين الذين كانوا يغطون جهودهم.
يقول فاينر إنه فكر كثيرًا في كلا الخبرتين منذ أن وصف دونالد ترامب الإعلام مساء يوم الجمعة بأنه "عدو الشعب الأمريكي"، وفي إجابة عن "لماذا تبدو هجماته المتكررة مختلفة بشدة عن هجمات سابقيه"، ينبغي أن تكون العلاقة بين الحكومة والصحافة ندية، يتابع فاينر، لأن مهماتهما عادةً ما تتعارض، وهو ما أدى إلى صراع قوى قديم قدم الجمهورية ذاتها.
لكن علاقة ترامب بالإعلام تمثل شيئًا جديدًا ويرجح أن يكون خطيرًا للطرفين، يرى فاينر. إنه أول رئيس يشكك علانيةً في مكانة الإعلام في المجتمع الأمريكي نفسه ويبدو وسمه للصحافة بأنها "عدو" دعوةً إلى القمع بل والعنف أكثر منه محاولةً للتأثير على تغطيتها.
يقول فاينر إنه عندما غادر الولايات المتحدة متجهًا إلى العراق منذ 14 عامًا، كان المراقبون متخوفين أكثر من تقاربٍ متزايد تمثل في، على سبيل المثال، عشاء المراسلين الذي يشارك فيه عددٌ كبير من النجوم والذي أدى إلى الظهور وكأن الصحفيين يتبادلون التغطية الإيجابية مقابل السماح بالمشاركة.
قبل غزو العراق، قرر البنتاجون السماح للمراسلين بمرافقة الوحدات العسكرية لأول مرة منذ حرب فيتنام. حذر منتقدون آنذاك من أن المراسلين سوف يصبحون مشجعين لحدثٍ يستحق التدقيق الجاد، حيث من الصعب البقاء حياديًا عندما تتنقل وتأكل وتنام بين الأشخاص الذين يدافعون حرفيًا عن حياتك.
لكن بينما فشلت الصحافة في توجيه أسئلة جادة لمبررات إدارة بوش للغزو، إلا أنه بمجرد بدء الحرب تقريبًا اختلفت التقارير التي تصف ما يحدث على الأرض بشدة عن الرواية الرسمية. إذا كنت تصدق الصحف الكبيرة وشبكات التليفزيون فإنك كنت لتعلم أن البلاد تتجه إلى تمردٍ وحربٍ أهلية، أما إذا كنت تستمع إلى المؤتمرات الصحفية التي تعقد بالمنطقة الخضراء، فقد كنت لتعتقد أن العراق، والشرق الأوسط بكامله، كان على أعتاب ازدهارٍ ديمقراطي.
تعاطي نيكسون، صاحب فضيحة واترغايت، مع الإعلام هو الأقرب لما يقوم به ترامب في ذات المضمار
انتهى ذلك الانقسام، مثل الكثير غيره، لصالح الصحافة، وهو ما جسدته مقولة دان سينور، وهو متحدث باسم الولايات المتحدة في بغداد: "خارج التسجيل: باريس تحترق. أثناء التسجيل: الاستقرار والأمن يعودان إلى العراق".
كانت إدارة بوش تعلم أن مراسلي العراق ليسوا تابعين لها، لكنها حاولت استخدامهم لخدمة أهدافها. كانت الصلاحيات غير مسبوقة، عن عمد، حيث كانت النظرية، التي أثبتت صحتها، هي أنه من الأرجح أن يتأثر المراسلون بمن يخاطرون بحياتهم من أجل بلادهم مقارنةً بالضباط الكبار الذين يصرحون ببياناتٍ من قاعدةٍ عسكرية بعيدة عن الخطوط الأمامية. في النهاية، نجح ذلك الترتيب للطرفين. مالت التغطية المرافقة إلى أن تكون أكثر إيجابية، لكنها أنتجت أيضًا تقارير حية ومنذرة بشأن قضايا مثل الخسائر الأمريكية وقتل المدنيين العراقيين، ساعدت في تحويل الرأي العام ضد الحرب.
ويشير فاينر إلى أنه رغم تجنب إدارة أوباما إلى حدٍ كبير للصدامات الكبيرة في العلاقة مع الصحافة، إلا أن تلك العلاقة لم تكن بعيدة عن التوترات، حيث أشرفت إدارة أوباما على استخدامٍ أكثر اعتيادًا لأدوات إنفاذ القانون ضد الصحفيين، وهو ما يعتبره أحد الجوانب القليلة التي لا يفخر بها. يذكر فاينر أنه خلال فترة عمله بالإدارة كان يحترم بشدة عمل الصحفيين الذين يغطون وزارة الخارجية، لكنه كان يشكو بين حينٍ وآخر من بعض التغطيات، بحدةٍ أحيانًا، حتى أنه قرر يومًا منع مراسل إحدى الصحف من الطيران إلى أوروبا على طائرة وزير الخارجية كيري لأنه سرب معلومات حصل عليها لم تكن للنشر.
لكن من الواضح، يتابع فاينر، أن الصدام الحالي بين ترامب وصحافة واشنطن هو خروجٌ مثير للقلق عن تلك السوابق.
أولًا، لا يبدو أن المقصود من هجوم ترامب المحسوب على الصحافة هو التأثير على التغطية، وإنما تدمير مصداقية الإعلام حتى يتمكن انتزاع دوره التقليدي كحكمٍ بين الحقائق التي تتخذ القرارات على أساسها. إذا كان الهدف هو إنتاج تغطيةٍ أفضل فقط فإنه لن يكون من المنطقي تسمية الصحافة "أخبار زائفة"، وهو ما يوصي الناس بعدم تصديق أي شيء تورده. لكن إذا، في المقابل، كنت ترغب في صنع الواقع الخاص بك حتى تبدو أجندة غير منطقية أكثر منطقية...
لا يبدو أن المقصود من هجوم ترامب المحسوب على الصحافة هو التأثير على التغطية، وإنما تدمير مصداقية الإعلام
ثانيًا، يمتلئ اختيار ترامب لتعبير "أعداء الشعب" بصدى تاريخي مشؤوم في المجتمعات الأخرى كمقدمةٍ للعنف. كما هو الحال مع تبنيه لشعار "أمريكًا أولًا"، والذي ظهر في الثلاثينيات بين المتعاطفين مع النازية المعارضين لتدخل الولايات المتحدة ضد هتلر، فمن غير الواضح ما إذا كان ترامب يعطي إشارة لقوىً مظلمة في المجتمع أو أنه وجد فقط ما اعتبره شعارًا جيدًا. في كلتا الحالتين، ليس هناك ما يدعو إلى توقع أن يتخلى عن ذلك التعبير، حتى إن كان يعلم مصدره.
ثالثًا، بينما قد يكون جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين قد انتقدوا مراسلين بعينهم، بشأن قضايا محددة، إلا أنه لم يسبق لهم أبدًا التشكيك في الصحافة كمؤسسة.
اقرأ/ي أيضًا: اجتماع نتنياهو وترامب..الاستيطان أولًا
كان نهج ريتشارد نيكسون تجاه الصحافة ربما هو الأقرب لما نراه اليوم من ترامب، حيث وصف الإعلام باستمرار بأنه "العدو"، ووضع صحفيين على قائمة أعدائه، وفعل كل ما في إمكانه لترهيب صحيفة واشنطن بوست لجعلها تسقط تحقيق ووترجيت، إلا أنه احتفظ بأقسى تعليقاته للعزل من المكتب البيضاوي.
وبينما ربما يكون الصحفيون قد أصدروا أحكامًا قاسية على عهد جورج بوش الابن، ما ساعد في الوصول بمعدلات تأييده إلى درجاتٍ غير مسبوقة من الانخفاض، إلا أنه حافظ على علاقاتٍ من الود والاحترام معهم جميعًا تقريبًا، أيًا كان شعوره تجاه التغطية التي تلقاها.
بالفعل، يوضح فاينر، لم يسبق لرئيسٍ أمريكي معاصر أن أظهر أي درجة تقترب من العداء لكامل تجاه الصحافة كما يظهره ترامب على أساسٍ شبه يومي، أو حاول حشد الجمهور في حملة تشويه لا هوادة فيها.
واجه كريس والاس من شبكة فوكس نيوز رئيس موظفي البيت الأبيض رينس بريباس بشأن تلك النقاط في مقابلةٍ يوم الأحد، بعد دفاع البيت الأبيض عن تعليقات الرئيس ومناشدته الصحفيين أخذها على محمل الجد.
"ليس لدي مشكلة في أن تشكو من خبرٍ بعينه"، قال والاس، "لكنك تجاوزت ذلك بكثير، أو تجاوز الرئيس ذلك بكثير. لقد قال إن الإعلام المضلل، وليس أخبارًا بعينها، لكن الإعلام المضلل هو عدو هذا البلد. ليس لدينا إعلامٌ مملوك للدولة هنا، هذا ما يوجد لديهم في الدول الدكتاتورية".
رد بريباس بأن الأمر لا يتعلق بخبرٍ واحد، وإنما "24 ساعة يوميًا، 7 أيام أسبوعيًا... من الحديث عن الجواسيس الروس، من الحديث عن مجتمع الاستخبارات" والمزيد من "التفاهات عديمة المصدر".
لم يسأل والاس عن كيف تساوي الإدارة بين تغطيةٍ سلبية والوقوف ضد الشعب الأمريكي على نحوٍ ما، لكنه كان محقًا في تذكيره لبريباس بأنه "لا يمكنك أن تملي علينا ما نفعل".
هناك تساؤلات عدة إذا كان ترامب قد فكر في التأثير الذي قد يكون لتصريحاته على الأنظمة الاستبدادية حول العالم والتي تعتقل الصحفيين
رابعًا وربما أكبر فارق تتسم به حملة ترامب هو أنه بينما ظلت الصحافة دائمًا تنطوي على مخاطر، إلا أن العالم قد أصبح مكانًا أخطر بكثير لممارستها، حيث حل محل الوضع المميز في الصراعات السابقة استهدافٌ متعمد واستخدام الأنظمة الاستبدادية لتكتيكاتٍ أكثر قمعًا.
يشير الاتحاد الدولي للصحفيين إلى مستوياتٍ تزداد ارتفاعًا من العنف ضد العاملين في الإعلام منذ أن بدأ في جمع الإحصاءات عام 1990. سجل هذا العام مقتل 40 صحفيًا على مستوى العالم، بينما لم يقل الرقم عن 100 طوال العقد الماضي.
يتساءل فاينر عما إذا كان ترامب قد فكر في التأثير الذي قد يكون لتصريحاته على الأنظمة الاستبدادية حول العالم التي تعتقل الصحفيين بمعدلاتٍ متسارعة.
كان وزير الخارجية كيري يثير هذه القضايا، والتي كان بعضها يخص مواطنين أمريكيين، في مقابلاته مع نظرائه من الدول الأخرى، حيث كان ينجح أحيانًا. الآن يبدو من الصعب تصور أن يكون لمثل تلك المناشدات، إذا كانت إدارة ترامب مستعدة للقيام بها، نفس الثقل الأخلاقي. وإذا كان رئيس الدولة الوحيدة التي لديها التعديل الأول للدستور يستطيع اعتبار الصحافة ليس فقط عدوه وإنما عدو الشعب الذي يمثله، فإنه ليس هناك الكثير الذي يمكن القيام به لمنع الدول الأخرى، التي تقل لديها ضمانات حرية التعبير، من القيام بالمثل.
ويلفت فاينر إلى أنه لأسبابٍ متعددة انخفضت نسبة تأييد الصحفيين في الولايات المتحدة إلى حوالي 20%، أي أقل من نسبة تأييد ترامب، التي هي أقل نسبة تأييد لرئيسٍ أمريكي جديد في التاريخ. ويختتم فاينر بأن التقليل من شأن الصحفيين والمراسلين، والطريقة التي عوملوا بها خلال حملة ترامب الرئاسية، تثير أسئلةً مشروعة وغير مسبوقة، بشأن مدى الأمان الذي يتمتع به الصحفيون الأمريكيون للقيام بعملهم، وكان ذلك قبل أن يعتبرهم ترامب أعداءً.
اقرأ/ي أيضًا: