آنَ كنتُ أشبهُ طبيبًا ثائرًا بحظّ وفيرٍ من الوسامةِ وقليلٍ في الأيام، أو ربّما رجلَ عصابةٍ من أمريكا اللاتينية، عشقتني امرأةٌ سمراءُ، تتقلّبُ بين الثقافاتِ والأديانِ، تبدعُ منطقَها الخاصَّ من جسدِها وعقلها، ولها أنا وفلاسفتُها وحرّاسُ معبدِها وعلَلّها، وكانَ ثوبُها حديقةُ طواويسٍ مزركشٌ، يمسحُ الأرضَ ويَسحلُ المعنى خلفَها. وكنتُ آنَها أتَدَرّجُ من الأميّةِ إلى الغريبِ إلى المتعالي على ما لا يعرفُ، بدءًا من زرادشت والسهروردي، انتهاءً بعَدي بن مسافر وإرنستو تشي غيفارا، مقطوعًا - هذا النقصِ المكشوفِ- عن شجرةِ المعرفةِ والأنباء، فأجهلُ أيضًا من هو بابلو إسكوبار، أو ورثَتَهُ من فقراءِ الزهزهةِ، حتى أني اخترتُ شجرةَ عنبٍ من (تشيكيتانيا) شرق بوليفيا لتكونَ اسمي وحصةَ نبيذي المُسكِرةِ على الدوام، ومن ظلالِها ينحدرُ نَسبي، فأخلصُ بذلكَ من لعنةِ الأنساب.
حينَ كنتُ أشبهُ فارسًا بدويًا، جاءتني رائحةُ ملفعٍ خامتهُ من الكشميرِ، تسكنهُ رائحةُ امرأةٍ، يَستقي الشِعرُ من حُلمةِ نهدِها ماءَهُ، ولمْ أكُن في هذهِ الضَرارةِ الحميدةِ جنيًّا يخرجُ من كتابِ "شمس المعارف"، بل طيفَ راعٍ من الأهواءِ يَهزُّ طرفَ الخديعةِ للذئابِ ليؤنَسَ بعويلِها ويحمي قطيعَ شياهِهِ بهذهِ الأخوّة، ولُه فرسٌ ساحرةٌ تربطُ أوروبا بخطِ أفقٍ في الجنوب، وكانَ عليَّ أن أكونَ ليّنَ القبيلةِ ووِرْدَها، فَتردنُي الظعونُ عابرةً إلى خطّ المطرِ ولَمعِ البروقِ وعَنينِ الرباباتِ.
حينَ كنتُ أميرًا للعراءاتِ الفسيحةِ ورسولَها المارقَ، تعرّفتُ شاعرًا صعلوكًا اسمه عروة بن الورد، وزعتُ معهُ الزادَ علىَ الخيّم، وعشتُ قصصَها الحزينةَ في غيابِ العدالة، وكنتُ سريعًا لأتماشى مع عَدو الشنفرى وأنسى، فيخالطُني الغزالُ والوحشُ وأأنسُ لهما، وأنفرُ من سارقي خبزِ أهلي وأحلامِهم، وآنَ كثُرَ التزاوجُ والتبستُ أشجارُ العائلاتِ فيما بينها، قرأتُ سيرةَ تأبّطَ شرًّا مكثّفة في: "أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم/ فَإِنّي إِلى قَومٍ سِواكُم لَأَمَيلُ"، حين لم انتسبْ إلّا إلى قبيلةِ الأصدقاءِ، فشمختْ خيمتي بالنافعين، واسّاقطَ الطارئون!
وإذ كنتُ أتلَبّسُ روحَ امرأةٍ في البراري، وأعوّلُ على الأنوثةِ بما لا يخرقُ صورةَ الفَحلِ الذي أنا، اقتربتْ من ناري كائنةٌ خلاسيةٌ، تعزفُ للطيورِ وتأخذُ آلتَها ولحنَها من شجرٍ مَسحورٍ، وكانتْ الحديقةُ الناجيةُ ابنةَ قصرِ الحمراءِ الأندلسي، حيثُ السيدة ولادة بنت المستكفي، تفتكُ بالشعراءِ، وتغوي الأمراءَ بجملةٍ شهيةٍ في أذيالِ ثوبِها، وكانَ ثَمّةَ فارسٌ من شمعٍ نادرٍ يسترجعُ ذاكرتَهُ، بينما أحفظُ دنانيرَ المَهرِ في خِزانةِ المُلكِ، وأسيّرُ قافلاتِ الخُطّابِ إلىَ مَلكٍ لا يرضى، ولكن ظفرتُ بالمرأةِ والخزائن والموسيقا والسحرِ الأبيضِ وروحِ ملك. وها أنا كائنٌ مختلفٌ وقبري غدًا سَيسَعُ اثنين!
ولحظَةَ صرتُ أشبهُ من أحبُّ، تراءى لي أني أشبُهُ السماءَ أيضًا أزرقٌ فاتحٌ وغيمةٌ بيضاءُ، ولي حصتي من سُحنةِ الأرض والأقماحِ ولونِ الزيّ العسكري، لكني كنتُ صغيرًا مثلَ جُرمٍ صغيرٍ، وكانَ الهواءُ يمرُّ بي ضيفًا طارئًا، فيتخلخلُ الضوءُ في عيني حتى أفقدهُ، وأصيرُ أتلمّسُ دربي بين النجومِ وغازِها، كأني الداخلُ الوحيدُ حيّزَ بريقِها المُعمي، آملًا أنْ أصلَ حُجْرَةَ الحقيقة - لو مبتورًا أو أعمى أو راويًا فاشلًا- وأقطعَ صلتي بالأحلام..
حينَ كنتُ أشبهُ عازفَ سنطورٍ فارسي، كانتْ رقعةُ الأوتارِ أمامي مثلَ حصةِ موسيقى، يخرجُ من أكمامِها ثعالبُ الألحانِ وذئابُ الكلام، وكنتُ أريدُ بمنطوقِ جلال الدين البلخي "ما تبحثُ عنهُ يبحثُ عنكَ"، أن أكلّمَ اللهَ في المساحةِ الشاسعةِ من حكمةِ المتصوّفِ ومن ألمي، راجيًا أن يُلقي القطنَ في فمِ جروحي فأنامُ. ولمْ أنم – ولو لحظةً- وتذللتُ الجروحَ ألّا تنامَ، كنتُ أريدُ أن أحيا متألمًا، شاعرًا بالذين يموتون من الوجع أو الجوعِ أو الخسران.
وكنتُ أشبهُ شاعرًا لا يجيدُ القراءةَ والكتابةَ، لكنّهم وصفوا حالَهُ: "بصقتْ الجنيّةُ في فمهِ صُرّةَ معنى"، فصارَ مُفوّهًا تنطقُ باسمهِ العلاماتُ الخافتةُ بين السطورِ، وكنتُ خَفاءَ هذا السِترِ الشفّافِ، أنسجُ مرثيتي بالذي سأتخلى عنهُ، وأدأبُ برغبةِ الموتِ -مَلَكتي الجديدة- لأكونَ جديرًا بحفرِةِ النهاياتِ وعَشيقًا أنيقًا للدودِ الذي سيأكلُ عينيّ أولًا. غير أني لم أمتْ في هذا المجاز المتطرّف، ولم أتذوّق بلسانِ روحي ترابَ الحقيقةِ وجمرةَ البحثِ عنها!
حينَ كنتُ أشبهني، وأرفعُ عن أرضي ظلَّ العَصَاري، وملحَ الحكاياتِ قربَ الجدارِ الشرقي للبيت، كنتُ أنظرُ للأفقِ بوصفهِ حدودَ بلدٍ، وللزرازير الخريفيةِ بوصفِها رسائلَ مبكرةٍ للتثاقفِ مع اللجوء الذي أسكنهُ. والآنَ آنَ لا أشبهُ أربعينَ طيفًا يتراءى في مرآتي، أتَحَسَّسُ كلَّ الوجوه كما أتحسَّسُ أنصالَ السكاكين التي عَبَرتني مثلَ الضوء، وتركتني لجروحي البسيطةَ داويتُها بالكحولِ والشَاشِ، والعميقةَ طلبتُ عونَ حبيبةٍ لها يدُ طبيبةٍ تُداوي بالحبَّ، وكنتُ في سريرِ الرضى أتظاهرُ بالموتِ، وأمرّرُ رسائلي إلى أعدائي، ليهنأوا ولو قليلًا.
حين كنتُ أشبهُني صغيرًا مثلَ شاهدةِ قبرٍ، وثقيلًا مثلَ جثةٍ، ولم أكن أرَ شخصًا سواي في مرآتي، تبعثرتُ زجاجًا صافيًا فوقَ الخريطةِ، وفوق أجسادِ أربعينَ شبيهًا لي، كانوا يتناثرون في الشروخِ وأثلامِ روحي، ويلتئمونَ في امرأةٍ تاريخيةٍ، كانَ لها من الشعريةِ نصيبٌ، ومن الجمالِ النَزقِ نصيبٌ، وكانتْ تتأنقُ لي وحدي، وتتركَ قطتَها الذكيةَ تنفخُ على الجمرِ ليتوهجَ أكثر، ويضيءَ السريرَ ودولابَ الملابسِ وطاولةَ المجوهراتِ والعطورَ والساعةَ السويسريةِ وكأسينِ فارغينِ من أثرِ النبيذ، كانا على إفريزِ النافذةِ المطلّة على جنةِ الداخلِ وطقسِ الخارجِ البارد. وكنتُ أضبطُ ساعتي على ساعتِها، فأتنقَّلُ عبرَ عقاربِها في الزمنِ من بلدٍ إلى آخر دون حقيبتي وتذكرتي وجوازَ سفري، لكن بطيورٍ كثيرةٍ تهاجرُ في رأسي من الدفءِ إلى البرودةِ وبالعكس.
وهاآنذا كنتُ أشبهُ نهرًا مُتعرّجًا جافًا ولا أشبهُ الأفعى
وهاآنذا لا أحيا في البلدانِ الكثيرة إلّا كفنادقَ تنقصُها الألفةُ
وهاآنذا كنتُ أبني في روحي بلدًا من الرملِ والماءُ يحيطُ بي
وهاآنذا جوّابُ أثرٍ مُعافى في الظاهرِ
وفي باطنهِ يُخفي عكّازتينِ من قلق.