تقدّمت حكومة جمهورية جنوب أفريقيا، في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2023، بدعوى قضائية لدى محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، تتهمها فيها بانتهاك التزاماتها بموجب أحكام "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" على أساس المادتين 36/1 و41 من النظام الأساسي للمحكمة، التي تأسست عام 1945، وذلك بعد نحو ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي أسفرت عن نحو 100 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود. وتضمنت مذكرة الدعوى طلبًا للبتّ في التدابير المؤقتة (كإجراء فرعي مُستعجل)، عملًا بأحكام المادة 41 من ذلك النظام.
وبناءً على ذلك، أعلنت المحكمة في 3 كانون الثاني/ يناير 2024 أنها ستعقد جلستين لسماع المُحاجّة الشفهية لفريقَي الادعاء والدفاع يومَي 11 و12 كانون الثاني/ يناير 2024. وفي 12 كانون الثاني/ يناير 2024، أعلنت اختتام جلسات الاستماع لطرفَي الدعوى، وأشارت إلى أن قرارها بشأن ما قُدّم إليها من طلبات مُستعجلة سيصدر في وقت تعلن عنه لاحقًا.
دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية
اعتمدت الدعوى التي قدّمتها جنوب أفريقيا على مذكرة قانونية من 84 صفحة تحتوي على جملة من المعلومات والأدلة التي جُمعت من تقارير للأمم المتحدة، سواء الخاصة بالمقررين الخاصين لدى الأمم المتحدة، أو مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. إضافةً إلى ذلك، اعتمد الفريق على التوثيقات الصحافية الخاصة بالإعلاميين الموجودين داخل قطاع غزة، وغيرها من المصادر ذات الصدقية.
صيغت الدعوى بطريقة تجعل المحكمة محددة الوجهة، لا مجال للمناورة فيها بالتأجيل والتسويف؛ فقد قُدِّمت مجموعة واسعة من الدلائل على ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية
واشتملت الدعوى على مجموعة من النقاط الرئيسة، أبرزها تحديد الأفعال التي تشكّل جريمة الإبادة الجماعية وفق المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وقد ربطت هذه الأفعال بمجموعة من الأدلة المتعددة المصادر. وبموجب المادة السابقة، فإن فعل الإبادة الجماعية يكون موجّهًا ضد جماعة، سواء أكانت قومية أم إثنية أم دينية، وهذا ينطبق على الفلسطينيين في قطاع غزة كونهم جماعة مورست ضدها جرائم بقصد هلاكها جزئيًا. وقد أشارت جنوب أفريقيا في مذكرتها إلى ارتكاب سلطات الاحتلال الإسرائيلي الأنماط الأربعة الأولى في المادة الثانية من الاتفاقية على المدنيين في قطاع غزة خلال عدوانها عليهم.
وفصّلت المذكرة القانونية لاحقًا النية الجُرمية بارتكاب سلطات الاحتلال الإسرائيلي أفعال الإبادة الجماعية عبر الاستشهاد بتصريحات قيادة الاحتلال على ذلك، وتضمينها في ملف المذكرة. وأفردت المذكرة قسمًا كاملًا تؤكد فيه ثبوت القصد الجنائي "النية" بارتكاب فعل الإبادة الجماعية، من خلال حصر تقارير لعدد من منظمات الأمم المتحدة وجهات دولية وتصريحات لمسؤولين فيها تؤكد ارتكاب سلطات الاحتلال الإسرائيلي لجرائم الإبادة الجماعية. وقد أطلقت بعض المنظمات الحقوقية قاعدة بيانات تخضع للتحديث المستمر لحصر التصريحات الخاصة بالدعوة إلى ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني، تحتوي على أكثر من 500 تصريح صادر عن صنّاع قرار وأفراد وضباط في الجيش وبرلمانيين وصحافيين ومؤثرين ومسؤولين حكوميين سابقين في إسرائيل، وتعين هذه التصريحات في إثبات القصد الجنائي "النية"؛ وهو الركن الأصعب إثباته في ما يخص ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
دفعت حكومة جنوب أفريقيا في مذكرتها بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي فشلت في التزاماتها بموجب المواد 1، 3، 4، 5، 6 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي تنص في مجملها على وقف التآمر، أو التحريض، أو التواطؤ، أو عدم المعاقبة على أفعال الإبادة الواقعة في المادة 2 منها. واختتمت دعوى جنوب أفريقيا بمجموعة من الطلبات، تقود في مجملها إلى الحصول على حكم قضائي القصد منه إدانة إسرائيل بمخالفة التزاماتها بموجب الاتفاقية. وإضافة إلى ذلك، طلبت المذكرة الحصول على قرار مستعجل بالتدابير المؤقتة يهدف إلى وقف العنف المستمر نحو المدنيين نتيجة العدوان الإسرائيلي الذي يحمل بين طياته شبهة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، مع التأكيد على اختصاص المحكمة والحقوق واجبة الحماية ومخاطر عدم إنصاف الضحايا.
بناءً عليه، تأخذ الدعوى القضائية مسارين، الأول هو المسار العادي للدعوى لاستصدار حكم قضائي بمخالفة إسرائيل الالتزامات الواقعة عليها بموجب الاتفاقية، وسيستغرق سنوات للبتّ فيه، كما حصل في المحكمة الخاصة بالجرائم التي ارتُكبت في البوسنة والهرسك والتي بدأت عام 1993، وانتهت بحكم إدانة قضائي في عام 2007.
أما المسار الثاني فهو الإجراء المستعجل بالتدابير المؤقتة الساعي لوقف العدوان الحربي وأعمال الإبادة في قطاع غزة، والذي سيشكّل وجهة نظر المحكمة ويحدد مسار عملها في المسار الأول لاحقًا. وهذا جوهر الملف الذي عُرض في المرافعة الشفهية للفريق القانوني لجنوب أفريقيا في 11 كانون الثاني/ يناير 2024.
المرافعة الإسرائيلية أمام محكمة العدل الدولية
استهل فريق الدفاع الإسرائيلي الرد على جنوب أفريقيا في مرافعته الشفهية، باستدعاء الهولوكوست وجرائم الإبادة التي تعرّض لها اليهود في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وفترة حكم النازية، وزعم أن حربه في قطاع غزة هي حرب دفاع عن النفس ضد الهجمات التي شنّتها حركة حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وحاجّ بأن هجماته أتت في إطار قواعد القانون الدولي الإنساني، مبررًا العدد الكبير من الضحايا المدنيين باستخدام حركة حماس للمرافق المدنية بمختلف أشكالها قواعدَ عسكرية. كما دفع الفريق الإسرائيلي بعدم اختصاص المحكمة بالنظر في هذه القضية على أساس المادة 9 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، لأن ذلك يتطلب معارضة إيجابية من الطرف الآخر في القضية، والمقصود بها المخاصمة القائمة في دعوى قانونية قائمة بين خصمين أمام المحكمة يكون أحدهما متضررًا من ممارسة الطرف الآخر عليه بارتكاب فعل أو امتناع، وتكون مصلحته جبر الضرر اللاحق به. إضافةً إلى أن الخطابات التي تستشهد بها جنوب أفريقيا غير موجّهة إليها. وقد حاول مالكوم شو Malcolm Shaw، أحد أعضاء الفريق الإسرائيلي، إنكار اعتبار إسرائيل سلطةَ احتلالٍ من خلال الإشارة إلى أن لإسرائيل الحق في فلسطين، والذي يعود إلى وعد بلفور عام 1917، ومزاعم تاريخية حول دخول قبائل بني إسرائيل إلى أرض فلسطين قبل حوالى 3500 عام. وأشار فريق الدفاع الإسرائيلي إلى أن الدلائل المقدّمة لا تكفي من أجل الحصول على قرار بالتدابير المؤقتة، لأنها تعتبر أداة معقدة، واستشهد بقضية محكمة العدل الدولية في البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، والتي طلبت أن تكون الأدلة فيها قاطعة تمامًا، وتدل على ارتكابها على نحو واضح.
استجابة محكمة العدل الدولية
نظرًا إلى المدة التي تستغرقها المحكمة عادةً للبتّ في التدابير المؤقتة، يبرز هنا تحديان: الأول يتمثل في طبيعة الطلب الذي قدّمته جنوب أفريقيا واحتوائه على طلب مستعجل، والثاني يتعلق بالتشكيل القضائي الخاص بهيئة المحكمة، حيث إن طلب التدابير المؤقتة بطبيعته المستعجلة يدفع هيئة المحكمة إلى الإسراع للبتّ فيه وفقًا للمعلومات المقدّمة وخطورتها على المدنيين في حالة الإبادة الجماعية، إضافةً إلى الرغبة في عدم فقدان الأدلة على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، والمساهمة في وقفها. وفي هذا النوع من الطلبات المتصلة باتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، تعاملت المحكمة في السنوات الأخيرة مع قضيتين: الأولى قضية غامبيا ضد ميانمار بشأن جرائم الإبادة ضد الروهينغا، والثانية قضية أوكرانيا ضد روسيا. وقد أخذت المحكمة في الأولى 72 يومًا للبت في قرارها المستعجل، و19 يومًا في القضية الثانية.
وفي ضوء حجم الدلائل المُوثّقة لفعل الإبادة الجماعية التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا في دعواها، فإنه لا يُتوقع أن تأخذ المحكمة وقتًا طويلًا لاتخاذ قرار بشأن التدابير المؤقتة في المسار الطبيعي للمتوافر من دلائل، ولكنّ هذا الأمر يصطدم بإعادة تشكيل هيئة المحكمة نتيجة انتهاء ولاية خمسة من قضاتها في 6 شباط/ فبراير 2024، وما يتبعه من انضمام القضاة الخمسة الجدد.
بناءً عليه، يرجّح البعض أن يجري استصدار حكم قضائي مستعجل بالتدابير المؤقتة في المحكمة أواخر شباط/ فبراير 2024 أو بعد ذلك؛ أي بعد أن يتم التشكيل القضائي الجديد للمحكمة وتستقر هيئتها وتأخذ وقتها في قراءة الملفات المقدّمة والاجتماع من أجل المداولات وصياغة القرار، إلى جانب المهمات المجدولة للمحكمة سابقًا. ويدعم هذا الاستنتاج أن المحكمة حددت تاريخ جلسات الاستماع في فتوى فلسطين حول "التبعات القانونية الناشئة عن سياسات وممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية" في 19 شباط/ فبراير 2024، أي بعد تاريخ انضمام القضاة الجدد إلى هيئة المحكمة.
اعتمدت الدعوى التي قدّمتها جنوب أفريقيا على مذكرة قانونية من 84 صفحة تحتوي على جملة من المعلومات والأدلة التي جُمعت من تقارير للأمم المتحدة
وإضافة إلى ذلك، لم يكن عدد الدول الداعمة لملف جنوب أفريقيا أمام المحكمة في المستوى المأمول. وعلى الرغم من أن البعض ما زال يرجو أن يصدر القرار المستعجل بالتدابير المؤقتة قبل 6 شباط/ فبراير 2024، فإن القرارين السابقين اللذين اتُّخذ فيهما حكمًا مستعجلًا بالتدابير المؤقتة في البوسنة وأوكرانيا عن جرائم الإبادة الجماعية لم يحصلا في الفترة الانتقالية لتجديد قضاة المحكمة، إلى جانب أن القرار الذي سيصدر بالتدابير المؤقتة سيرسم مسار المحكمة للدعوى القضائية كلها.
وبخصوص طبيعة الحكم الذي ستقدّمه المحكمة مستقبلًا في طلب التدابير المؤقتة بخصوص جرائم الإبادة الجماعية المرتكبة في قطاع غزة، فالأرجح ألّا تخرج المحكمة عن التدابير المؤقتة في التصدي لجرائم الإبادة الجماعية في ميانمار وأوكرانيا، بل ستفصل لجنوب أفريقيا في طلباتها بناءً على ما جرى تقديمه من أدلة.
وهذا الترجيح مردّه أيضًا خبرة فريق التمثيل القانوني لدولة جنوب أفريقيا وحصافته في صياغة طلباتهم وتقديمها بتضمينها طلب التدابير المؤقتة، وليس الفصل في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فحسب، حيث لا تحتاج المحكمة هنا إلى أن تُثبت على نحو قاطع أن الفلسطينيين معرّضون لخطر الإبادة الجماعية، أو أنهم يتعرّضون لأعمال إبادة جماعية، أو أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، بل يكفي أن تمارس دولة جنوب أفريقيا مهماتها بالالتزام بمنع الإبادة الجماعية، أو حقها في طلب امتثال دولة عضو (إسرائيل) لالتزاماتها بموجب الاتفاقية بعدم ارتكاب الإبادة الجماعية، ومنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها والأفعال المحظورة ذات الصلة بموجب الاتفاقية. لهذا، صيغت المذكرة بطريقة تركّز في هذه المرحلة على إثبات أن الأفعال الإسرائيلية "يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتفاقية"، وهذا يعني أنه بدلًا من إثبات حالة الإبادة الجماعية برمّتها، يكفي أن تُثبت جنوب أفريقيا أن الوضع الحالي يمكن أن يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، ما يجعل في النهاية عبء الإثبات أكثر سهولة. ولو كان الطلب قائمًا على الفصل في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية فحسب، من دون ربطه بطلب مستعجل بالتدابير المؤقتة، فإن هذا سوف يحتاج سنوات من التحقيق وجمع البيانات لإثباته، ما يعطي إسرائيل الوقت الكافي للاستمرار في التنكيل بالمدنيين الفلسطينيين في حربها على غزة.
لقد قدّم الفريق القانوني لإسرائيل مرافعة قانونية ضعيفة، فيها ثغرات عديدة، منها كما بيّنا سابقًا محاجّته بعدم احتلال فلسطين، بما فيها قطاع غزة، والاستناد إلى وعد بلفور عام 1917، ومزاعم "الحق التاريخي" لليهود في فلسطين. وفي هذا الإطار، نجد أن محكمة العدل الدولية قد سبق لها تصدير رأي استشاري (فتوى) عام 2004 حول قضية الجدار العازل، أكدت فيها أن إسرائيل سلطة احتلالٍ عسكري في قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
وفي إطار الادعاء بتطبيق القانون الدولي الإنساني خلال العملية العسكرية، نجد أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تتبع منظورًا مشوّهًا للقانون الدولي الإنساني تحاول من خلاله تبرير سلوكها الإجرامي، الذي لا يُمكن أن يُفهم خارج إطار سياساتها الاستعمارية. كما أن المحاجّة بمسألة انعدام المعارضة الإيجابية في حالة جنوب أفريقيا غير دقيق وغير منطقي، لأن الخصومة ليست قائمة على أساس طرفين متنازعين، إنما سبب وجودها هو مسألة حماية أحكام الاتفاقية من طرف كل الدول الموقّعة عليها، وقد سبق للمحكمة ممارسة اختصاصها على هذا الأساس في سابقة قضائية جرى خلالها النظر في دعوى غامبيا ضد ميانمار بشأن الإبادة في حق الروهينغا، حيث لم يكن هناك صدام مباشر بين غامبيا وميانمار يدفع إلى المحاجّة بالمعارضة الإيجابية.
وفوق ذلك، تعدّ الأدلة المقدّمة أمام المحكمة أدلة قوية وموثوقة لإصدار قرار من هيئتها بخلاف الادعاءات الإسرائيلية، واستشهاد الفريق الإسرائيلي بردّ المحكمة حول عدم قطعية الأدلة في قضية البوسنة والهرسك التي تعود إلى عام 1992، حيث لم تكن عمليات التوثيق قوية وشاملة من أجل دفع المحكمة إلى إصدار حكم قضائي بالإدانة في جريمة الإبادة الجماعية التي تعتبر أمّ الجرائم، في حين أن التقارير الصادرة عن مؤسسات الأمم المتحدة ومؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية بشأن الحرب على قطاع غزة، ذات صدقية وتعتمد على التوثيق الحقيقي للأحداث الجارية. ودليل اعتماد هذه المصادر أمام المحاكم الدولية هو أعمال المحكمة الجنائية الدولية، وتضمينها هذه المصادر في تقاريرها وأعمالها. إضافةً إلى ما سبق، فإن التوثيقات الصحافية المرئية التي بثّتها الصحافة ورآها كل المهتمين على الهواء مباشرة في الدعوة إلى ارتكاب أفعال الإبادة، أو التوعد، أو التحريض بارتكابها، أو تصوير ارتكاب أفعال الإبادة الجماعية، تعكس حقيقة السلوك الإسرائيلي بارتكاب، أو نية ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.
بناءً على ما سبق، يرجّح أن تحكم هيئة محكمة العدل الدولية، بعد اكتمال التشكيل القضائي الجديد، نهاية شباط/ فبراير القادم أو بعد ذلك بقليل، لجنوب أفريقيا في طلباتها بالتدابير المؤقتة من أجل وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من خلال الرجحان الظاهري والواقعي للحجج القانونية التي قدّمتها على الحجج المُضادة التي قدّمها الجانب الإسرائيلي. ولا يُتوقع خروج المحكمة عن المتوقع بالحكم بالتدابير المؤقتة تجاه جرائم الإبادة الجماعية، ولا سيما الطلب بوقف العملية العسكرية، وضمان الحفاظ على الأدلة، وتوفير الغذاء والدواء للمدنيين، لأن الخطأ في ذلك سوف يرتّب آثارًا لا يمكن إصلاحها بأثر رجعي، أو التعويض عنها.
احتمالات التزام إسرائيل بالقرار المتوقع صدوره بالإدانة مع اتخاذ التدابير المؤقتة
يُعد قرار محكمة العدل الدولية قرارًا ملزمًا لطرفَي القضية (جنوب أفريقيا بوصفها مدّعيًا، وإسرائيل بوصفها مدّعى عليه) تبعًا لأحكام المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، والمادة 9 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، اللتين منحتا قرارات المحكمة الإلزاميةَ في وجه الأطراف. ومع ذلك، قد لا تلتزم إسرائيل، التي اعتادت تجاهل القانون الدولي، بقرار المحكمة؛ إذ قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "إن محكمة العدل الدولية لن تردع إسرائيل عن مواصلة حربها في قطاع غزة حتى تحقيق النصر الكامل". وبالنظر إلى المحددات السابقة، نرى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تُهيّئ نفسها لعدم الالتزام بالقرار الذي سيصدر عن المحكمة مستقبلًا بالتدابير المؤقتة المُستعجلة، بل ستجحده لأنها سوف تجد دعمًا أميركيًا في إدانة قرار المحكمة، مثلما فعلت عندما أكدت المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها بالنظر في جرائم الحرب المحتملة في الأراضي الفلسطينية.
قدّم الفريق القانوني لإسرائيل مرافعة قانونية ضعيفة، فيها ثغرات عديدة، منها محاجّته بعدم احتلال فلسطين، بما فيها قطاع غزة
ومع ذلك، لن يكون من السهل على إسرائيل وداعميها اعتبار القرار كأنه لم يكن في حال صدوره، لأن القرار سيكون صادرًا عن أعلى هيئة قضائية عالمية، وبوجه خاص إذا أقرت المحكمة في التدابير المؤقتة وقف العملية العسكرية، لذا سيُعتبر تجاهل هذا القرار استمرارًا في ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية، وهو ما يخلق حالة من الحرج لداعمي إسرائيل من الأنظمة الغربية أمام شعوبهم والعالم، ويبرّر لروسيا رفضها الالتزام بقرار المحكمة الصادر في آذار/ مارس 2022، بتعليق غزوها المستمر لأوكرانيا، ردًا على طلب أوكرانيا اتخاذ تدابير مؤقتة في قضيتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، وهو الأمر الذي دفع العديد من الدول إلى فرض عقوبات على روسيا.
خاتمة
إن دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن منع جرائم الإبادة الجماعية، تتجه في ضوء محتواها، والمحددات المحيطة بها، والسابقتين القضائيتين (غامبيا ضد ميانمار، وأوكرانيا ضد روسيا)، نحو دفع هيئة المحكمة إلى الحكم لها بطلباتها المستعجلة بالتدابير المؤقتة في وجه إسرائيل، إن لم يكن كلها. ففي الجزء الأهم من هذه الطلبات، التي تضمن وقف العدوان الإسرائيلي على غزة وحماية المدنيين والأدلة على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ما يؤسس لقاعدة صلبة للمحكمة في مسارها القادم في الدعوى القضائية بانتهاك إسرائيل لالتزاماتها بموجب أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
أخيرًا، صيغت الدعوى بطريقة تجعل المحكمة محددة الوجهة، لا مجال للمناورة فيها بالتأجيل والتسويف؛ فقد قُدِّمت مجموعة واسعة من الدلائل على ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية. ويتضمن طلب جنوب أفريقيا من المحكمة الحكم بالتدابير المؤقتة (كإجراء مستعجل) في أول خطوة منه العمل على وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.