27-أغسطس-2023
مقطع من لوحة لـ عبد اللطيف الصمودي/ سوريا

مقطع من لوحة لـ عبد اللطيف الصمودي/ سوريا

اتصلت بي أسيل وطلبت مني القدوم بسرعة، أغلقتْ الهاتف دون أدنى تلميح، فكانت السيناريوهات التي تخيلتها عشوائية ومتناقضة إلى حدٍ كبير. ركبتُ السيارة وقطعت شارعين لأصل إلى شقتها، الحرارة لا تطاق في دبي ويستحيل أن أخطو أكثر من خطوتين على رصيفٍ في شهر يوليو. 

في المرة الأخيرة التي استعجلتني للحضور كانت قد حلت بها مصيبة، ولو أصابها ما أصابني لسمَّمت زيدًا بالزرنيخ ضمن برنامج مستدام، أغالي لكن والله لأدُقّن عظامه دقًا.   

المخبولة الجميلة ما صدقت إلا ما أصابها، انبرى لساني من قول "زيد ساااااافل"، ولا يليق بها. حاججتني بأني لم أطقه من أول نظرة، وإطلاق الأحكام كصب الإسمنت بين الأشخاص، أما مواقفي الفيمينيست فقد زادت عن حدها مؤخرًا. أجل، لله دَرُّها من فصيحة، إذ تكفيني نظرة واحدة لأسلخه؛ سافل / غير سافل وانتهى.

دخلت الشقة، الشموع كالعادة متوهجة، رائحة زيت اللافندر تخنق الأنفاس، موسيقى الجاز تنقر على أوتار الأعصاب، سحبتني إلى طرف النافذة، وطلبت مني النظر إلى الشارع المقابل وألا أحرك الستائر. 

كان زيدٌ بلحمه وشحمه يجلس في سيارته، ثم أرتني 11 مكالمة فائتة على هاتفها المحمول باسم Ignore- تجاهلي، وعلى الواتساب 19 رسالة يرجوها أن تتحدث معه وجهًا إلى وجه. قلق أسيل أصابني بالغضب، أرسلتُ له رسالة تفيد بأني سأنزل وأفتعل فضيحة إن لم يغادر الآن. 

جلست أسيل على الأريكة الزرقاء، مالت برأسها قليلًا، فبدت بثوبها الأبيض مثل بجعة حزينة تهرب من لُجّة الذكريات الذي يفرضه لاوعيها قسرًا عليها. انضممتُ إليها وعيناي على شاشة المحمول بانتظار أي رسالة من زيد.

نبهتها ألا ترد على اتصالاته وألا تفتح رسائله، وإياها والحظر، بل الاستمرار على نهج "غير موجود". عيناي تدوران وتعودان إلى الهاتف الذي لم يعط أي إشعار، قرأ زيد الرسالة ولم يرد.   

رنّ جرس المنزل، أشرت لها بالجلوس وفتحت الباب، ناولني شاب التوصيل باقة ورد أنيقة، نظرتُ إلى أسيل مستغربة فهذه شيم تقع خارج رادارات زيد. وجدت البطاقة وقرأتها، كانت دعوة من خوسيه لأسيل إلى العشاء.    

أمرٌ لا يدعو للتعليق فأسيل لافتة ولامعة، ومديرة العلاقات العامة في مجموعة الشراع للأعمال، وهي أصول تجارية تعود لرجل أعمال سوري. تتلقى الدعوات والهدايا من حين إلى آخر، متصالحة مع أنوثتها وشخصيتها، وقد أشعت على نحو خاص بعد ما تعافت من خيانة زيد، وتجاوزت رحلة مريرة من الألم والخذلان، طهّرت فيها ظلال غاباتها الداخلية بالأنوار. 

"ما رح تقبلي دعوة خوسيه" سألتها من باب الثرثرة، لم تجب. يطلُّ من حناياها الخوف، الخوف يموّه وجه الحقائق، يغلف رغبات القلب بحجاب، يرتدي عشرات الأقنعة، يدّعي أنه يحبك وينتشر في كل خلاياك.

"يلي حكى أنو بيدخل الإسلام مشان بنت بيحبها، بيستحق تقبلي دعوته عالعشا"، ابتسمتْ أسيل "ما عم صدق شو عم تحكي". توجد حقائق لا نستطيع نكرانها، فبعض المواقف تجتاح جميع النساء على اختلافهن. وهذا ما حدث مع يوكيفون، امرأة أحبها أميرٌ ياباني، لكنها هربت مع عشيقها، فذهب الأمير إلى أقاصي الأرض يبحث عنها، وجدها وخطفها إلى بيت في أعماق الغابة، البسالة التي أبداها الأمير اجتاحت جوارح يوكيفون. 

كان زيدٌ محامي مجموعة الشراع للأعمال، وهو من دفع بيديه خوسيه إلى الشراع. جَهَدَ لاستبدال شركة إنشور العالمية للتأمين بشركة الساوث، اتضح فيما بعد أن أخاه مصطفى يعمل فيها مدير المالية. وخوسيه بصفته مدير مبيعات إنشور أبرم مع إدارة الشراع صفقات وعقود تأمينية عديدة. زار خوسيه المقر الرئيسي للمجموعة في أكثر من مناسبة، وهناك تعرَّف إلى أسيل.

رأيت زيدًا يخرج من سيارته، ودعتها على الفور وخرجت. أوقفته عند مدخل البناء، وطلبت منه أن يعود أدراجه إلى زوجته. قال لي وكأن أمره يهم أحدًا بأنهما سيتطلقان ولا يزال يحب أسيل. أخبرته بصوتٍ حاد "لو بتحبها ما بتتركها فجأة وبتتجوز حضرة المديرة العامة"، ثم أخفضت نبرة صوتي وأضفت بتعالٍ "وأنو أنت طول الوقت سكران، ومرتك لاقطتك عم تخونها مطروشة بكل مجموعة الشراع".   

في عطلة نهاية الأسبوع قررنا أن نقضي نهارنا في دبي مول، وأن نشاهد فيلم "بيت الأرواح" في شقتها مساءً. رأيتها تنزل من المدخل وتتجه إلى سيارتي. قطع زيدٌ طريقها، هممت بالخروج لكن هدوءها أوقفني، حدقت بهما دون أن أرمش حتى لا تفوتني فائتة، كلمتان تفوهت بهما أسيل ثم اتجهت نحوي بثقة العارف المنطلق. ركب زيد سيارته، صفق الباب وانطلق بسرعة. 

دخلنا المول وصعدنا إلى الطابق الثاني، تجولنا لاهيتين بواجهات المتاجر، خرج بعض الشبان من قهوة "المينت" فوجدت صديقتي فجأة على بعد خطوات تصافح أحدهم. شدتني نظراته الوسيمة وابتسامته اللطيفة لها، كما اِلتقطتُ توترها. دار بينهما حديثٌ قصير، وما إن ودَّعته حتى سألتها عنه، أومأتْ لأصمت. بعد لحظات أجابت بأنه خوسيه، أطلقتُ ضحكة مخنوقة من هول المفاجأة، فنهرتني "ولك هلأ بيسمع، اسكتي".

مساءً، وبينما كنّا نحضّر بعض الأطباق الخفيفة لفيلم السهرة نكزتها "بتعرفي أنو اليوم لو ما وقفك زيد بالشارع وتأخرنا هالخمس دقايق ما كنت التقيت بخوسيه، بالمول يلي الناس فيه بتضيع مو بتلتقي". مع بداية الفيلم جاءت رسالة إلى هاتفها، رفعته نحوي وفي عينيها إشراق، كتب لها خوسيه بأن دعوته إلى العشاء لا تزال مفتوحة. 

رأيتُ كيف أشعلتُ فتيلَ أسيل بعبارتي الأخيرة، ففي المشهد الذي يضرب بها الإقطاعي ابنته بلانكا بشدة لتعترف بمكان حبيبها الثوري بيدرو، أخذتْ هاتفها إلى الغرفة المجاورة وغابت قليلًا، ثم عادت مبتسمة وأشعلت شمعة جديدة على الطاولة.