في تطور خطير تشهده إسبانيا، أقدمت قوات الحرس المدني، وهي شرطة شبه عسكرية، على اعتقال 14 مسؤولًا من أعضاء حكومة الحكم الذاتي في كتالونيا، قبل أيام قليلة، بسبب تزعمهم التحضير تنظيميًا ولوجيستيًا لاستفتاء تقرير المصير في الإقليم المُزعم عقده اليوم الأول من تشرين الأول/أكتوبر المقبل، وهو الاستفتاء الذي ترفضه قطعًا حكومة مدريد، ما يفتح أزمة مشرعة على كل السيناريوهات في إسبانيا.
تتصاعد الأزمة في إسبانيا على خلفية إصرار حكومة إقليم كتالونيا على إجراء استفتاء تقرير المصير للانفصال بالإقليم
كاتالونيا تصعد ومدريد تهدد
وفي سياق الأزمة الكاتالونية، أفادت صحيفة "إلباييس"، أن وزارة الداخلية الإسبانية صادرت قرابة 10 ملايين بطاقة اقتراع، خططت سلطات كتالونيا لاستخدامها في الاستفتاء على استقلال الإقليم، بالإضافة إلى لافتات مراكز اقتراع ووثائق خاصة بمسؤولين عن عملية التصويت، وذلك بعد عمليات مداهمة قامت بها السلطات الأمنية لمخازن لوجيستيات، كما ذكرت الصحيفة الإسبانية أن تدخل الحرس المدني، جاء بعد مماطلة شرطة كتالونيا في تطبيق قرارات قضائية تمنع بموجبها الاستفتاء.
اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كتالونيا في 300 صفحة
وردًا على حملة التوقيفات التي طالت مسؤولين محليين كبار يدعمون الانفصال، قال رئيس حكومة إقليم كاتالونيا، كارليس بيغديمونت، إن الحكومة المركزية في مدريد "علقت بحكم الأمر الواقع، الحكم الذاتي في كاتالونيا، وطبقت بحكم الأمر الواقع حالة طوارئ"، واصفًا سلطات مدريد "بالمستبدة والمنتهكة للحقوق الأساسية"، دون أن يعلن العدول عن تنظيم الاستفتاء. فيما اندلعت مظاهرات حاشدة في برشلونة ومدن إقليم كاتالونيا، تدعو إلى الاستقلال، حسبما نقل موقع "20 minutos" الإسباني.
من جانبه، أقر نائب رئيس الحكومة المحلية، أوريول خونكويراس، بالضربة الكبيرة للاستفتاء غداة تحركات مدريد القوية، قائلًا: "لقد تبدلت قوانين اللعبة". وكانت مدريد قد أعلنت أيضًا إلى جانب التوقيفات لعدد من المسؤولين الكاتالونيين، وضع الرقابة على الموارد المالية المتجهة نحو حكومة الإقليم، بقصد حظر أي نفقات يمكن أن تمول الاستفتاء.
في المقابل، ترفض الحكومة الإسبانية المركزية تنظيم استفتاء تقرير المصير في كتالونيا، إذ قال رئيس الوزراء الإسباني، ماريانو راخوي، مخاطبًا دعاة الانفصال أمام الصحفيين: "أدعوكم إلى العودة إلى الديمقراطية والقانون، وهناك وقت لمنع المزيد من الشرور"، مضيفًا: "أوقفوا محاولاتكم ومواقفكم المتعلقة بالاستقلال، هذا الاستفتاء لم يكن في أي وقت من الأوقات شرعيًا وقانونيًا، وهذا ليس مطلبًا سياسيًا" على حد قوله.
وفي حزيران/يونيو الماضي، أعلنت حكومة إقليم كتالونيا، أن الأول من تشرين الأول/أكتوبر المقبل، سيكون موعد إجراء الاستفتاء الشعبي بشأن الاستقلال عن إسبانيا، إلا أن المحكمة الدستورية الإسبانية، أبطلت بالإجماع قانوني، "الاستفتاء"، و"تأسيس جمهورية"، اللذين أقرهما البرلمان المحلي في كتالونيا، لـ"معارضتهما للدستور الإسباني".
كاتالونيا وعقدة الانفصال
يقع إقليم كاتالونيا شمال شرق إسبانيا، ويضم 7 ملايين و500 ألف نسمة، بمساحة توازي مساحة بلجيكا، ويتمتع بحكم ذاتي موسع، ويضم 947 بلدية موزعة على أربعة مقاطعات، وهي برشلونة وجرندة ولاردة وطرغون. وتعتز كاتالونيا بهويتها ولغتها الخاصة، مع سعيها القديم للاستقلال التام عن إسبانيا، وهو ما لا تقبله السلطات المركزية في مدريد.
وتعود الجذور الانفصالية الدفينة في كاتالونيا إلى ثلاثينيات القرن الماضي، عندما حاز الإقليم حكمًا ذاتيًا موسعًا في سنة 1931، إبان الحرب الأهلية الإسبانية، لكن بمجيء حكم الجنرال فرانثيسكو فرانكو سنة 1939 أُلغي الحكم الذاتي، ونكّل الجنرال الذي عُرف كديكتاتور مستبد، بعشرات آلاف الناشطين والسياسيين في كاتالونيا، حيث كان الإقليم معقلًا للجمهوريين والانفصاليين في إسبانيا.
ازدادت النزعة الانفصالية لدى سكان كتالونيا، بعد أن بدأت الحكومة المركزية في تطبيق خطط التقشف الأوروبية
ومع نهاية حكم فرانكو بوفاته عام 1975، استعادت كاتالونيا حكمها الذاتي، وورثت شعورًَا انفصاليًا عميقًا بعد حقبة القمع الشديدة التي عاشتها، ومنذئذ بدأت كاتالونيا تتطلع شيئًا فشيئًا نحو الانفصال التام، بدأتها سنة 1979، عندما أقرت نظامًا خاصًا بالإقليم، إلا أنه سرعان ما وضعت الحكومة المركزية في مدريد حدًا لهدفها الانفصالي مع بداية الألفية الجارية، حينما حظرت المحكمة الدستورية بشكل نهائي إمكانية استقلال أي إقليم عن إسبانيا.
اقرأ/ي أيضًا: من فرانكو إلى السيسي.. الديكتاتورية حظوظ!
لكن عقب الأزمة الاقتصادية وتقليص صلاحيات الحكم الذاتي عام 2010، تصاعدت النزعة الانفصالية في إقليم كاتالونيا، خاصة بعدما بدأت الحكومة المركزية بمدريد في تطبيق خطط التقشف التي سطرها الاتحاد الأوروبي، فأصبح قسم واسع من سكان الإقليم يشعرون بأنهم يقدمون أموال ضرائبهم إلى مدريد بأكثر مما يجب، وهو ما انعكس في انتخابات 2015، حيث حصلت الأحزاب الداعمة للانفصال على الأغلبية البرلمانية بإقليم كاتالونيا.
ومنذ ذلك الحين اشتدت الحملات الشعبية والسياسية في شوارع كاتالونيا وعلى شبكة الإنترنت للدعوة إلى الانفصال، حتى أعلنت حكومة الإقليم في مستهل السنة الجارية "خطة طريق" لتحقيق هذا الهدف، الشيء الذي لا تقبله حكومة مدريد.
ماذا لو حدث الانفصال؟
يُجمع المراقبون على أن انفصال إقليم كاتالونيا سيكون خسارة كبيرة لإسبانيا، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي والكروي، وإنما أيضًا لأنه سيهدد وحدتها الترابية، ولذلك تسعى مدريد جاهدة لكبح جماح هيجان هذه النزعة الانفصالية خلال الآونة الأخيرة.
تحقيق كاتالونيا لحلم الانفصال، يعني أن إسبانيا ستخسر %8 من إجمالي مساحتها، وما يقارب %15 من مواردها البشرية، ناهيك عن خسارتها لأشهر نادي في تاريخ كرة القدم (برشلونة). أما التكلفة الأكبر ستكون على مستوى الاقتصاد، حيث ستفقد إسبانيا حوالي %19 من إجمالي ناتجها القومي و%26 من صادراتها الإجمالية، إذ تُصدر كاتالونيا لوحدها %45 من المنتوجات التكنولوجية المصنعة بإسبانيا، وهو ما سيرتد بالتأكيد سلبًا على الاقتصاد الإسباني.
لكن أسوأ ما تخشاه حكومة مدريد هو أن انفصال كاتالونيا قد يكون بداية تفتت الدولة الإسبانية، لدرجة لم تتقبل تنظيم استفتاء تقرير المصير في إقليم كاتالونيا، رغم أن استطلاعات الرأي تفيد بأن الأغلبية الضئيلة من سكان الإقليم يرفضون الانفصال، إلا أن المجازفة بإجراء هذا الاستفتاء يمكن أن يفتح المجال لاستفتاءات قادمة، ليس فقط في كاتالونيا بل في أقاليم أخرى أيضًا، خاصة إقليم "الباسك" الذي خاض صراعًا مسلحًا مع سلطة مدريد من أجل الاستقلال، بواسطة منظمة "إيتا" الباسكية.
أسوأ ما تخشاه مدريد من انفصال كتالونيا أن يكون بداية لتفتت الدولة، خاصة وأن إقليم الباسك سبق وأن خاض صراعًا مسلحًا للانفصال
في المقابل، ستخسر كاتالونيا الكثير أيضًا في حال انفصالها، حيث ستُمنع من دخول منطقة اليورو، وما يعنيه ذلك من ضياع الكثير من الأوراق الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تتمتع بها وهي تخضع للحكم الذاتي تحت السيادة الإسبانية، إذ إن الاتحاد الأوروبي لا يرغب في إطلاق شرارة للنزعات الانفصالية التي قد لا تتوقف عند إسبانيا.
اقرأ/ي أيضًا: