تستخدم روسيا والصين ملفًّ المساعدات الإنسانية، كأداة للضغط على خصومها وانتزاع مكاسب دبلوماسية داخل مجلس الأمن. هذا ما كشف عنه تقرير لمجلَّة "فورين أفيرز" الأمريكية، التي وصفت العملية بـ"تسليح المساعدات"، ويتناول التقرير الدور الروسي والصيني في تسييس الإغاثة الدولية خلال المناقشات حولها بالأمم المتحدة.
تستخدم روسيا والصين ملفًّ المساعدات الإنسانية، كأداة للضغط على خصومها وانتزاع مكاسب دبلوماسية داخل مجلس الأمن
ويشير المقال إلى أن موسكو، التي تُعدّ الداعم الأبرز لنظام الأسد، لطالما جادلت بأن المهمة الإنسانية تنتهك سيادة سوريا، واستخدمت حق النقض (الفيتو) في السابق لإلغاء نقاط عبور لإيصال المساعدات إلى الشعب السوري. ومع أن هذه الأزمة تم تجاوزها هذه الأيام، وعلى الأقل خلال الأشهر الستة المقبلة، إلى أن حالة عدم اليقين تلف مصير قرار مجلس الأمن، منتصف العام الحالي عند انتهاء التمديد.
وخلال السنوات الأخيرة، أظهرت روسيا والصين أنهما أكثر استعدادًا لاستخدام الضغط الدبلوماسي، وحق النقض في مجلس الأمن، لتمكين الحكومات الحليفة لها من حرمان شعوبها من المساعدات الإنسانية. ما يكشف عن مدى الصعوبة التي بلغتها اتفاقات تقديم المساعدات الإنسانية، مع ما يطبع العصر من منافسة بين القوى العظمى.
موسكو وبكين تسلحان الإغاثة؟
بتأخيرها اجتماع مجلس الأمن بشأن مناقشة إعلان المجاعة في تيغراي، في 21 حزيران/ يونيو 2021، ساعدت روسيا والصين الحكومة الإثيوبية، من خلال توفير غطاء دبلوماسي لاستمرار صراعها ضد المتمردين في ذلك. وبفعل هذا التحرك، حسب الأمين العام السابق للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ مارك لوكوك، لم يتم الإعلان عن المجاعة رسميًا في شمال إثيوبيا، على الرغم من أن ما يقرب من نصف مليون طفل يعانون من سوء التغذية في تيغراي.
ولتبرير منع المساعدات، وفق مقال "فورين أفيرز"، تستخدم روسيا والصين ورقة "عدم انتهاك السيادة"، حتى عندما تقوم الأنظمة القمعية بشن حروب حصار ضد شعوبها. كما لا يمكن إنكار غياب الاتساق في تطبيق هذه الدول للقانون الدولي، لا سيما بالنظر إلى الحرب العدوانية التي شنتها روسيا على أوكرانيا.
وهو ما يعد تسييسًا للمساعدات الإنسانية وتسليحها، وتعمل موسكو وبكين من خلاله على توسيع دائرة نفوذها على حساب الاستقرار الدولي ومبادئ حقوق الإنسان. وبالتالي، إذا تمكنت الحكومات القمعية من التلاعب بالمساعدات لمتابعة حروبها الداخلية، فإن المجتمع الدولي يفقد أداة أساسية لتخفيف المعاناة على المنكوبين من تلك الحروب وإدارة الأزمات.
وتلفت هول ولانج، أحد المشاركين في كتابة المقال، بأن "تسليح المساعدات الإنسانية" ليس ظاهرة جديدة "لكن نتائجها في سوريا حادة ومأساوية"، بشكل خاص. إذ يرفض نظام الأسد، منذ اندلاع الثورة ضده عام 2011، بشكل منهجي المساعدة الإنسانية لشرائح كبيرة من السوريين، سعيًا لإجبار سكان مناطق المعارضة على الاستسلام أو إبادتهم بشكلٍ كامل.
وردًا على ذلك، تبنى مجلس الأمن في العام 2014 بالإجماع القرار 2165، الذي يسمح لوكالات الأمم المتحدة بتمويل وتسليم وتنسيق المساعدات عبر 4 معابر حدودية إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من دون موافقته، ونتيجة لذلك وصلت وكالات الإغاثة إلى ملايين الأشخاص الذين كانوا سيبقون دون مساعدة لولا ذلك القرار.
واستخدمت روسيا في السنوات الأخيرة نفوذها في مجلس الأمن لتقليص صلاحيات القرار إلى معبر واحد، وإلزام الغالبية العظمى من هذه المساعدات بالمرور عبر دمشق، مما يمنح نظام الأسد مزيدًا من السيطرة على توصيلها ، وسمح له ذلك بوقفها عن مناطق معينة وتوجيهها إلى حلفائه، فضلًا عن التحكم في الرواية نفسها المتعلقة بالصراع.
ومع هذه القيود، استمرت المساعدات في الوصول إلى نحو 4,5 مليون شخص في شمال غربي سوريا، معظمهم ناجين من حصار نظام الأسد وحملات القصف الروسية. وتعطي "فورين أفيرز" مثالًا على نتائج سيطرة الأسد على المساعدات الدولية، وهو امتناع مركز الأمم المتحدة في دمشق عن كشف حصار عناصر النظام لمدينة مضايا، حتى تم فضح ما كان يقع على الأرض عبر الصور المروعة للأطفال الجوعى التي تداولتها وسائل الإعلام في كانون الثاني/ يناير 2016.
وفي السنة الماضية، هددت روسيا بإغلاق معبر باب الهوى، للحصول على تنازلات دبلوماسية من أعضاء مجلس الأمن، بما في ذلك الولايات المتحدة، للموافقة على "أنشطة التعافي المبكر" في مناطق سيطرة النظام السوري، ودعم أكبر لعمليات تسليم المساعدات عبر الخطوط. وهو ما يمنح النظام السوري سيطرةً أكبر على المساعدات التي تصل إلى شمال غربي سوريا، ناهيك عن ضعف التنسيق، وغياب آليات الرصد القوية لمسارها عبر الحدود.
ويشدد كاتبا المقال، على وجوب أن تجد الولايات المتحدة وحلفائها طرقًا جديدةً لتقليل تأثير تنافس القوى العظمى على الأزمات الإنسانية في سوريا وخارجها، وتتمثل إحدى الطرق في إخراج بعض المناقشات حول مساعدات الإغاثة من مجلس الأمن الذي يعيش حالة استقطاب حادة.
وضع كارثي على الأرض
بعد نقاش حاد في مجلس الأمن في تموز/يوليو الماضي، أجبرت روسيا الأمم المتحدة، على تمديد تفويض المساعدات عبر الحدود لمدة 6 أشهر فقط، عوض عن 12 شهرًا التي كانت تمدد بها في المرات السابقة. وهو ما وضع المجموعات الإغاثية في مأزق من أجل تخطيط برامج جديدة لتلبية الاحتياجات الماسة للسوريين، وتوظيف الموارد البشرية اللازمة لإنجاح أعمالها، وإيصال المساعدات الأساسية للملايين الذين يعتمدون عليها للبقاء على قيد الحياة.
ويتحدث الكاتبان عن أن "ترك الإطار الزمني القصير وعدم اليقين الدبلوماسي، منع وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية من التخطيط لاستجابة إنسانية فعالة". إذ كان تأثير ذلك على الأرض ملموسًا، وحسب ما أفاد به منتدى المنظمات غير الحكومية في شمال غربي سوريا العام الماضي، فقد تم إلغاء أكثر من 8500 وظيفة غير حكومية في المنطقة، وتعليق أكثر من 400 نشاط طبي وتعليمي، وإيقاف خدمات الحماية ومرافق المياه والصرف الصحي.
ويوضح الكاتبان، أن هذا هو المقصد بالنسبة لروسيا، حيث لم تستطع والنظام السوري من استعادة شمال غربي سوريا بالقوة، بسبب مواجهتهم لمقاومة واسعة وتعقيدات جيواستراتيجية بدخول القوات التركية للنزاع. لكن من خلال منع وصول المساعدات الإنسانية إلى المنطقة، أصبح هناك قدرة على احتواء المعارضة وإضعاف السكان المدنيين، كما أن قطع المساعدات عبر الحدود بشكلٍ كامل من شأنه أن يزيد من إحكام الخناق على السكان.
ويدفع السوريون ثمنًا باهظًا جراء ذلك، إذ يحاول كُثر الفرار إلى تركيا أو البلدان المجاورة الأخرى، التي أغلقت أبوابها إلى حدٍّ كبير في وجههم، وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة الهشة بالأساس، وبالتالي إلى معاناة إضافية للسوريين.
من انتهاك السيادة إلى انتهاك القانون الدولي
وحتى قبل إصدار القرار 2165، جادل العديد من الباحثين القانونيين بأن قرار مجلس الأمن ليس مطلوبًا لإضفاء الشرعية على توصيل المساعدات عبر الحدود في مواجهة الحكومة القمعية، وتستند هذه الحجة إلى شقين؛ الأول، أنه "لا توجد قاعدة في القانون الدولي تنص بشكلٍ لا لبس فيه، على أنه من غير القانوني للوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة عبور حدود دولية إلى جزء من دولة لا تملك الحكومة الوطنية سيطرة إقليمية عليها لتقديم مساعدة إنسانية محايدة، في تعاون كامل مع السلطات المحلية والمجتمعات المحلية".
فيما الشق الثاني، يشير إلى أن "رفض نظام الأسد السماح بالمساعدات الإنسانية للسكان المحتاجين طوال فترة الصراع، تكون فيه البدائل مثل المساعدات عبر الحدود ضرورية، حيث سبق أن اقترحت الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بشكل ضمني أو صريح، أن امتناع حكومة النظام السوري عن الموافقة على المساعدة الإنسانية في الأجزاء غير الخاضعة لسيطرتها هو قرار تعسفي".
وهذا يعني، من بين أمور أخرى، أن النظام السوري منع المساعدات بطريقة تنتهك التزامات الدولة بموجب القانون الدولي، فعلى سبيل المثال، لا يُسمح للدول "بتجويع السكان المدنيين، ولا يمكنها منع المساعدات عن المدنيين، لأن هؤلاء المدنيين يُعتبرون داعمين لأعداء الدولة".
وفي هذا الصدد، يشدد المقال على ضرورة مواصلة الجهود لإبقاء القرار 2165 حيًا، حيث من المرجح أن تستمر المعضلة الحالية إلى حين وجود نقاش قوي وشفاف، بين مكتب الشؤون القانونية الذي يعتبر قرار تجديد مدة المهمة الإنسانية شرطًا أساسيًا لاستمرار المساعدة، والعديد من الخبراء الخارجيين الذين يختلفون مع هذا التحليل. ومن الواضح أن وكالات الأمم المتحدة لا تزال ترى بأنها ملزمة بهذا الرأي القانوني الداخلي.
سوريا ليست الوحيدة
يؤكد المقال، بأن ما يحاول القيام به كل من الأسد وبوتين في سوريا ليس جديدًا على الساحة الدولية. ففي سنة 2008، منعت الحكومة العسكرية في ميانمار، خوفًا من التدخل الخارجي، عمال الإغاثة الدوليين من دخول البلاد، بعد أن خلّف إعصار "نارجس" قرابة 140 ألف قتيل، ووضع 2,4 مليون آخرين تحت الخطر. واليوم، يمنع المجلس العسكري في ميانمار المساعدات من الوصول إلى العديد من مناطق الأقليات العرقية، سواء تم تسليمها داخليًا أو عبر الحدود.
ما يحاول القيام به كل من الأسد وبوتين في سوريا ليس جديدًا على الساحة الدولية. ففي سنة 2008، منعت الحكومة العسكرية في ميانمار، خوفًا من التدخل الخارجي، عمال الإغاثة الدوليين من دخول البلاد، بعد أن خلّف إعصار "نارجس" قرابة 140 ألف قتيل، ووضع 2,4 مليون آخرين تحت الخطر
وفي منطقة تيغراي أيضًا، فرضت الحكومة الاثيوبية منذ عامين حصارًا على المساعدات والخدمات لملايين المدنيين، على أمل عزل قوات المعارضة وإضعاف السكان في مناطق سيطرتها. وطوال العقدين الماضيين، منعت روسيا والصين مجلس الأمن من إصدار قرارات تدين الأزمة الإنسانية، وتدعو إلى عمل إنساني أقوى في كل من ميانمار وإثيوبيا.
ويختتم المقال تحليله بالإشارة إلى أن العمل على هذا الصعيد يتم من خلال تحجيم الدور الروسي والصيني في تحديد مصير المساعدات الإنسانية، التي بات الآن بالغة الأهمية. حيث من المرجح أن تزداد رغبتهما في استخدام نفوذهما لصالح الطغاة، خاصةً مع اشتداد حدة المنافسة بين القوى العظمى.