لم أكن أعلم أن الجالية العربية في تويتر تطلق على إيلون ماسك اسم "علوان". لم أتنبه لذلك إلا حين أرسلت لي إحدى الزميلات رسالة بتغريدة ماسك التي أعلن فيها قسمته الجديدة "الضيزى" لما يمكن للمستخدمين قراءته من تغريدات خلال اليوم، كلّ بحسب طبيعة حسابه واشتراكه وأقدميّته. وقد جاء في رسالة الزميلة: "علوان يضرب من جديد".
ضغطت على رابط التغريدة، قرأتها، ثم مكثت في المنصّة قليلًا أتابع تغريدات حول الموضوع، وإذ باسم "علوان" يظهر بين كل تغريدة وأخرى، وكأن هذا الاسم قد صار مقروءًا لعيني فجأة، أو أنّ الاستياء من الرجل ومنصّته قد بلغ حدّ "بلحنة" اسمه على سبيل التهكّم، وتحويله إلى "ميمة" جديدة من عالم حيتان التقنية والأعمال، صار خلالها ينطق بلهجة مألوفة لنا ويقول: "أنا معنديش حاجة ببلاش! هتدفع هوريك اللي مشوفتوش".
القصّة كما باتت معروفة اليوم هي أن إيلون ماسك، علوان لو أحببت، قد قرر بحسبه مواجهة تغوّل شركات الذكاء الاصطناعي على بيانات المنصّة ومستخدميها، وذلك عبر وضع قيود مؤقتة على عدد التغريدات التي يمكن لأي حساب قراءتها.
وبموجب التغييرات الجديدة التي فرضها الرجل الذي استحوذ على الشركة في صفقة عجيبة العام الماضي مقابل 44 مليار دولار، سيحق لصاحب الحساب غير الموثق عرض 600 تغريدة في اليوم فقط، وسينخفض هذا الرقم إلى 300 تغريدة في حال كان الحساب "جديدًا". أما الحدّ الأعلى المتاح للحسابات الموثقة فيبلغ 6000 تغريدة يوميًا، وسيرتفع قريبًا إلى 8000 تغريدة.
وقد سبق هذه التغييرات حالة من الفوضى على المنصّة، بعد أن جرى حظر عرض التغريدات من خارجها، أي إن لم يكن المستخدم قد سجّل دخوله إليها، في خطوة تهدف كما يدعي الرجل إلى الحدّ من قدرة الشركات التقنية الأخرى على تنجيم البيانات التي يلقيها المستخدمون في أرض تويتر الخصبة، وهي عمليات ترى إدارة تويتر الجديدة أنها "شرسة" وذات أثر سلبي على تجربة مستخدمي المنصّة.
لكنّ المسألة كما يراها مختصّون تتعدّى العناية بتجربة المستخدم، وتنمّ في جوهرها عن رغبة جامحة بالدفع السريع نحو اعتماد نسخة مدفوعة من المنصّة وفرضها عبر سياسة الأمر الواقع، وهي آليّة يفهمها المستخدمون في المنطقة العربيّة ويعرفون مآلاتها جيدًا، وهو ما يفسّر ربما هذه الحالة الواسعة من الاعتراض المصحوب بالتهكّم على قرارات صاحبنا "علوان"، وهم يدركون أنّه ليس ثمّة بديل بين أيديهم.
لكن هل بتنا حقًا بلا بديل؟
في العام 2021، قررت "لينكدإن" إنهاء نشاط المنصّة في الصين، لتكون بذلك آخر شركة أمريكية كبرى في هذا القطاع تعلن انسحابها من تلك السوق الكبرى، رغم أنها كانت تقدّم نسخّة موطّنة من التطبيق للمستخدمين هناك، والذين تجاوزت أعدادهم 50 مليون مستخدم في ذلك العام. المنصة المملوكة لعملاق التقنية "مايكروسوفت"، والتي تتجاوز إيراداتها السنوية 10 مليارات دولار، ادّعت أنها واجهت الكثير من التحدّيات والمتطلّبات التنظيمية من الصينيين، وأن ذلك حال دون نموّ أنشطتها المحليّة منذ انطلاقها هنا في العام 2014. لقد كانت لينكدإن هي "الشعرة" الأخيرة لأي حضور أمريكي مباشر في مشهد منصات التواصل الاجتماعي والمهني في الصين، وقد أعقب انسحابها ربكة في واشنطن حينها، إذ عبر الرئيس الأمريكي عن انزعاجه من المصير الذي واجه الشركات الأمريكية العاملة هناك، واتّهم بكين بدعم ما وصفه بعمليات القمع وتكريس السياسات الشمولية والتضييق على الشركات الأجنبية.
إلا أنّ النحيب على رحيل لينكدإن وغيرها من الشركات لم يسمع صداه في الصين، وليس ذلك فقط بسبب ما في تلك البلاد من رقابة صارمة على شبكة الإنترنت عبر سلسلة الضوابط التشريعية والفنيّة التي تعرف باسم "جدار الحماية العظيم"، والتي تمنح الجهات الرقابية الحق في حظر وتصفية المحتوى، وترخيص التطبيقات أو حجبها، بحسب ما تقتضيه المصالح الوطنيّة، بغية تحصين النقاش الرقمي العام في الصين ضدّ تحيّزات الشركات الغربية الكبرى وخوارزمياتها،(وهو أمر ليس ببعيد كثيرًا عن رغبة الأمريكيين المقابلة في حظر كلّ ما هو صينيّ في بلادهم، خشيّة من التأثير في الرأي العام أو التدخّل في الانتخابات). ليس هذا سببًا وحيدًا يساعد في تفسير انسحاب منصّة "عالمية" كبرى، دون كثير من الجلبة محليًا في بلد يتجاوز عدد سكانه 1.3 مليار نسمة، من بينهم زهاء 900 مليون مستخدم لمنصات التواصل. وليس أمامنا هنا سوى أن نفترض أن السوق مشبعة ببدائل محليّة، تغني المستخدم الصينيّ عن الارتهان لشركات أجنبيّة ذات أجندة ربحيّة لا تقنع بأقل من الهيمنة المطلقة على السوق، وضمن بيئة تشريعية ناظمة معنية بإتاحة الفرصة لنموّ شركات وطنيّة تقدّم منتجات رقمية مبتكرة ضمن بيئة تنافسية عادلة بعيدًا عن سطوة رأس المال الأجنبي، وربما تساعد في المحصّلة في استقرار النظام وفرض سرديّات بعينها وتفنيد أخرى مغالطة.
تتكرّر نسخة مشابهة من هذه القصّة في روسيا، حيث تتوفّر فيها أيضًا منصّات بديلة عن تلك التي تم حظرها أو توقفت خدماتها في روسيا خلال الأشهر الماضية في أعقاب الاجتياح الروسي لأوكرانيا. ورغم أن التجربة الروسية في هذا الصعيد أقل نضجًا وتطوّرا من تلك التي شهدتها الصين خلال العقد الماضي، وبصرف النظر عن جودة المنتجات البديلة من تطبيقات المحادثة أو منصات الفيديو أو تطبيقات المواعدة والتواصل الاجتماعي، إلا أنّ البدائل قائمة، ولها قاعدتها المعتبرة من المستخدمين، وتتمتع بدعم متزايد رسميًا، لما تمثّله في الحالة الروسية بطبيعة الحال من إمكانات في حرب البروباغاندا والدعاية السياسيّة والتضليل الإعلامي في سياق الحرب الدائرة في أوكرانيا، والنزعة السلطويّة المعروفة لدى النظام.
إلا أن هذه التطبيقات البديلة التي تتزايد عددًا وشهرة لا تنحصر في أسواق دول ذات علاقات متوترة مع الولايات المتحدة أو الغرب، بل نجدها في أسواق كبيرة أخرى، في كوريا الجنوبية، واليابان، والهند وغيرها، إذ نجد فيها جميعًا تطبيقات محليّة ناشئة ذات قدرة على الاستمرار والمنافسة، وتمنح في أسوأ الأحوال إمكان الضغط على المنصّات السائدة الكبرى للحفاظ على مستوى مقبول من الخدمة وعدم التعريض بمصلحة المستخدمين والتلاعب بها، كما نشهد في هذه الدول وغيرها، مثل تركيا وألمانيا محاولات تشريعية يمكن لها، رغم مشاكلها واحتمال استغلال للتضييق على حرية التعبير، تنظيم عمل منصات التواصل الاجتماعي الكبرى وكبح قدرتها على الترويج لخطابات العنف والتطرف والكراهية.
أمّا عربيًا، فيغيب البديل ويستمر تهميشه كخيار ضروري رغم المشاكل الكبرى التي يعانيها المستخدمون، من تضييق على المحتوى العربي والترويج للمحتوى العنيف والمخلّ والمتطرّف، دون اعتبارات للفئة العمرية للمستخدمين حتى بين الأطفال واليافعين، وتعاظم التأثيرات السلبية لهذه المنصات اجتماعيًا وسياسيًا حيث تنمو بلا رقيب ولا حسيب. ويتواصل غياب البدائل رغم الحاجة المتعاظمة إليها، والإمكانات الكبيرة لنجاحها وتطوّرها، في سوق كبيرة يتجاوز عدد مستخدمي الانترنت فيها 70 بالمئة من مجموع عدد السكّان، ويصل إلى أكثر من 97 بالمئة في أقطار عديدة، ولاسيما في منطقة الخليج العربي.
يتجدّد بين حين وآخر الحديث عن الحاجة لبدائل عربيّة مقنعة في هذا القطاع المتقلّب والملغوم بالعديد من الإشكالات التشغيلية والأخلاقية العويصة، وبعد التضييق الأخير على رواد منصّة تويتر، والدفع الفجّ للمستخدمين للاشتراك في النسخة المدفوعة، تصاعدت، عبثًا، الدعوات للرحيل عن التطبيق وعدم الارتهان لنزوات مالكه الجديد، رغم إدراك الجميع أن الخيار لا يعدو عن رحيل من تحت "دلف" تويتر إلى تحت مزراب فيسبوك أو إنستغرام أو تيك توك، وأنّ المستخدمين العرب قد تُركوا من غير بدائل جريئة، عدا عن منصّة وحيدة هي منصة "باز"، التي برزت في السنوات الأخيرة كأول منصّة تواصل اجتماعي عربيّة متطوّرة وآمنة نسبيًا، وتمثّل في مثل هذه السياقات بارقة أمل في استمرار هجرة المستخدمين العرب إليها، ووضعها على محكّ التجربة والاختبار، في واقع عربي شديد التعقيد والحساسية.