عندما أعلنت أنجيلا ميركل ترشحها لمنصب المستشارية الألمانية للولاية الرابعة على التوالي، كان فوزها بالمنصب مضمونًا. بدت ميركل غير قابلة للهزيمة، في طريقها إلى معادلة رقم هلموت كول القياسي في زعامة البلاد. لكن ذلك كان قبل ثلاثة أسابيع.
خلال أيام، قفزت نسبة تأييد مارتن شولتس في استطلاعات الرأي، حيث أصبح ينافس المستشارة أنجيلا ميركل كتفًا بكتف في الانتخابات الرئاسية
منذ ذلك الحين، انضم إلى السباق على نحوٍ غير متوقع شخصية هامشية من الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، يدعى مارتن شولتس، ليقلب السباق الرئاسي رأسًا على عقب. خلال أيام، قفزت نسبة تأييد شولتس في استطلاعات الرأي، حيث أصبح ينافس المستشارة كتفًا بكتف، كما تفوق شولتس على ميركل في المصداقية والقبول. أصبح هناك فجأةً حملة انتخابية حقيقية في ألمانيًا قبل التصويت المقرر في أيلول/سبتمبر المقبل، وأصبح الألمان سعداء بذلك.
اقرأ/ي أيضًا: هجمات يمينية متصاعدة ضد السياسيين في ألمانيا
يستعرض هذا التقرير لبول هوكينوس، الصحافي الأمريكي المقيم في برلين، والمنشور بمجلة فورين بوليسي الأمريكية، خلفية شولتس ونقاط قوته وحظوظه في الفوز بالمنصب.
يعرف المواطن الألماني شولتس، الرجل الأصلع ذا اللحية البالغ من العمر 62 عامًا، على الأغلب من ظهوره على التلفاز أثناء مناقشات البرلمان الأوروبي حيث كان مشواره المهني، على نحوٍ غير معهود لسياسيٍ ألماني. في الواقع يشير هوكينوس إلى أن سيرته السياسية بالكامل غير معهودة: وُلد شولتس لعائلةٍ كاثوليكية من الطبقة العاملة، حيث كان الابن الأصغر من بين خمسة أبناء، في قرية ڨورسلن الصغيرة، والتي تقع على بعد بضعة كيلومترات من الحدود الهولندية والبلجيكية. ترك شولتس الدراسة بإحدى المدارس الثانوية المرموقة لكي يصبح لاعب كرة قدم محترف، لكن آماله تحطمت عندما تعرض لإصابةٍ في الركبة، حينذاك اتجه شولتس آنذاك إلى إدارة متجر كتب مع شقيقته في مسقط رأسيهما. سيطرت إخفاقات شولتس وهواجسه على حياته لتخرجها عن مسارها.
لكن مارتن شولتس نهض مجددًا، ليرشح نفسه لمنصب عمدة القرية (وهو منصب تطوعي كان هو المرشح الوحيد له) كديمقراطي اجتماعي، وخدم في ذلك المنصب لعقد قبل أن يفوز بمقعد بالبرلمان الأوروبي عام 1994. وجد فرع راينلاند للحزب الديمقراطي الاجتماعي في شولتس شيئًا مميزة، ليقرر نقله من ڨورسلن ووضعه على مسرح بروكسل. كان شولتس شخصًا محبوبًا ومراوغًا واجتماعيًا لديه نزعة إلى خوض المعارك السياسية، كما كان يستطيع الحديث بطلاقة بعدة لغات.
في بروكسل، ارتقى شولتس سريعًا ليقود الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في البداية، ثم كامل الكتلة الاشتراكية بالبرلمان الأوروبي. في ذلك الوقت، لم يكن للبرلمان الأوروبي الكثير من السلطات حتى أن النقاد كانوا يتهكمون عليه بوصفه تجمعٌ نقاشي مبالغٌ به، ما جعل شولتس يظل شخصًا غير معروف على نطاقٍ واسع، وهو ما ساهم شولتس في تغييره لاحقًا. عام 2014، قاد شولتس الديمقراطيين الاجتماعيين بالاتحاد الأوروبي إلى المركز الثاني في الانتخابات، ليصبح رئيسًا للبرلمان الأوروبي.
كان رحيل شولتس المفاجئ من بروكسل متجهًا إلى المجال السياسي الألماني مذهلًا، لأن الحزب الديمقراطي الاجتماعي كان لديه مرشحٌ بالفعل. كان زيجمار جابرييل هو مرشح الحزب لمنصب المستشارية، لكن في عهد وزير الاقتصاد ونائب المستشارة الألمانية في ائتلاف الديمقراطيين الاجتماعيين والمسيحيين الذي تقوده ميركل انخفضت نسبة تأييد الحزب من سيئ إلى أسوأ، من 26% في انتخابات عام 2013 إلى حوالي 20% في استطلاعات الرأي أوائل العام الجاري، رغم ازدهار الاقتصاد وانخفاض البطالة إلى مستوياتٍ قياسية.
أدرك جابرييل أنه ليس لديه فرصة، حيث كان السبب الرئيسي لسقوطه هو التعارض بين دوره كزعيمٍ للحزب الديمقراطي الاجتماعي وفي ذات الوقت وزير الاقتصاد في حكومة ميركل. لم يستطع جابرييل أن يدافع عن الحكومة وأصحاب الأعمال وفي نفس الوقت يتحدث باسم العمال والنقابات والفقراء.
لم يكن أفول جابرييل مفاجئًا، لكن الظهور المفاجئ لشولتس في برلين والتغير السريع لحظوظ الحزب الديمقراطي الاجتماعي جعل المراقبين يعانون في البحث عن تفسيرات لما جرى وتوقع ما قد يجري لاحقًا. في النهاية، ورغم انخفاض شعبيتها بسبب أزمة اللاجئين، كان نجاح ميركل لا يزال مؤكدًا، طالما لم يكن هناك مرشحٌ محتمل آخر. ثم، على نحوٍ مفاجئ تمامًا، أصبح هناك أحدهم.
فيما يتعلق بالشخصية، يعتبر شولتس "نقيض ميركل" من جوانب عدة. يتسم شولتس بأنه استعراضي، ثرثار، لا يخفي مشاعره، بسيط، ومتعاطف؛ أي كل ما لا تتسم ميركل به. علاوةً على ذلك، والأكثر وضوحًا لكنه ليس أقل أهمية، هو رجل، من ألمانيا الغربية، ورياضي سابق، وأب لطفلين. وهناك بعض الشعبوية في مارتن شولتس من ڨورسلن أيضًا، حيث يمكنه تبادل الحديث مع المواطن البسيط، والاستماع بعناية. حتى أن اسمه أيضًا متواضع: هناك الآلاف من مارتن شولتس في ألمانيا، حيث يعد شولتس أحد أكثر أسماء العائلة انتشارًا.
رغم انخفاض شعبيتها بسبب أزمة اللاجئين، كان نجاح ميركل مؤكدًا، طالما لم يكن هناك مرشحٌ محتمل آخر. ثم، على نحوٍ مفاجئ، أصبح هناك أحدهم
علاوةً على ذلك، وفي تناقضٍ واضح مع ميركل شديدة الحذر، يتحدث شولتس عما يدور في رأسه بصراحة، دون إعدادٍ مسبق عادةً. كان رد فعل المستشارة الألمانية الصبور والمنضبط على انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة معبرًا عنها تمامًا، حيث اتخذ حديثها القاسي صيغة تذكير ترامب بمحتوى اتفاقيات جنيف المتعلق بحقوق الإنسان. لجأ شولتس، في المقابل، إلى نهجٍ أكثر مباشرةً من البداية، واصفًا ترامب بأنه "رجلٌ غير مسؤول" و"تهديدٌ للديمقراطية". "لا يشكل ترامب مشكلةً للاتحاد الأوروبي فقط"، قال شولتس، "ولكن للعالم أجمع".
اقرأ/ي أيضًا: خطة أنجيلا ميركل ضد المتنمرين مثل ترامب
كما تعد طاقة شولتس إحدى نقاط قوته التي تميزه عن ميركل، حيث يصفه أحد المراقبين بأنه "أدرينالين نقي مقارنةً بميركل". عقب استقالة جابرييل مباشرةً من منصبه، صعد شولتس على المسرح حيث بدا مبتهجًا باحتمالية هزيمة ميركل والوصول إلى المستشارية، كما لو كان قد انتظر تلك الفرصة طوال حياته. منذ ذلك الحين، يجوب شولتس البلاد دون توقف ليقابل المواطنين العاديين ويسمع قصصهم.
بدت ميركل، على النقيض من ذلك، مرهقة وخاملة عندما أعلنت ترشحها. في الواقع فقد انتظرت حتى وقتٍ قريب لإعلان ترشحها لأنها، حسب مطلعين، كانت مترددة في الترشح مجددًا، حيث أنهكها تحول الكثير من حلفائها ضدها على خلفية أزمة الهجرة، وكان للصراع مع الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري على وجه التحديد أثر كبير عليها.
كان من الواضح أن ميركل مستعدة لتسليم الراية إلى من يخلفها، لكن لم يكن هناك خليفةٌ واضح في الحزب كي يتسلمها، حيث كانت قد قضت على جميع منافسيها داخله. علاوةً على ذلك، أقنعت صدمة البريكسيت ورئاسة ترامب ميركل بأنه ما زال هناك حاجة إليها في أوروبا في هذا الوقت العصيب. يراهن الاتحاد الديمقراطي المسيحي على ذلك أيضًا، وهو أنه في مثل تلك الأوقات المتقلبة، يريد الألمان يدًا ثابتة على الدفة، وقد أثبتت ميركل كونها كذلك. لكن الآن يبدو أن الحزب، بدلًا من إيجاد جمهورٍ انتخابي يبحث عن الاستقرار، قد استخف بمدى الكلل من ميركل، حيث يكافح الآن لتحجيم شولتس.
تنبع حملة شولتس مباشرةً من مبادئ الحزب الديمقراطي الاجتماعي: الرواتب، رواتب التقاعد، الرفاه، الضرائب التصاعدية، العدالة الاجتماعية. إنها نقاط القوة التقليدية للحزب، والتي فشل في استغلالها منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، عندما أشرف المستشار الألماني المنتمي إلى الحزب آنذاك، جيرهارد شرودر، على تمرير إصلاحاتٍ واسعة قلصت حقوق العمال وخفضت الضرائب على الأثرياء. ورغم أن مؤيدي إصلاحات شرورد، ومنهم جابرييل، يدعون أنها مسؤولة إلى حدٍ كبير عن الانتعاش الكبير للاقتصاد الألماني منذ ذلك الحين، إلا أن آخرين يقولون إن تأثيرها الوحيد كان عزل الحزب الديمقراطي الاجتماعي عن ناخبيه من الطبقة العاملة. لم يتعاف الحزب منذ ذلك الحين، حيث يأمل الآن أن ينجح شولتس، الذي ليس له علاقة بتلك الإصلاحات، في استعادة ناخبي الحزب الذين لا يصوتون أو لجؤوا إلى أحزابٍ أخرى مجددًا.
إنها أيضًا القضايا التي على شولتس إثبات أنه يعلم بشأنها ويهتم بها، حيث لم يقدم شولتس أي شيء للمواطن البسيط طوال مدة عمله في فقاعة بروكسل المعزولة. لدى شولتس مؤهلاتٌ ممتازة كرجل دولة، لكن هل يستطيع الفوز بالانتخابات وتنفيذ سياسات والتغلب على السياسيين الألمان المخضرمين؟
ابتعد شولتس حتى الآن، وربما سيستمر في المستقبل، بقدر الإمكان عن القضايا الساخنة المتعلقة بالهجرة واللاجئين. يقف شولتس في صف ميركل، لكنه يدرك أنه ليس هناك ما يجنيه في ذلك النطاق، حيث يرى العديد من ناخبي الحزب الديمقراطي الاجتماعي ذوي الياقات الزرقاء المهاجرين تهديدًا لرفاهتهم، حتى أن جزءًا منهم انسلخ إلى حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف. يؤدي شولتس خدمة هائلة، وإن كانت غير متعمدة، لميركل بإبعاد النقاش عن موضوعات اليمين مثل الأمن والاندماج والجريمة والإرهاب والحدود واللاجئين، والتي أضرت شعبيتها بشدة. تخدم حملة ترتكز على تلك الموضوعات حزب البديل من أجل ألمانيا، لكن شولتس لا يستطيع تجاهلها إلى الأبد، وربما تنخفض نسبة تأييده عندما يدلي بدلوه في النهاية.
لدى كلاوز لنزنمياير من مؤسسة هاينريش بول، وهو مركز أبحاث للخضر، رأيين بشأن شولتس، والذي راقبه عن كثب في بروكسل. "إنه ليس القديس مارتن، وإنما شخصية حذرة تفهم السلطة ولا تخجل من التنافس للحصول عليها"، قال لنزنمياير، "لكنني أسأل نفسي: ما الذي أنجزه شولتس على الإطلاق؟". يعترف لنزنمياير بأن شولتس منح البرلمان الأوروبي سلطةً تشريعية حقيقية، وهو ما عزز أهميته وجعله أكثر من مجرد تجمع نقاشي، "لكنه ليس لديه الكثير من الإنجازات لا في ڨورسلن أو بروكسل. ثم رحل عن بروكسل في العام الماضي، ما تسبب في تفكك الائتلاف الكبير في البرلمان الأوروبي والآن حل محله رئيسٌ شديد المحافظة للبرلمان. لقد خسر اليسار كل شيء".
تعد طاقة مارتن شولتس إحدى نقاط قوته التي تميزه عن ميركل، حيث يصفه أحد المراقبين بأنه "أدرينالين نقي مقارنةً بميركل"
لا تركز حملة شولتس على مهاجمة ميركل مباشرةً. "إن ذلك هو ما يفعله اليمين المتطرف"، يقول ستيفان راينيكي، الصحفي الألماني. ويتابع: "يقول شولتس إنه يرغب في القيام بالأشياء بشكلٍ مختلف، لكن ليس مختلفًا تمامًا. الناخبون الألمان محافظون ورغم أن ميركل لم تعد وجهًا جديدًا إلا أن أغلب الألمان يثقون بها". يقول راينيكي إن استراتيجية شولتس هي استعادة ناخبي الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وهي الخطة التي يعيبها أن الاقتصاد في وضعٍ جيد ونسب البطالة في أقل معدلاتها.
علاوةً على ذلك، قد ينتهي الأمر بتعاون شولتس وميركل بقوة في المستشارية. تشير جميع الدلائل إلى تجدد الائتلاف الكبير بين الحزبين الكبيرين. بينما يدعي شولتس والديمقراطيون الاجتماعيون أنهم يفضلون ائتلافًا يساريًا يضم الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر وحزب دي لينك (اليسار)، إلا أن الأحزاب الثلاثة لن تستطيع على الأغلب الحصول على أغلبية. سوف يكون الرهان الأفضل للديمقراطيين المسيحيين هو الحزب الديمقراطي الاجتماعي، مجددًا. في الواقع فإن ائتلافًا كبيرًا آخر بقيادة ميركل وشولتس يرجح أن يحقق نجاحًا. ورغم أن شولتس هو نقيض ميركل فيما يتعلق بالمزاج والسلوك إلا أنه لا يبتعد كثيرًا عن ميركل الوسطية بشأن السياسات. فيما يتعلق بإصلاح الاتحاد الأوروبي، سياسات منطقة اليورو، العلاقات مع روسيا، صعود اليمين المتطرف، البيئة، والعلاقة عبر الأطلنطي، لا يبدو أن هناك الكثير الذي يفصل بين ميركل ونقيضها. قد يتعادل الاثنان ويكملان أحدهما الآخر، لجعل ولاية ميركل الرابعة، والأخيرة، هي الأكثر إنتاجية حتى الآن.
اقرأ/ي أيضًا: