تبدّلت هويات الأعياد والطقوس الموسمية في سوريا عمّا كانت عليه قبل أن تشهد البلاد ما شهدته، فلَم تعد فرحة العيد مثلًا بقدومه بقدر ما هي الفرحةٌ بخفض التقنين الكهربائي اليومي لساعتين أو ثلاث. ولم يعد السلوك الجمعي مقتصرًا على المناسبات المجتمعية أو الدينية، إذ اتخذت مشاركات السوريين في الحيز العام ذلك الطابع أيضًا، فمثلًا لم يعد الشحّ "المفاجئ" للمحروقات قبل ارتفاع أسعارها قبيل الشتاء من كل عام يحمل عنصر المفاجأة، والأهم، أنه لم يعد موضوعًا للاحتجاج، بل مجرد "حلقة" جديدة من موسم القرارات الحكومية السنوية التي يتفاعل معها متلقّوها عارفين بتكرارها في الموسم -أو العام- القادم.
أحد هذه الطقوس صار يتكرر في شهر حزيران/ يونيو من كل عام، مع صدور التقرير السنوي الصادر عن وحدة المعلومات في مجلة الإيكونوميست البريطانية حول أكثر وأقل مدن العالم مواءمةً للحياة، وربما الشيء الوحيد الذي لم يتغير في دمشق خلال العقد الأخير هو تذيُّلها ترتيب ذلك التقرير منذ عام 2013، وردات الفعل تجاهه.
في كل عام، يتلقى السوريون ذلك الخبر تمامًا كما تلقّوه أول مرة، فمنهم من يلقي باللوم على النظام الحاكم وشركائه الدوليين، ومنهم من يلقي بمسؤولية ذلك على أمراء الحرب (الذين أسمتهم الحكومة بشكل غير رسمي بـ "دواعش الداخل"، على اعتبار أن "داعش الأصلية" صنيعة مؤامراتية خارجية زرعها الغرب ولم تنبت من بين نخور المجتمع)، بينما لا يحتاج نُزلاء المدينة المقيمين بها تذكيرًا بما يعرفونه ويختبرونه يوميًا في أصغر تفاصيلهم، فيسخرون منه أو ينحبون بما تتيحه لهم الدقائق، ويكملون بعدها دفع صخرة سيزيف.
لا شكّ أن معايير الإيكونومست لتقييم المدن هي ما يجب أخذه بعين الاعتبار لتقييم أي مدينة، بجانب عوامل أخرى قد تختلف بين مدرسة فكرية وأخرى، لكن ما معايير المجلة لاعتبار المدينة مدينة حقًا، وهل من المنصف تصدّر دمشق لمؤشر قد لا تمتلك مقومات الانتماء إليه في المقام الأول؟
في تقرير الإيكونوميست لهذا العام، أوضحت المجلة أن "الظروف المعيشية في المدن في جميع أنحاء العالم تعافت تمامًا من التدهور الناجم عن جائحة كورونا". وصنفت ظروف المعيشة في 173 مدينة عبر خمس فئات: الاستقرار والرعاية الصحية والثقافة والبيئة والتعليم والبنية التحتية، وأشارت في تقريرها أيضًا إلى أن الحياة في المدن أفضل قليلًا مما كانت عليه في أي وقت في آخر 15 عامًا.
لا شكّ أن معايير الإيكونومست لتقييم المدن هي ما يجب أخذه بعين الاعتبار لتقييم أي مدينة، بجانب عوامل أخرى قد تختلف بين مدرسة فكرية وأخرى، لكن ما معايير المجلة لاعتبار المدينة مدينة حقًا، وهل من المنصف تصدّر دمشق لمؤشر قد لا تمتلك مقومات الانتماء إليه في المقام الأول؟
بحسب كارل ماركس وشريكه فريدرك إنجلز، فإن المدينة هي المكان الذي يكتسب فيه الأفراد حريتهم في تنظيم أنفسهم تبعًا لمبدأ الملكية في إطار الهيئات الحرفية، كما أنها مكان العمل الفكري التنظيمي، لا اليدوي. وعلى عكس القرية، فإن الأفراد في المدينة غير مشتتين داخلها، فهم متجمعون ومنظمون.
تسقط تلك النظريات في السياق الدمشقي، فالهيئات الحرفية من نقابات وجمعيات هناك تتبع لاتحاد مركزي، هو الاتحاد العام لنقابات العمال، تنتسب إليه جميع النقابات بشكل إلزامي، ورئيس الاتحاد هو دومًا عضو قيادي في الحزب الحاكم الذي يتحكم بأنشطة الاتحاد من خلاله. كما تقرر وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي تشكل بوضوح جزءًا من الحكومة، نسب التمثيل وتوزيع مقاعد مؤتمر الاتحاد الذي يعتبر السلطة العليا فيه، وكذلك كيفية توظيف أموال النقابات.
أما الاتحاد فيقرر بدوره في أي من القطاعات الصناعية يجوز تأسيس النقابات أساسًا، وعلاوة على هذا يستطيع أن يقيل قيادة أية نقابة فرعية إن شاء ذلك. إلا أن الدولة والحزب لا يتحكمان فقط في توزيع المناصب النقابية، بل يحّدان من أنشطتها أيضًا. فعلى وزارة العمل أن توافق على جميع عقود العمل والأجور التي تتفق عليها النقابات مع أرباب العمل ليسري مفعولها، ويلاحَق قانونيًا كل من ينظم إضرابًا غير مرخص له.
فمن الواضح أن هذه الشروط لا تقوّض فقط طرح ماركس حول "حرية الأفراد في تنظيم أنفسهم" في المدينة، بل تجعل النقابة في هذه الحالة لا تعدو أن تكون أداة مراقبة وحزمة قيود إضافية في المجتمع.
أما إيميل دوركايم، فتطرق هو الآخر إلى المدينة ضمن إطار علم الاجتماع، وفي كتابه "تقسيم العمل الاجتماعي" يلاحظ أن تأثير التقاليد يكون أقل ما يمكن أن يكون في المدن، إذ إن المدن الكبيرة هي أمكنة التقدم "ففيها تتبلور الأفكار والموضات والعادات والحاجات الجديدة، لكي تنتشر فيما بعد في باقي البلاد عندما يتغير المجتمع. فعمومًا ينطلق التغير من المدن، وخاصة المدن الكبرى، التي يحاكيها باقي المجتمع".
ولا تنتهي الأمثلة التي تقف فيها دمشق وتضرب بهذا التعريف أيضًا عرض الحائط، وبما أن المقال لا يتّسع لتفنيد التاريخ المجتمعي للمدينة، يكفي ذكر آخر الأمثلة عندما خرج أحد محامي المدينة منذ أيام لـ "يهنّئ" الناس على إتمام التعاون والتنسيق بين عددٍ من المحاكم وقضاة التحقيق وقسم الجرائم المعلوماتية و"النجاح" بإلقاء القبض على مجموعة من الشبّان الطائشين الذين شاركوا في رمضان الماضي صور طعامهم وشرابهم في ساعات النهار كنوعٍ من التمرّد على السائد، في الوقت الذي يستطيع فيه أي دمشقي ذكر خمسة أسماءٍ على الأقل من سالبي روح المدينة، إلا أنهم أحدًا منهم لا ينتهك العقد الاجتماعي لتتحرك الأجهزة القضائية نحوه.
ربّما اختارت دمشق في نهاية المطاف محاباة تعريف ماكس فيبر، الذي لطالما حاول تفنيد التحليل الماركسي الأحادي لظاهرة نشوء المدن وتطورها، وقد يرجع ذلك إلى أن دمشق رأت، بملامحها التي لم تعد واضحة، نفسها في تعريف المدن الذي وضعه في كتاب "المدينة"، الذي لم يكن محددًا أو واضحًا، وفي محاولته لتعريف مفهوم المدينة يقول بأنه من وجهة النظر السوسيولوجية لا يوجد تعريف واحد للمدينة.
وعندما أراد صياغة تعريف نموذجي للمدينة قال: "يمكننا تعريف المدينة بطرائق متعددة، وكل التعاريف تشترك في نقطة واحدة وهي أن المدينة لا تكمن في سكن واحد أو سكنات متعددة منتشرة بشكل مبعثر، إنها تتشكل على كل حال من السكن المتجمع، وفي المدن تبنى الدور بالقرب من بعضها البعض، والقاعدة العامة هي أن تبنى المدينة حائطًا لحائط"، وهو ما يراه الناظر إلى دمشق التي غدت كلوحةٍ مصنوعةٍ من قطع "ليغو" خرسانية ركّبها طفلٌ لم يتعلّم مطابقة الأشكال بعد.
وعليه، ربما ما زالت الإيكونوميست تنظر إلى دمشق بعين الأم التي ترفض تصديق أن العائد من الحرب لم يعد ابنها الذي ذهب إليها قبل سنوات، لكنها تستمر بذلك في ظلم مؤشرها. وإلى أن تحدث معجزةً تجعل هذه البقعة تقبل بتعريف المدينة، ستبقى بوصلة نزلائها، وقبل كل شيء، مقابس الكهرباء التي تعمل كل بضعة ساعاتٍ، ساعة واحدة، ولن يكون هناك مكانٌ للسوسيولوجيا الحضرية أمام فرصة تحصيل غالون محروقات يُدّخر لبرد الشتاء.