يخرج الرجل من باب الطائرة ملوحًا بيده، يصطحب زوجته وابنته وزوجها، ومستشارين ورجال أعمال، في أولى رحلاته الخارجية منذ انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة قبل نحو أربعة أشهر. إلى المملكة العربية السعودية طار ترامب في تقليد هو الأوّل من نوعه في الإدارات الأمريكية.
لم يشغل بال الكثيرين كيف تحول دونالد ترامب الذي اتهم السعودية بأبشع الاتهامات ووصفها بأوصاف غير منضبطة، إلى ترامب المنحني أمام العاهل السعودي ليلبسه قلادة الملك عبد العزيز، أرفع الأوسمة في المملكة العربية السعودية، وليتعلم هز فنجان القهوة العربية ويرقص بالسيف، وينشر على حسابه الرسمي على تويتر: "عظيم أن تكون في الرياض"! هكذا تكون سياسة الممكن، بخاصة وأن اليوم الأول لترامب في السعودية شهد توقيع اتفاقيات سلاح وتبادلات اقتصادية بنحول 380 مليار دولار، سيعود بها الرئيس الأمريكي ليواجه أزمة داخلية في بلاده قد تطيح به.
الأرض المقدسة
اختيار ترامب للمملكة العربية السعودية لتكون محطته الأولى في رحلاته الخارجية يعد أمرًا غير معتاد في تاريخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة، التي عادةً ما تكون رحلات رؤسائها الأولى نحو المكسيك أو كندا، وفي بعض الحالات القليلة جدًا نحو أوروبا.
زيارة ترامب للسعودية هي الأولى من نوعها في تاريخ أمريكا، وتأتي في سياق سعي ترامب للحصول على مصادر أموال لا تنضب
وخلال كلمته أشار ترامب إلى السعودية بـ"الأرض المقدسة"، فيما يرى البعض أن تلك الزيارة محاولة من ترامب لإعادة العلاقات مع الحلفاء القدامى للولايات المتحدة، فضلًا عن السعي الحثيث للحصول على مصادر أموال لا تنضب، بالإضافة إلى محاولة التهدئة من غضب من هاجمهم خلال حملته الانتخابية وفي الأيام الأولى لحكمه، وإزالة سمعة محاربته الإسلام عنه، بخاصة وأنه التقى خلال الزيارة عددًا من رؤساء وملوك ومسؤولي دول عربية وإسلامية. هذا وستعقب هذه الزيارة، واحدة إلى دولة إسرائيل، ثم اُخرى إلى الفاتيكان، فقد أشار ترامب إلى أن الغرض هو التقريب بين الديانات السماوية الثلاث.
اقرأ/ي أيضًا: ما الذي يعنيه فوز ترامب للشرق الأوسط؟
وليس ترامب وحده الذي استغل الموقف، فالسعودية أيضًا استغلت الحدث، ودعت رؤساء 55 دولة عربية وإسلامية، لم يكن من بينها بالطبع إيران، رغم أنّ من بينها دولٌ تختلف مع السعودية، في إشارة من السعودية إلى واقع ريادتها في العالم الإسلامي، وربما أيضًا تأكيد على مشروع "التحالف الإسلامي" الذي سبق وأن نظّمت له السعودية بقيادتها في محاولة لم تنجح تمامًا.
ووفقًا لتصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، فإن اختيار ترامب للسعودية، يأتي في إطار "دور ومكانة السعودية في العالم، ولتطابق رؤية واشنطن والرياض حول العديد من القضايا"، يقصد الحرب على الإرهاب وإيران، والأخيرة هي الأكثر صلةً بالواقع على الأغلب.
وتعد الزيارة إعادة لدور الولايات المتحدة في المنطقة، والذي كان قد تضاءل كثيرًا خلال الفترة الأخيرة من عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وبخاصة بعد توقعيه الاتفاق النووي مع إيران، لذا فإن ملفي الإرهاب وإيران، كان الأكثر تعرضًا خلال الزيارة، وتكلل الحديث عنهما بافتتاح كلٍّ من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز صحبة ترامب، مركزًا عالميًا لمكافحة التطرف على الأراضي السعودية باسم مركز "اعتدال".
وخلال الزيارة عقد ترامب ثلاث قمم، الأولى سعودية أمريكية، وكانت أقرب لكونها قمة اقتصادية، خرج منها ترامب بالكثير من العطايا، والثانية مع دول مجلس التعاون الخليجي، وكان محورها الأساسي مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وطمأنة دول النفط من جهة الحماية الأمريكية لهم، أمّا الثالثة والتي عقدت اليوم فكانت قمّة جمعت عددًا من رؤساء ومسؤولي دول عربية وإسلامية، وكانت بمثابة إعلان البيعة لترامب، والتصريح بالتبعية لإدارته.
تعد زيارة ترامب، إعادةً لدور أمريكا في المنطقة، والذي كان قد تضاءل كثيرًا خلال الفترة الأخيرة من عهد أوباما
خلال القمة الثالثة، ناقض ترامب كل خطاباته الشعبوية السابقة، بحديث أكثر اتزانًا، قال فيه: "لسنا في معركة بين الأديان، وإنما معركة بين الخير والشر"، وتراجع في هجومه العنيف على الإسلام والمسلمين، وتحديدًا السعودية كمصدر للفكر المتشدد، ليقول: "عندما ننظر لضحايا العنف، لا ننظر إلى دينهم، فمسيرة السلام تبدأ من هنا، من هذه الأرض المقدسة، فنحو 95% من ضحايا الإرهاب من المسلمين"!
وأبدى ترامب استعداد بلاده للوقوف مع المسلمين للبحث عن المصالح المشتركة، شريطة التوحد خلف هدف هزيمة الإرهاب والتطرف، جامعًا بين حماس وحزب الله وداعش في خطاب واحد، باعتبارها "تنظيمات إرهابية، يمارسون نفس الوحشية". وفي هذا الصدد فقد أبدى الرئيس الأمريكي سعادته بوضع السعودية لحزب الله على قوائم الإرهاب.
اقرأ/ي أيضًا: السعودية.. قانون "إرهابي" لمحاربة "الإرهاب"
إيران وإيران ثم إيران
كانت إيران محورًا بارزًا في الزيارة، فتقريبًا لم يخل حديث دون الإشارة إليها أو إلى ضرورة مواجهتها، وقد قال عنها ترامب خلال كلمته في القمة الأخيرة: "يجب أن يستمر عزل إيران إذا ما استمرت في سياستها الحالية"، متهمًا طهران بدعم الإرهاب وتمويل وتسليح ميليشيات إرهابية طائفية، مُؤكدًا على أن "الشعب الإيراني أكبر ضحية للنظام الإيراني".
وفي القمة الثانية، الأمريكية الخليجية، والتي استهل بها ترامب يومه الثاني في الرياض، ووفقًا لمصادر صحفية، فقد تركزت حول مكافحة الإرهاب والتدخلات الإيرانية في المنطقة. ووقعت على إثر ذلك مذكرة تفاهم بين الدول الخليجية وأمريكا، لتأسيس "مركز استهداف تمويل مصادر الإرهاب"، وقعها وزير الخزانة الأمريكية، والأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي ممثلًا للطرف الخليجي.
من جانبها، فإن إيران التي انتهت للتو من الانتخابات الرئاسية بفوز الرئيس الإصلاحي حسن روحاني، يُرجح أن يكون لها رد فعل خلال الساعات القادمة، ولكنها كإدارة وحكومة، استبقت القمة بمقال لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، اختص به صحيفة العربي الجديد، تحت عنوان "مستعدون لإهداء السلام إلى المنطقة". وكان أبرز ما تناوله هو الإشارة إلى أن إيران لا ترغب في مزيد من التصعيد، وأنها على استعداد للحوار البنّاء، والتأكيد على رفضها للعنف والإرهاب، إذ قال ظريف نصًا: "إنني أعلن اليوم رسميًا، وباسم الحكومة الإيرانية، أننا مستعدون لأن نهدي السلام إلى كل المنطقة، وإلى المملكة العربية السعودية قبل غيرها".
وبطبيعة الحال تحدث ظريف عن وقف الحرب في اليمن، وإتاحة الديمقراطية في دول الجوار التي لم يسمها. ولكنه عاد في نفس المقال وقال: "فإذا كان الرئيس الأمريكي ملتزمًا بالشعارات التي أطلقها قبل انتخابه، ويعتبر نفسه صديقًا لحكومة الرياض، فعليه أن يدخل في الحوار معها حول الطرق الكفيلة بمنع الإرهابيين التكفيريين من الاستمرار في تأجيج النار على مستوى المنطقة، وتكرار أمثال حادث 11 أيلول/سبتمبر، من قبل رعاياها في الدول الغربية".
اتفاقيات لنجاة ترامب داخليًا
خلال الزيارة وُقّعت عدة اتفاقيات بين السعودية والولايات المتحدة، بلغت نحو 34 اتفاقية، وقعت جميعها في اليوم الأول، بقيمة تبلغ أكثر من 380 مليار دولار وفقًا لتصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، فيما جاءت التقديرات على لسان وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون بأنها 350 مليار دولار، بينما قال ترامب خلال كلمته الأخيرة إنها وصلت لنحو 400 مليار دولار.
أمّا أبرز الاتفاقيات والصفقات فكانت عقود تسليح أمريكية للسعودية بنحو 110 مليار دولار، كما شملت اتفاقية بين شركة أرامكو السعودية للبترول مع شركات أمريكية بنحو 50 مليار دولار، بالإضافة إلى تبادل خطاب نوايا بين وزارة الصحة السعودية وشركة جنرال إلكتريك الأمريكية، بشأن التعاون على تطوير التطبيقات الخاصة بالرعاية الصحية نظام "بريدكس"، بقيمة 15 مليار دولار أمريكي.
وإجمالًا فقد شملت الاتفاقيات مجالات الصحة وأنظمة الدفاع والبنية التحتية والشركات الرائدة، وكذا مجالات التعدين والمجال الجوي والمجال المعلوماتي، وأيضًا في مجال توليد الطاقة والبتروكيميائيات والإيثيلين، وتطوير القدرات البشرية والاستثمارات العقارية.
وجدير بالذكر أن ترامب خلال الحملة الانتخابية التي سبقت انتخابه، وعد الشعب الأمريكي بتوفير نحو تريليون دولار للبنية التحتية داخل الولايات المتحدة، وقد استطاع بفضل السعودية، الحصول خلال شهور حكمه الأولى، أن يوفر نحو 380 مليار دولار من أصل التريليون، صحيح أنها ليست موجهة جميعها للبنية التحتية، ولكنها إشارة منه إلى قدرته في الحصول على المزيد.
اقرأ/ي أيضًا: ترامب الواضح.. ترامب الجميل
كما يُذكر أن هذه الصفقات، التي بدت كعطايا سعودية لترامب، أو "جزية" مقابل الحماية، كما وصفها البعض؛ تأتي في ظل خطة تقشف أعلنتها السعودية منذ شهور، بالتزامن مع إطلاق ما عرف بـ"رؤية السعودية 2030". وتعتمد إجراءات التقشف على تقليل الدعم المقدم للمواطن السعودي، وخصخصة العديد من المؤسسات، وخفض العديد من مزايا موظفي الدولة، إلا أن العاهل السعودي قد أصدر منذ أسابيع أوامر ملكية بإعادة البدلات والمكافآت لموظفي الدولة من مدنيين وعسكريين. هذا ويُشار إلى أن السعودية تشهد عجزًا في الموازنة العامة يصل إلى 150 مليار دولار.
جاريد كوشنر ومحمد بن سلمان
جاريد كوشنر، ومحمد بن سلمان هما أكثر الشخصيات التي حصلت على مكاسب قبل وبعد الزيارة، فجاريد كوشنر هو مستشارٌ رفيع المستوى في البيت الأبيض، وزوج إيفانكا ترامب ابنة الرئيس الأمريكي، وكان يكتب لترامب خطاباته، كما كان يدير الحملة الانتخابية له على الإنترنت.
ونقلت شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية، وصحيفة نيويورك تايمز عن مصادر، أن كوشنر أجرى في وقت سابق من شهر أيار/مايو الجاري، اتصالًا هاتفيًا مع مارلين هيوسن، المديرة التنفيذية لشركة "لوكهيد مارتن" للصناعات العسكرية، ليطلب تخفيض سعر نظام متطور للكشف عن الصواريخ، معروف بـاسم "THAAD"، لتنتهي صفقة السلاح التي أبرمتها الولايات المتحدة والسعودية بنحو 110 مليار دولار. ووفقًا لمصادر صحفية أمريكية، فإنه من غير التقليدي حدوث مثل هذا الاتصال لطلب تخفيض سعر سلاح.
كوشنر زوج ابنة ترامب، ومحمد بن سلمان نجل العاهل السعودي، أكثر المستفيدين من الحالة العامة لما قبل وبعد الزيارة
ويبدو أن هذه الخطوة تأتي في إطار عمل كوشنر على تأسيس علاقات مع أفراد العائلة المالكة السعودية، عقب إعلان فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية، وفي هذا الصدد يُذكر أن كوشنر أيضًا كان متواجدًا خلال استقبال ترامب لولي ولي العهد ووزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان، آذار/مارس الماضي.
تلك الزيارة التي يأتي ذكرها دائمًا خلال أي حديث أو تحليل علي أي وسيلة إعلامية سعودية، ما يعني بشكل ما تصاعد دور الأمير الشاب وتلميعه وإبراز دوره. والأمير الشاب صعد مع تولي والده حكم السعودية، لمناصب لم يصل لها أحد من قبل في مثل سنه "34 عامًا". وتشير التوقعات إلى تجهيزه لتولي حكم السعودية خلفًا لوالده سلمان بن عبدالعزيز، وذلك في حال تمكنه من إزاحة محمد بن نايف ولي العهد الأوّل، وإن حدث ذلك سيكون محمد بن سلمان أول ملك من خارج أبناء الملك عبدالعزيز مؤسس المملكة العربية السعودية.
على الهامش
- أنشأت السعودية موقعًا إلكترونيًا لزيارة ترامب لها، تضمن عددًا من مقاطع الفيديو التي تشرح تاريخ السعودية منذ تأسيسها الثالث على يد الملك عبد العزيز آل سعود، ورسوم توضيحية لطبيعة العلاقات السعودية الأمريكية. ويُعرض الموقع الذي يأتي تحت شعار "العزم يجمعنا"، بأربع لغات: العربية والإنجليزية والفرنسية والروسية.
- شغلت إيفانكا ترامب الرأي العام السعودي، ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أن البعض طالب في مقاطع فيديو، تدخل العاهل السعودي، للزواج منها، وهي المتزوجة. انشغل أيضًا الرأي العام بشرح الأمير مقرن لها طريقة هز فنجان القهوة.
- حاول الرئيس الأمريكي مجاراة راقصي العرضة خلال تواجده في مركز الملك عبدالعزيز التاريخي، وأوضح الملك سلمان لترامب أن تلك الرقصة تعرف برقصة الحرب، كما تذوّق الرئيس الأمريكي والوفد المرافق عددًا من المأكولات الشعبية السعودية في المركز.
- القهوة العربية كان لها مساحة كبيرة من التعليق على مواقع التواصل الاجتماعي، مرة مع إيفانكا ترامب كما سبق ذكره، وأأخرى مع ترامب نفسه الذي حرص العاهل السعودي أن يشرح له طريقة هز فنجان القهوة قبيل نهايته.
- حظيت الخويا السعودية المعروفة بلفت انتباه الرئيس الأمريكي خلال دخوله الأول لمبنى الديوان الملكي السعودي. واصطفت الخويا بملابسها المعروفة حيث المجند بزي عسكري ومعه خنجر وسيف. والخويا في السعودية فرقة لها مهام عسكرية إلى جانب المهام التشريفية، أسسها الملك عبدالعزيز عام 1925.
اقرأ/ي أيضًا: