شهدت فرنسا، في أواخر حزيران/يونيو ومطلع تموز/يوليو 2024، انتخابات عامة مبكرة في مرحلتين، دعا إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على نحو غير متوقع بعد صدور نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي في أيار/مايو الماضي، وقد أظهرت تقدمًا كبيرًا لقوى اليمين الفرنسي ممثلًا بحزب "التجمع الوطني" المتطرف؛ إذ أسفرت المرحلة الانتخابية الأولى، التي جرت في 30 حزيران/يونيو، عن تقدّم هذا الحزب، وحلفائه، بحصوله على 33 في المئة من الأصوات، متقدمًا على تحالف اليسار (28 في المئة)، وعلى معسكر الرئيس ماكرون أيضًا (20 في المئة).
لكن هذه النتائج تغيرت كليًّا في المرحلة الانتخابية الثانية التي جرت في 7 تموز/يوليو؛ إذ تصدّر تحالف اليسار هذه الانتخابات ممثلًا بـ "الجبهة الشعبية الجديدة"، وذلك بحصوله على 182 مقعدًا، تلاه التحالف الرئاسي "معًا" Ensemble بـ 168 مقعدًا، وجاء التجمع الوطني في المركز الثالث بحصوله على 143 مقعدًا. ولم يستطع أيّ طرف سياسي من الأطراف المذكورة أن يحصل على الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة البالغة 289 مقعدًا؛ ما جعل فرنسا في أزمة سياسية عميقة غير مسبوقة.
أولًا: "مغامرة" ماكرون
بعد الخطوة المفاجئة التي أقدم عليها الرئيس ماكرون، المتمثلة في حلّ الجمعية الوطنية، في إثر صدور نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي سجلت تقدّمًا واضحًا لحزب "التجمع الوطني"، نُظِّمت مرحلتان انتخابيتان للتصويت على مجلس تشريعي جديد خلال فترة قياسية لم تتجاوز عشرين يومًا.
غيرت نتائج الانتخابات العامة كليًّا المشهد السياسي الفرنسي، إذ أضعفت موقف الرئيس الذي خسر أغلبيته النسبية التي كان يملكها في البرلمان السابق، في حين مُنع اليمين المتطرف من تشكيل حكومة
وما زالت خطوة الرئيس التي وضعت فرنسا في صميم أزمة سياسية تُثير الاستغراب في الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية؛ باعتبارها مغامرةً غير محسوبة أوشكت أن تجعل أَمْرَ فرنسا لليمين المتطرف. وقد عارض أغلب مستشاري الرئيس تلك الخطوة، لكنهم لم ينجحوا في تغيير موقفه القائم على نظرة شديدة السلبية إلى السياسيين التقليديين، وهو الذي قدم من الوسط المصرفي، والذي لم يسبق له الانخراط في العمل السياسي الفعلي قبل ترشحه إلى الرئاسة عام 2017. وقال ماكرون إنه أراد أن يلقي "قنبلة بين أقدام الأحزاب السياسية"، ليرى ما ستفعل.
شهدت المرحلة الانتخابية الأولى، التي جرت في 30 حزيران/ يونيو الماضي، إقبالًا ملحوظًا من الناخبين على التصويت. وبلغت نسبة المشاركة، التي تميّزت بالانخفاض خلال الأعوام الأخيرة، 59.39 في المئة من أصحاب حق الاقتراع، في حين سجّلت انتخابات عام 2022 التشريعية نسبة مشاركة لم تبلغ إلّا 39.42 في المئة في مرحلتها الأولى. أما المرحلة الانتخابية الثانية التي جرت في 7 تموز/ يوليو الماضي، فقد بلغت فيها نسبة المقترعين 59.71 في المئة من أصحاب حق الاقتراع، في حين لم تُسجّل المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية عام 2022 إلّا نسبة 38.11 في المئة.
أسفرت نتائج المرحلة الأولى عن تقدّم كبير لحزب التجمع الوطني، وهي أول مرة يحصل فيها هذا الأمر طوال تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية التي أسسها الجنرال شارل ديغول في عام 1958، وحصل هذا الحزب على 33 في المئة من الأصوات، في حين حلّ تحالف اليسار في المرتبة الثانية بـ 28 في المئة من الأصوات، وجاء التحالف الرئاسي في المرتبة الثالثة بـ 20 في المئة من الأصوات.
أحدثت نتائج المرحلة الانتخابية الأولى صدمة في الأوساط السياسية الفرنسية، وعمّت المظاهرات الاحتجاجية أرجاء البلاد رافضةً وصول اليمين المتطرف إلى رئاسة الحكومة؛ إذ جرت العادة أن يُسمّي رئيس الجمهورية رئيسًا للحكومة من الحزب الفائز بالمرتبة الأولى. وفي المقابل، احتفى أعضاء "التجمع الوطني" بالنتائج، وبدؤوا يَعدون أنفسهم بتشكيل الحكومة الجديدة. وقد جاءت نتائج المرحلة الانتخابية الأولى مطابقة لتوقعات مؤسسات استطلاعات الرأي، وخصوصًا بعد تسجيل "التجمع الوطني" المركز الأول في انتخابات البرلمان الأوروبي فرنسيًّا؛ ما جعل خطوة الرئيس في الدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة بالنسبة إلى الكثيرين غير مفهومة.
ثانيًا: "سد" أمام اليمين المتطرف
سرعان ما دعت الجبهة الشعبية الجديدة، إلى جانب بعض ممثلي الأحزاب الأخرى؛ من ماكرونيين، ويمينيين معتدلين، ووسطيين، إلى تأسيس "جبهة جمهورية" للحيلولة دون وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، في تكرار لسيناريو انتخابات 2002 الرئاسية والتشريعية؛ إذ أدت المرحلة الأولى في ذلك الوقت إلى خروج المرشح الاشتراكي من التنافس الرئاسي الذي انحصر بين مرشح اليمين الديغولي، جاك شيراك، ومرشح "الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة، وهي النسخة القديمة لحزب التجمع الوطني، التي كان يرأسها جان ماري لوبان، والد زعيمة التجمع الوطني الحالية مارين لوبان. وقد دعت القوى السياسية حينئذ إلى اعتماد سياسة "السد" التي تقوم على حثّ الناخبين على المشاركة في التصويت لمنع مرشح ما من الوصول إلى البرلمان، وليس التصويت لإيصال مرشح ما.
بناءً عليه، أعلن تآلف أحزاب اليسار أنه سيسحب مرشحيه من كل الدوائر التي حصلوا فيها على المرتبة الثالثة، وسيضمّ أصوات ناخبيهم إلى أصوات بقية القوى السياسية التي حصلت على المرتبة الثانية من غير اليمين المتطرف؛ لمنع مرشحيه من الفوز في الدوائر التي حلّوا فيها أولًا. وينص القانون الانتخابي الفرنسي على أن يبقى في المرحلة الثانية كل من حصل على 12.5 في المئة من الأصوات في الدوائر التي لم تُحسم نتيجتها في المرحلة الانتخابية الأولى. وبلغ عدد هذه الدوائر 505 من أصل 577 دائرة، في حين حُسم التنافس في 72 دائرة من المرحلة الأولى، وقد حصل منها التجمع الوطني على 39 مقعدًا، والجبهة الشعبية الجديدة على 31 مقعدًا، ومعسكر ماكرون على مقعدين. والتزم اليسار بموقفه المتمثل في الانسحاب لمصلحة بقية الأحزاب في أغلب الدوائر التي حلّ فيها ثالثًا، في حين استجاب الآخرون، ومنهم حزب ماكرون، لهذا التوجه على نحو جزئي. وقد منعت الانسحابات المنسقة لمرشحين من اليسار ويمين الوسط تشتيت الأصوات المعارضة لليمين المتطرف، ومن ثمّ تركيزها في دعم مرشحين لديهم فرصة لإلحاق هزيمة بمرشحي اليمين المتطرف.
ثالثًا: هل خسر اليمين المتطرف؟
بحسب نتائج المرحلة الثانية من الانتخابات، حلّ حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في المرتبة الثالثة، بعد تحالف اليسار والتحالف الرئاسي ضده (ينظر الجدول 2). ومقارنةً بنتائجه في المرحلة الأولى، عَدّ الكثيرون ذلك هزيمةً كبيرة للحزب. لكن التجمع الوطني وإن فشل في استثمار نجاحه في المرحلة الأولى وترجمته إلى مقاعد في المرحلة الثانية، فإنه في واقع الأمر سجّل زيادة كبيرة في عدد نوابه في الجمعية الوطنية، مقارنةً بما كانت عليه الحال في الدورة الانتخابية السابقة عام 2022 من 89 إلى 143 نائبًا. أما على مستوى الأصوات، فقد كانت الزيادة أكبر من ذلك كثيرًا؛ ففي عام 2022، صوت 4 ملايين ناخب للتجمع الوطني، في حين بلغ عدد الذين صوتوا له في الانتخابات الأخيرة 12 مليون ناخب (في المرحلتين الأولى والثانية)؛ أي إن الزيادة بلغت 3 أضعاف.
لقد حصل اليمين المتطرف على تسعة ملايين صوت في المرحلة الثانية، في حين حصلت أحزاب اليسار المجتمعة في الجبهة الشعبية على سبعة ملايين صوت، وحصلت قائمة ماكرون على ستة ملايين وثلاثمئة ألف صوت؛ ما يعني أن اليمين المتطرف حصل على الكتلة الأكبر من أصوات الفرنسيين مقارنةً بالأحزاب الأخرى حتى في المرحلة الثانية.
وقد شهدت السنوات الأخيرة، منذ حصول ماكرون على منصب الرئاسة عام 2017، تسامحًا كبيرًا مع استخدام التعبيرات العنصرية في الخطاب السياسي والثقافي الفرنسي، ولم يعُد إشهار الانتماء إلى الأفكار والمواقف العنصرية، المعادية للأجانب، خصوصًا العرب والمسلمين، محلّ استنكار كما كانت عليه الحال سابقًا؛ إذ نجح المتطرفون اليمينيون في فرض مفرداتهم على الخطاب السياسي الفرنسي، وصار مألوفًا أن تركّز العديد من القوى السياسية، بمختلف انتماءاتها، على ملفات الأمن والهجرة والتوترات العرقية والتهديدات المتخيلة للهوية الوطنية والثقافة الفرنسية، بدلًا من البحث عن حلول للمشكلات الحقيقية التي يواجهها المجتمع الفرنسي، ولا سيما التحديات الاقتصادية وضعف الإنتاجية، وغياب العدالة الاجتماعية، وتدنّي مستوى الخدمات العامة، وتراجع دولة الرفاه الاجتماعي. ومن الجدير بالذكر أنه توجد 45 دعوة قضائية مرفوعة ضد مرشحين من حزب التجمع الوطني بسبب معاداة السامية والعنصرية.
رابعًا: برلمان معلّق
لم يحصل أي حزب، أو تحالف، على الأغلبية المطلقة في البرلمان الجديد؛ ما يعني أنه ليس في إمكان أيّ حزب تشكيل حكومة من دون التحالف مع قوى سياسية أخرى، وهي ممارسة غير معروفة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة. وهذا يعني أن فرنسا دخلت في حالة من عدم الاستقرار السياسي تشبه الحالة التي كانت سائدة في عهد الجمهورية الرابعة؛ إذ كانت الحكومات الائتلافية تتبدل بسرعة لاعتمادها على التوافقات بين الكتل السياسية. وفي إشارة إلى بدء الدخول في مرحلة عدم استقرار حكومي، رفض رئيس الجمهورية استقالة رئيس وزرائه غابرييل أتال، بحسب العادة المتبعة بعد صدور نتائج الانتخابات التشريعية، وخصوصًا مع تراجع الأغلبية الحاكمة إلى المرتبة الثانية، في وقت يُطالب فيه تحالف الجبهة الشعبية الجديدة بأنْ يُسمّي رئيس الجمهورية رئيسًا للوزراء من بين المنتمين إليه لكونه صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر، وهو ما يستبعده قصر الرئاسة.
ويُرجّح أن تشهد الفترة المقبلة إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي من خلال تفكيك تحالفات وإعادة بناء أخرى. وتسعى جميع الأحزاب السياسية لتحقيق أغلبية تسمح لها بتشكيل حكومة. ومع رفض ماكرون لأيّ تحالف مع الجبهة الشعبية الجديدة، التي تقودها حركة "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلانشون، فإنه لا يرفض التحالف مع مكونات منها. وسوف يسعى ماكرون الذي سبق أن نجح من خلال حزبه "النهضة" في إنشاء مكوَّن هجين من الاشتراكيين والديغوليين والوسطيين، وغيرهم من الطموحين، لتفكيك التحالف اليساري واستقطاب الاشتراكيين والخضر فيه؛ ليضيفهم إلى تكتّله السياسي من أجل بناء أغلبية حاكمة. لكنّ غضب حلفائه، وخصوصًا رئيس وزرائه أتال، بسبب حلّه للبرلمان من دون استشارتهم، يدفعهم إلى التمايز عن سياسته بحثًا عن مستقبل مرتبطٍ بالانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2027.
في مقابل ذلك، سوف يسعى تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري إلى جذب أعضاء من التحالف الرئاسي ممن كانوا سابقًا أعضاءً في الحزب الاشتراكي، الذي حقق تقدمًا كبيرًا في الانتخابات، للوصول إلى الأغلبية التي تسمح له بتشكيل حكومة. وهكذا، يبقى اليمينيون المتطرفون، حتى الآن، هم الوحيدين غير القادرين على التحالف مع سواهم.
يُرجّح، مع ضعف موقع الرئيس، أن تستعيد الجمعية الوطنية حيويةً وثقلًا سياسيَّين كانت تحظى بهما قبل أن تبدأ محاولات تهميشها خلال عهد ماكرون
وفي أسوأ الأحوال؛ إذا فشلت محاولات تشكيل أغلبية حكومية، فقد يُضطر الرئيس إلى حلّ الجمعية الوطنية. لكن هذا الأمر لن يحصل بموجب الدستور قبل عام من الوقت الراهن. وإنْ مالَ الرئيس إلى هذا الحل، فسيكون عليه أن يتعايش مع الجمعية الوطنية الحالية عامًا كاملًا مستندًا إلى حكومة تسيير أعمال لا تقوم بأيّ إجراءات جذرية.
خاتمة
في انتظار اتضاح الرؤية لدى جميع الأحزاب، وحَسْم رئيس الجمهورية أمرَ تكليف ممثل عن أحدها لتشكيل الحكومة، يُرجَّح أن تبقى الأمور على حالها حتى انتهاء دورة الألعاب الأولمبية في آب/ أغسطس 2024. وقد أكد رفضُ ماكرون لاستقالة الحكومة القائمة هذا التوجه.
وفي كل الأحوال، غيرت نتائج الانتخابات العامة كليًّا المشهد السياسي الفرنسي؛ إذ أضعفت موقف الرئيس الذي خسر أغلبيته النسبية التي كان يملكها في البرلمان السابق، في حين مُنع اليمين المتطرف من تشكيل حكومة، وكان يمكن أن تكون مثل هذه الخطوة مقدّمة ذات أهمية في التمهيد للفوز بمنصب الرئاسة الفرنسية الذي تصبو إليه زعيمة الحزب مارين لوبان في انتخابات عام 2027، وقد حققت أحزاب اليمين واليسار مكاسب مهمة على حدّ سواء.
ويُرجّح، مع ضعف موقع الرئيس، أن تستعيد الجمعية الوطنية حيويةً وثقلًا سياسيَّين كانت تحظى بهما قبل أن تبدأ محاولات تهميشها خلال عهد ماكرون، وإن كان هذا الأمر سيؤدي أيضًا إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي في غياب أغلبية واضحة قادرة على تشكيل حكومة مستقرة.