يحيل الحراك المدني المقسم في بيروت الحياةَ العامة إلى تبدد. فتركن المجموعات انقسامها وتحاربها إلى عالم الافتراض. متقصدة التخوين والتخوين المضاد، في عملية تبادلية تطيح بـ"سقوف" المطالب ومروحتها، وتخدم عمليًا السلطة الفاسدة، التي يقوم الحراك ضدًها في الاصل.
في بيروت كأن الشارع عاد للناس فجأة، خصوصًا أن وسط البلد عاد للناس
فالتحرك، ليس واحدًا، وليس المطلوب أن يكون في هيكلة واحدة، عدا عن فكرة الشعارات المطروحة وتنوعها، كي لا يرسّخ صورةَ السلطة. طالما أنه حراك شارع، فهو ينبع من طبقاته. وهنا للتأكيد لا الحصر، أن عددًا كبيرًا من اللبنانيين يعيشون في طبقة متساوية فوق خط الفقر بقليل. وهو ما استطاعت الحكومات المتعاقبة في كل موروثاتها، ودلالاتها، ورموزها، القيام به وبنجاح تام وعلى مراحل مستقطعة، وهو ما يتقاطع مع شعار "كلكن يعني كلكن"، الذي لا يستثني أحدًا من الطبقة السياسية وهلاميتها وتفرعاتها.
وتنوع الحراك في بلاد العالم كلها، يحقق صورة شاملة للمطالب وأهدافها ويطور الخطة البرغماتية للتحرك. إلا أنه، وخلافًا لهذا الأمر، تثبت الحركات المضادة الخارجة من رحم الأحزاب والتكتلات والمجموعات المستقلة، ومجموعات المندسين، المندسين غير التقليديين عمومًا، والنوادي الشبابية والجامعية، وهيئات الطلابية المؤدلجة ومجموعة الناشطين الكلاسيكيين، الذين يتراخون أحيانًا في المطالب، ويقيمون توازنات واتصالات غير مرئية مع السلطة، تثبت كلها أنها تعمل ضد بعضها، في الخطاب ولو ضمنيًا. وهي بعيدة أحيانًا عن رؤية الناس وطموحهم في تحريك أقدامهم نحو الساحة.
فمجموعة "#عالشارع"، التي أنتجت موادًا تشاركية عبرّت أكثر من غيرها عن لبنانيين غير حزبيين وغير منتفعين من حصص التكتلات السياسية وارتباطاتها العاطفية والمذهبية والمناطقية، وجاءت كصرخة في واد سحيق. وحوربت على الفور، كونها نشرت صورًا لرموز الفساد ومشاركيه. والحال أن صورة أمين عام حزب الله حسن نصر الله، أفرغت مساحة الفصام اللبناني أمام العلن. ليظهر من يطالب بمنع الفساد ورموزه، على أنه طائفي وضيق ومحدود، رافضًا أن تشمل صورة نصرالله هذه الحملة. فهو يقبلها لسعد الحريري ولخصومه في السياسة، ويرفضها لزعيمه. متناسين أن السيد شارك في الظل والعلن في حكومات فاسدة منذ 10 سنوات، ورشح أشخاصًا إلى المجلس النيابي، في كتل استفادت وتستفيد من فساد واهتراء النظام، أو اللانظام للدقة، وأولها في توسيع حركة تسليحه، وأخيرًا في مشاركته القتل في ميدان سوريا.
وتفيد الصورة الخارجة من وسط بيروت، وفي محيط تمثال رياض الصلح، أن الحراك السلمي والعنفي على حد سواء، مخترق. وهذا الاختراق على حدته ورمزيته، يؤسس لتفجير التحرك الذي تفاعل الناس معه، افتراضيًا وفي الميدان. لتبدو الحركة الناشطة في إطلاق الشعارات والتنظيم، على تفرقها واجتماعها، خارج هذا السياق. وكأن الشارع عاد للناس فجأة، خصوصًا أن وسط البلد، الذي انتزعت منه صفات التلاقي، كمكان أول لأولاد بيروت وسكانها وأهل المناطق، عاد للناس. همومهم ومطالبهم أولًا، في مشاهد تتقاطع مع ما يجري في بغداد أيضًا. وهو ما دفع مثقفين كثر إلى ربط التظاهرات القائمة في البلدين بأنهما سواء.
دعم الحراك اللبناني يُحال إلى الصارخين "نريد ثورة"
وأنتج التحرك عددًا من الحملات والمجموعات المتذررة التي تنظم خطابها في صفحة أو "جروب" على فيسبوك أو عبر تطبيق ما، مستفيدة من توسع شعار "#طلعت_ريحتكم". وهو اسم الحراك المدني في بدايته. ويضم ناشطين يظهرون على الإعلام مرارًا، وبدأوا عملهم رفضًا لبقاء ملف النفايات من دون حل في تظاهرة أمام السراي الحكومي. وبعد خروج ما تم تسميتهم بـ"المندسين"، خرجت حملة مضادة أسمت نفسها بـ"الحركة التصحيحية" لحملة "طلعت ريحتكم"، حملت نفس المطالب تقريبًا، ومن بعدها ظهرت حملة "بدنا نحاسب" وتضم هذه الحملة "اتحاد الشباب الديمقراطي" وقطاع الشباب في "الحزب الشيوعي اللبناني" و"حركة الشعب"، ما زالت هذه الحركة موجودة بعدما ظن كثيرون أنها انقرضت، وهي جاءت للمطالبة بإطلاق سراح الموقوفين المعتقلين بسبب التظاهرات، واتهمت حملة "طلعت ريحتكم" أنها تخلت عنهم.
لم تنته ولادة الحملات المختلقة عند هذا الحد، فخرجت حملة "الشعب يريد"، وهي وليدة تحالف بين "المنتدى الاشتراكي" و"الحركة الطلابية الشعبية"، و"حقّي عليي"، و"عدالة اجتماعية نسوية"، "نادي السنديانة الحمرا"، و"النادي العلماني" في "الأميركية". وهذه الحملة أعلنت عن بيان سياسي، طالبت فيه بـ"تصعيد الحراك النضالي والثوري في مواجهة النظام القائم". وهناك مجموعات "حلوا عنا" و"شباب ضد النظام" و"شباب 22 آب"، و"طفح الكيل" (طرابلس)، و"عكار منا مزبلة".
لكن أبرز ما انتجته هذه الحركات، إلى جانب الحيوية في ظهور المجموعات، هو لغة التخوين. فتم نشر صور لأحد المنظمين في حملة "طلعت ريحتكم"، مع سيرة ذاتية مفبركة، متهمينه أنه "يقبض" من واشنطن. وهي تهمة دارجة لبنانيًا. وكذلك تم تخوين مدونين، واتهامهم بأنهم عملاء لدى "حزب الله"، وهذه تهمة قد تدرج هي الأخرى. هذا التخوين متبادل ومستمر، ولم ينته على الرغم من أن الحركات المطلبية تنادت إلى اجتماعات موسعة، يبدو أنها ستفضي إلى تنظيم لوجستي فقط... ودعم الحراك يحال إلى الناس أنفسهم، الصارخين "نريد ثورة". على هؤلاء يعوّل، من دون إغفال الأهمية الكبيرة لمواقع التواصل الاجتماعي في الحشد والتنظيم.