في مدخل مقر الاعتصام قبالة وزارة الدفاع السودانية، كانت سارة طالبة الفنون الجميلة تتنقل بين الخطوط والألوان بخفة متناهية، تبدو منهمكة في وضع اللمسات الأخيرة لآخر أعمالها. عانت سارة كثيرًا في رسم وجه الشهيد عبد العظيم، أحد أبرز شهداء الثورة السودانية، دون أن يخالط تفكيرها بأن ثمة لوحة تستعصي على الإلهام، وإنما كانت تحاول استعادة موته بمؤثرات أجوائها الإنسانية والبطولية.
بعد شهرين من سقوط نظام البشير، باتت أسوار وحيطان قيادة الجيش والمباني المجاورة مزدانة بالرسوم والكتابات
المكان داخل ساحة الاعتصام أشبه بمعرض على قارعة الطريق، مفتوح على مرأى الجميع وهو يغص بوجوه الشهداء، وخيبات الثورة وانتصاراتها، وعلى الجدران البيضاء صور وكتابات بكافة أنواع فن الجرافيتي، تتدرج وفق التقويم الزماني لشعارات الثورة "تسقط بس، سقطت تاني، لم تسقط بعد"، وأخرى معلقة عليها صور الرئيس المخلوع عمر البشير، يبدو كما لو أنه مصاص دماء، وتحته مباشرة عبارة "لن ترتاح يا سفاح".
اقرأ/ي أيضًا: الثقافة في السودان.. وزارة مهملة وقبيلة ضائعة
قالت سارة لـ"ألترا صوت" إنها تخشى أن تغادر المكان وعندما تعود الصباح لا تجد هذه اللوحات التي تجسد يوميات الثورة السودانية في مكانها، وهي تأمل أن يضع فريق التفاوض مع المجلس العسكري الحفاظ على اللوحات من الدمار والضياع في أجندة الحوار، بحيث يصبح معرضًا دائمًا للزوار، لا تتم إزالته، أو يكون عرضة لتقلبات الطبيعة. بينما كانت ثمة صورة أيضًا طافحة في اللون الأخضر للنقيب حامد، الذي تصدى للقوات الأمنية عندما حاولت فض الاعتصام، فأصابته رصاصة على كتفه الأيمن، وأصبح أيقونة للثورة، ورمزًا للضباط الذين انحازوا باكرًا للإرادة الشعبية.
بعد شهرين من سقوط نظام البشير، باتت أسوار وحيطان قيادة الجيش والمباني المجاورة مزدانة بالرسوم والكتابات، التي تجسّد أشعار وحكاوي ودماء الثورة المسفوحة على الإسفلت، منطقة هائلة من الجمال المرئي، وتمكن التشكيلون من كافة الأعمار من وضع مواهبهم قيد دهشة الزوار.
بينما جلس الأطفال أيضًا وهو يستعرضون ولعهم بالرسم والألوان والكتابة بالبخاخات على الحيطان، فاقتسم ساحة الاعتصام هواة ومحترفون، وحدت بينهم الرغبة في توثيق اللحظات الأكثر وطنية، وكان للكنداكات نصيب وافر من هذا العرض الدائم، أبرزهم آلاء صلاح، التي اشتهرت عالميًا كأيقونة للثورة، وفتاة ضاحية شمبات، رفقة عبد الرحمن، الشهيرة بـ"صائدة عبوات الغاز المسيل للدموع" بجانب عشرات القصص والشوارع، وأبطال النفق، وكذلك حُرّاس المتاريس، الذين يمنعون تسلل القتلى خلسة إلى ساحة الاعتصام.
منذ أيام يعكف التشكيليون في ساحة الاعتصام على رسم لوحة جدارية من القماش يبلغ طولها ثلاثة آلاف متر، كأطول لوحة في العالم، للعبور إلى موسوعة "غينيس" تجسد التضحيات التي منحت الشعب السوداني الخلاص، ومن المؤمل أن تتضمن اللوحة، المرسومة من ألوان إكيريليك تفاصيل أوفى عن مطالب الثورة، دون أن تتجاوز أحلام الرجال والنساء، بطن يسع الجميع، علاوة على أنها تضم توقيعات على دفتر الحضور الثواري.
ثمة جدارية عالية تعرضت للمسح في إحدى الليالي، مما أثار قلق المهتمون بالفن التشكيلي داخل ساحة الاعتصام، وأبدى الفنان عمار جمال مخاوفه من ضياع تلك الجداريات، أو ضياح الحقوق الأدبية لأصحابها، فكتب تدوينة على صفحته بالفيسبوك قائلًا: "نحن بحاجة أن نستغل فرصة النقاش حول الجدارية التي تعرضت للمسح، ونقوم بتسجل الجداريات والغرافيتي، باسم أصحابها في الملكية الفكرية"، مبررًا الخطوة بمنع التغول عليها باسم نظافة الفضاء العام.
يعكف التشكيليون في ساحة الاعتصام على رسم لوحة جدارية من القماش يبلغ طولها ثلاثة آلاف متر، كأطول لوحة في العالم
وأضاف عمار: "الملكية العامة للفضاء العام والتشاركية في استخدامها واحدة من المؤشرات الحيوية للحضارة في مستواها الروحي والمادي".
اقرأ/ي أيضًا: تآكل المسرح السوداني.. مسرحية "ملف سري" في مواجهة السُلطة
ليست ساحة الاعتصام فقط، وإنما انتشر الفنانون التشكيليون ليزينوا كافة شوارع وجسور العاصمة الخرطوم باللوحات، وأحيانًا بالألوان والكتابات الحالمة، في محاولة للانتصار على القبح وإشاعة الجمال، وبدت الخرطوم في كامل زينتها منذ بداية شهر رمضان، مما خلق إرثًا بصريًا للانتفاضة المستمرة، تتحسه بمجرد العبور، على النحو الذي وجد تفاعلًا وتشجيعًا من الجميع.
اقرأ/ي أيضًا: