يسعى رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، إلى إرساء علاقات جديدة مع أوروبا أكثر إيجابيةً. وضمن هذا المسعى تتنزّل الجولة الأوروبية التي بدأها خلال اليومين الماضيين، وشملت كلًّا من فرنسا وألمانيا وشهدت توقيع وعقد اتفاقياتٍ جديدة شملت مجالات الدفاع والهجرة وأمن الطاقة والتكنولوجيا عقب لقاء كل من المستشار الألماني أولاف شولتز في برلين، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الإليزيه.
لكنّ جولة ستارمر أيضًا دقت ناقوس الخطر بشأن مجموعة من الظواهر التي تواجه أوروبا، وفي مقدمتها خطر اليمين المتطرّف الذي ذاقت بلاده بريطانيا مؤخرًا من كأس مراراته.
وفي حين كانت مخرجات الجولة محط إشادة من طرف حزب "الديمقراطيين الليبراليين"، خاصةً منها الجانب المتعلق بملف "تنقل الشباب داخل الاتحاد الأوروبي"، فإنها تعرضت لانتقادات شديدة من طرف "المحافظين" الذين يرونها تمثل تهديدًا بالنكوص عن استقلال بريطانيا ومغادرتها "بريكست".
توحيد الجبهات في مواجهة اليمين المتطرف
في ألمانيا، التي كانت أولى محطاته الأوروبية، حرص كير ستارمر على إبداء خشيته من صعود اليمين المتطرف في المملكة المتحدة، حاضًّا الأحزاب التقدمية في أوروبا على توحيد الجهود لمكافحة الشعبوية.
وعقب اجتماع عقده مع شولتز في برلين، قال ستارمر: "أعتقد أنه يجب أن نكون في المملكة المتحدة على مستوى تحدي اليمين المتطرف والشعبوية والقومية"، مضيفًا القول: "إن لقلقي أسبابًا عدة، يتّصل بعضها بما يحدث في المملكة المتحدة، وبعضها بما ترونه يحدث في بلدان أوروبية أخرى، بما في ذلك فرنسا وألمانيا".
يتهم المحافظون ستارمر بأنه أمضى حياته السياسية بأكملها في التخطيط لعكس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
اتفاقية تنقل الشباب داخل الاتحاد الأوروبي
جذبت اتفاقية تنقل الشباب داخل الاتحاد الأوروبي اهتمام الصحف البريطانية في تغطيتها لجولة ستارمر الأوروبية، بعدما وردت أنباء عن إمكانية عقد اتفاقيةٍ جديدة تتعلق بتنقل الشباب داخل الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا الصدد، قال ستارمر في مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني أولف شولتز: "إن المملكة المتحدة ليست لديها خطط للانضمام إلى مخطط تنقل الشباب في الاتحاد الأوروبي"، لكن ستارمر قال إنه: "لم يستبعد بشكل واضح إنشاء نوعٍ من النظام للارتباطات الأخرى، على سبيل المثال تبادل الطلاب".
وقال ستارمر بعد المؤتمر الصحفي إنه: "لم تتم مناقشة أي شيءٍ من هذا القبيل خلال اجتماعه الثنائي الطويل مع شولتز في المستشارية الفيدرالية في برلين، حيث كان التركيز على العلاقات الثنائيّة بدلًا من الروابط الأوروبيّة الأوسع". لكنه أضاف: "نريد علاقةً وثيقة، بالطبع، وأعتقد أن ذلك يمكن أن يمتد عبر الدفاع والأمن والتعليم والتبادل الثقافي، وبالطبع التجارة".
وعندما طُلب من ستارمر في برلين استبعاد أي نوع من مخططات تنقل الشباب بشكل صريح، والتي بموجبها يمكن للشباب من داخل الاتحاد الأوروبي العيش والعمل والدراسة لفترةٍ محدودة في المملكة المتحدة، مع حقوقٍ متبادلة للشباب البريطانيين، لم يفعل ستارمر ذلك، وقال: "ببساطةٍ إن أي محادثات مستقبليّة مع الاتحاد الأوروبي بشأن صفقةٍ محسنة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستستند إلى خطوط حمراء بما في ذلك عدم العودة إلى حريّة تنقل الأشخاص. حرية التنقل ليست هي نفسها التبادلات المحدودة زمنيًا".
وأضاف ستارمر: "المعاهدة هي معاهدةٌ ثنائيّة، لذلك لا علاقة لها بتنقل الشباب أو أي شيء من هذا القبيل. هذا يتعلق بالتجارة والدفاع والاقتصاد والهجرة غير الشرعية وما إلى ذلك". أمّا في ما يتعلق بتنقل الشباب، فقال ستارمر: "من الواضح أننا كنا واضحين حقًا، لا سوق واحدةً، ولا اتحاد جمركي، ولا حرية تنقلٍ، ولا عودةً إلى الاتحاد الأوروبي. لذا فإن المناقشة حول علاقة وثيقة داخل الاتحاد الأوروبي أو معه تأتي في هذا السياق وداخل هذه الأطر".
واختتم ستارمر زيارته لبرلين بإصدار الحكومتين ما أطلق عليه اسم "إعلان مشترك بشأن تعميق وتعزيز العلاقات بين المملكة المتحدة وألمانيا"، وهو ما يمثل، حسب متابعين، مقدمةً لاتفاقٍ رسمي واعد يستند إلى مجالات تشمل الدفاع والهجرة، ومن المقرر الاتفاق عليه في غضون الأشهر الستة المقبلة. وقال الإعلان إن هذا الاتفاق: "سيعكس مكانتنا كأقرب الشركاء في أوروبا، مع أقوى تعاونٍ ثنائي ممكن بشأن القضايا الأكثر أهمية لشعوبنا".
إشادات وانتقادات
وحظيت جولة ستارمر الأوروبية ومخرجاتها أيضًا باهتمام الكتل النيابية في مجلس العموم البريطاني، حيث أشاد بها البعض، فيما انتقدها آخرون كُثر. وقال حزب "الديمقراطيون الليبراليون"، الذي يمثل الكتلة الثالثة في البرلمان، إن محادثات ستارمر بشأن المعاهدة مع المستشار الألماني شولتز كانت: "خطوةً إيجابية إلى الأمام"، لكنه دعا الحكومة إلى أن تكون "أكثر طموحًا".
واعتبرت المتحدثة باسم الشؤون الخارجية في حزب "الديمقراطيين الليبراليين" ليلى موران، أن مثل هذا الطموح يجب أن: "يبدأ بالموافقة على مخطط تنقل الشباب الذي يمنح الشباب الفرصة للعيش والعمل بسهولة عبر القارة".
على الطرف الآخر انتقد حزب المحافظين ستارمر باعتباره: "يحاول إعادة علاقاتٍ وثيقة مع الاتحاد الأوروبي بطريقة قد تؤدي إلى تراجعٍ عن استقلال بريطانيا بعد البريكست".
وفي هذا السياق، أعرب عدد من السياسيين: "عن مخاوفهم من أن ستارمر قد يخطط للعودة إلى نوع من التبعية للاتحاد الأوروبي تحت غطاء برامج مثل اتفاقيّة تنقل الشباب"، فيما يتخوف أنصار بريكست من أن مثل هذه الاتفاقيات: "قد تكون خطوةً نحو إعادة التفاوض على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بطريقة تتعارض مع روح البريكست، والتي كانت تهدف إلى استعادة السيطرة الكاملة على الهجرة والسياسات الأخرى".
وفي سياق الانتقادات، اتهم وزير الاقتصاد في حكومة الظل المحافظة كيفين هولينراك رئيس الحكومة كير ستارمر: "بالتقرب من السياسيين في ألمانيا والدعوة إلى علاقة أوثق مع أوروبا". وأضاف في تصريحات له: "لقد أمضى ستارمر حياته السياسية بأكملها في التخطيط لعكس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لذلك لا يتطلب الأمر عبقريًا لمعرفة إلى أين تتجه حكومة حزب العمال الجديدة" وفق تعبيره.